للرجال الكبار شأن عظيم في تقرير مصائر الشعوب وفي كتابة تاريخها ورسم خريطة أوطانها.. وياسر عرفات هو أحد هؤلاء... بل هو في طليعتهم... لذلك ورغم مرور خمسة أعوام على رحيله فإنّه لا يزال حاضرا بالغياب... كأنه في «إجازة قصيرة»... صوته واضح النبرة... صورته ناطقة... ولا غرابة في الأمر فالرجل قضية.. وتاريخه الفصل الأوّل من محطاتها... لقد كان عرفات إنسانا عاديا في حياته لكنّه أخلص لشعبه ولقضيته بشكل غير عادي... وأنجز في هذا السبيل إنجازا غيرعادي.. فتمكّن من تحويل جموع من لاجئين تائهين إلى شعب مقدام ونجح في نقل هذا الشعب من المخيمات إلى الخريطة السياسية... خاض نضالا لا يلين طوال أكثر من نصف قرن على مختلف الجبهات... أعاد الحياة لفلسطين ولقضية شعبها في الوعي الإنساني... ومنذ ولادته حتى استشهاده كانت فلسطين على موعد مستمر معه.. فقد حملها في مسيرة حياته كلّها.. حملها وطنا وقضية... حملها والتصق بها إلى درجة صار فيها الإسمان مترادفين لعقود طويلة إن ذكرت فلسطين ذكر عرفات... وإن قلت عرفات قلت فلسطين... ولعلّ ظروف النشأة الأولى ل«محمد ياسر القدوة» هي التي صقلت شخصيته وأكسبته تلك القدرة الخارقة التي جعلت منه باعث الكيانية الوطنية الفلسطينية..وتلك النشأة أيضا في القدس وفي ملاعب الطفولة بين جنبات الحرم القدسي الشريف ومسجد قبة الصخرة وحائط البراق وكنيسة القيامة هي التي جعلت من القدس وأبقتها حبيبة.. عزيزة على قلبه وعقله... رفض التنازل عنها... فرفضت «التنازل» عنه حتّى دفع حياته ثمنا لوفائه لها.. استحضار الزعيم الغائب يفضي مباشرة إلى استنطاق مسيرة فلسطينية حافلة جسدتها تلك الكوفية الفلسطينية التي لم يتخلّ عنها «أبو عمار» في أي محفل من المحافل... إذ من الصعب الحديث عن عرفات بغير اليوميات الفلسطينية اللاهبة... من مقدمات «التاريخ العرفاتي» أنه جمع السلاح بأكرا لمقاتلي فلسطين من سيناء إبان الحرب العالمية الثانية... وأنه من مطلقي «الرصاصات الاستقلالية» الأولى عام 1965 وأنه من المقاتلين الأفذاذ في معركة الكرامة عام 1968.. تلك المعركة التي خاضها مع رفاقه لاستعادة بعض من ملامح الصورة العربية التي كادت «تكنسها».. النكسة.. من مقدمات «التاريخ العرفاتي» أيضا أنه كان المحاصر الذي لا يلين... تماما كالأسد في العرين... سواء كانت رقعة الحصار باتساع بيروت عام 1982 أو بحجم «زنزانة» برام الله في فلسطين... في حياته جملة من الأحداث الغريبة والأسرار التي يلتفّ بعضها على بعض مثل «عمامة تركية».. ومع أنه واحد من أكثر شخصيات العالم حضوا في وسائل الإعلام ومع أن أجهزة الاستخبارات الدولية طالما انكبّت على معرفة أدق تفاصيل حياته... إلاّ أن الكثير من الغموض لا يزال يلفّ بعض «الزوايا» في شخصيته المثيرة التي أثارت دهشة جلّ المراقبين إذ لا يكاد الدارسون يتفقون حتى على اسمه الأصلي وعلى اسم عائلته وأصولها.. كما أن مكان ولادته تضاربت حوله المعلومات بين مولده في القدس والحجاز والقاهرة... ويبدو أنه «تعمّد» ذلك ليحظى بهوية الشعوب العربية كلها... حياته كانت بسيطة جدّا بل شديدة التقشف.. كان يعمل كالنمل.. يصل الليل بالنهار والنهار بالليل... قبل زواجه لم يكن لينام في مكان واحد ليلتين متتاليتين ولم يكن أحد ليجرؤ على النوم إلى جانبه إلا «شبح الموت»... فقد «طارده» هذا «الشبح» طويلا... فما تمكّن منه.. طارده في سبتمبر عام 1970 بالأردن... وفي جنوب لبنان منذ عام 1969... وفي أتون الحرب الأهلية اللبنانية التي اشتعلت عام 1975.. وفي الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 طارده الطيران الحربي الصهيوني من منزل إلى منزل وكان يدكّ مقراته الواحد تلو الآخر بينما كان لا ينفك يسخر منها وهو يجول في سيارة أجرة أو ينام عند أحد المنعطفات أو الجسور... كان بصره كبصيرته يخترق «الضباب الأسود»... ذات يوم كان يستعدّ لركوب البحر من بيروت إلى حيث لا يدري أحد... سألوه إلى أين أنت ذاهب؟.. فأجاب على الفور... إلى فلسطين.. لم يكن أحد يصدّق هذا الكلام في مثل ذلك الظرف لكن عرفات برهن على قدرة عجيبة على الخروج من ذلك الوضع كان يعيد ترتيب «رحلته» من جديد لكنه نجا مرّة أخرى بأعجوبة من الموت عندما سقطت طائرته في الصحراء الليبية... كما نجا أيضا من غارة في تونس.. ونجا من آثار حرب الخليج الأولى.. ونجا من صورة «الإرهابي» واستبدلها بصورة الحائز على جائزة نوبل للسلام.. وعاد.. عاد إلى فلسطين... لكن «رحلته» لم تتوقف هناك.. فشارون العائد مدحورا من لبنان كان يترصّده.. للانتقام من «خصمه العنيد».. في رام الله.. وضرب عليه حصارا قاهرا لمدة ثلاث سنوات... سمّم خلالها حياته.. وحوّل مقره إلى أطلال.. وحاول حرمانه من كل شيء.. حتى من الطعام والماء والدواء... لكن «المارد الأسود» كما كان يحلو لرفاقه المباهاة به كان كما في كل مرة يزداد صمودا وثباتا وتحديا كالعنقاء... لقد حاول شارون حرمانه حتى من «الشهادة».. ولكن القدر استجاب لحلم «الختيار» لتكون نهايته كما أراد «شهيدا... شهيدا... شهيدا»... وتلك لا تكون إلا نهاية الأبطال والشرفاء...