مخطئ من يقول انه يستطيع الكتابة عن ياسر عرفات.. ومخطئ أكثر من يزعم انه يستطيع أن يوفي هذا العملاق حقه..فالرجل طيب الله ثراه ملأ الدنيا وشغل الناس عقودا طويلة..وشاءت له الأقدار أن يستشهد نتيجة غدر وخيانة حيث طالته يد الأعداء فدسوا له السم وسيكشف التاريخ اليد الغادرة وان عرفت اليد الآمرة... ولد «محمد ياسر» عبد الرؤوف عرفات القدوة الحسيني في الجهة الجنوبية الغربية من الحرم القدسي الشريف يوم الرابع من أوت 1929 (سنة ثورة «البراق») ليكون السادس بين أطفال الأب عبد الرؤوف داوود عرفات القدوة الحسيني والأم زهوة خليل أبو السعود .كان الوالد تاجرا كثير التنقل بين فلسطينوالقاهرة ..توفيت الوالدة بمرض في الكلى وياسر ما زال دون الرابعة من عمره فأقام الصبي مع شقيقه الأصغر فتحي في القدس عند خاله سليم الذي لم يرزق بأولاد فأحاط اليتيمين بالحب والرعاية..لكن أجواء القدس كانت أجواء احتلال ونضال ومقاومة فشهد ياسر إرهاصات وبدايات ثورة 1936 في وسط يعج بالمناضلين الوطنيين فكانت معظم ألعابه بنادق خشبية وتمثيلا لجنود وضباط وكثيرا ما كان يقول لشقيقه فتحي «تعال نلعب لعبة تحرير فلسطين». واندلعت ثورة 1936 وفيها ساهم ابن السابعة برشق الحجارة ووضع المسامير أمام عجلات الدوريات البريطانية، وشهد مداهمة جنود الاحتلال البريطاني لمنزل خاله واعتقاله بقسوة وعنف،ونال نصيبه من الضرب.عام 37 نقله ابوه الى القاهرة ليلتحق بمدارسها ثم جامعتها من دون أن تغيب عنه أخبار الوطن وتحفر أحداثه في وجدانه. كان طالبا في السنة الأولى في كلية الهندسة عندما استشهد عبد القادر الحسيني يوم 7 افريل 1948 في معركة جبل القسطل بالقدس. وبعد ذلك بيومين / 9افريل /كانت مذبحة (دير ياسين) على أيدي عصابات (الارغون) و(الشتيرن)..واحرق ياسر عرفات كتبه وسارع الى غزة ليقاتل دفاعا عن ارضه وشارك في حصار مستوطنة (كفار داروم) بجنوب فلسطين وانضم إلى «جيش الجهاد المقدس «وعين ضابط استخبارات فيه..وكان الاغتصاب عام 1948 وترسخت في ذهن الشاب القناعة بأنه «لا يمكن للفلسطينيين إلا الاعتماد على قواهم» . وأصبحت الهاجس بالليل والنهار..وبدأت المسيرة.. انشأ في عام 1950«رابطة الطلاب الفلسطينيين» وتعرف على اثنين من الضباط الوحدويين الأحرار المصريين قبيل قيامهم بثورة 23 يوليو (كمال الدين حسين وخالد محيي الدين) وأمامهما أعلن في مؤتمر طلابي «لا وقت للكلام ولندع الرصاص يتكلم» ...وحتى ينطق الرصاص شارك في دورتين تدريبيتين وبدمه ودم زملائه كتب إلى الجنرال محمد نجيب بعد الثورة المصرية «لا تنس فلسطين» وكرئيس لرابطة طلاب جامعة القاهرة زار عديد الدول ولم ينس فلسطين..تعرف على صلاح خلف ( ابواياد) وخليل الوزير (ابوجهاد) قبل ان يتخرج عام 55 ويشارك في صد العدوان الثلاثي على مصر في اكتوبر56.وتغيرت الأوضاع بعد العدوان حيث عاد قطاع غزة إلى الادارة المصرية مع ما استتبع ذلك من رقابة.فانتقل عرفات الى الكويت حيث وفرة الشغل اولا وثانيا كثرة الجالية الفلسطينية ..وهناك اسس شركة بناء وفرت له الدخل المحترم ..لكن الأهم أن مرحلة الكويت كانت حاسمة في المسيرة النضالية للرجل.ففي الكويت انشأ عرفات مع ثلة من رفاقه حركة (فتح) و تم إصدار صحيفة شهرية في اكتوبر 1959 هي «فلسطيننا نداء الحياة» التي طبعت ووزعت في لبنان ودول الخليج العربية والجزائر، وكانت توزع سرا بين الفلسطينيين في سورية ومصر والأردن والضفة الغربية وقطاع غزة والعراق ..وتم إنشاء الإتحاد العام لطلاب فلسطين في نوفمبر من عام 1959. وتكثفت الاستعدادات للعمل المسلح.. وما كاد الصهاينة يبدؤون في تحويل مياه نهر الأردن في صيف 1964 حتى اتصل عرفات بالجزائريين، الذين وعدوه بتدريب مقاتليه، وبالصينيين، الذين وعدوه بالأسلحة. ثم اتجه نحو سوريا التي سمحت له بانشاء مكتب ل«فتح» في دمشق .. وعهد الى وحدات سرية بتصنيع القنابل الصغيرة في الضفة الغربية..وفي الساعة الحادية عشرة من مساء يوم 31 ديسمبر 1964 نفذت فتح أولى عملياتها «عملية عيلبون»، وكتب عرفات وخليل الوزير بلاغ العملية ووزعاه على صناديق بريد الصحف والمؤسسات الإعلامية والأحزاب في بيروت. وحمل البيان توقيع جهة غير معروفة حينها «العاصفة» التي لم تكن إلا الجناح المسلح لحركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) .. كانت تلك الخطوة الأولى في الألف ميل على طريق التحرير..وترك عرفات أعماله في الكويت ليتفرغ للقضية بعدما عين قائدا عسكريا للحركة. وكانت سنوات مجد وعز وفداء وشهادة ..وغدت حركة فتح خاصة بعد نكسة 67 ومعركة الكرامة التي تلتها مغناطيسا اجتذب شباب الأمة المؤمن بحقها في الوجود وبقدرتها على استرداد هذا الحق وصونه ..ألف ميل شهد ما لا يمكن حصره واستعراضه في صفحة أو جزء منها ..مراحل وراء اخرى ..استلام عرفات لرئاسة منظمة التحرير الفلسطينية في فيفري 69 وبالتالي زعامة الكفاح ..مواجهة كل ما تعرضت له الثورة من متاعب ومصاعب ومؤامرات ومناورات ..أحداث أيلول الأسود في الأردن عام 1970 والانتقال إلى لبنان ومواجهة التآمر هناك والحرب الأهلية اللبنانية والاجتياح الصهيوني للجنوب اللبناني وفقدان الكثير من القيادات في عمليات اغتيال خسيسة وحصار بيروت عام 82 والخروج الى تونس وقصف المقر في تونس وحرب المخيمات والحصار في طرابلس/لبنان والانتفاضة الأولى واغتيال عدد من الرفاق وإعلان الاستقلال والحوار مع واشنطن وحرب الخليج الثانية وما خلفته واتفاق أوسلو بعد مؤتمر مدريد والعودة إلى فلسطين وبناء السلطة بما توفر من إمكانيات وهامش حركة وتوالي المؤتمرات لانتزاع التنازلات والصمود في حصار المقاطعة والانتفاضة الثانية..وتآمر الجميع عليه من أهله ومن أعدائه..لم تخف إسرائيل رغبتها في إزاحته بكل الوسائل وكان رده على ذلك الصحافي اليهودي الفرنسي عمنون كابليوك: «دعهم يحيكون مؤامراتهم. أما أنا فسوف أكون حراً أو شهيداً.» وبدأت إسرائيل تمهد إعلاميا للاغتيال بحديث عن تدهور صحة الشهيد بل وصل الأمر الى حد تصريح شارون لصحيفة «هآرتس»: «أنا لا أنصح أية شركة تأمين بضمان حياة عرفات».وأخيرا وصلت اليه يد الغدر..بدأت صحته في التدهور في منتصف اكتوبر 2004 وهو محاصر صامد في مقر قيادته برام الله ..وتردت الحالة فنقل الى باريس عبر الاردن وظل يصارع الموت إلى أن أسلم الروح لباريها في الساعة الرابعة والنصف من فجر الخميس الحادي عشر من نوفمبر 2004 . رحل عرفات عن الدنيا فعم الحزن فلسطين والامة العربية واحرار العالم وثارت الشكوك حول السبب لكن تاكد مع مرور الايام انه قضى مسموما ..ووري جثمانه الثرى في مقر الرئاسة برام الله مؤقتا في انتظار عودة القدس الى اهلها حيث أوصى الشهيد بدفنه في مهد ولادته ومرتع صباه ..ومثلما كان يمثل هاجس الصهاينة في حياته . كان ايضا هاجسها بعد وفاته حيث اعلن الصهاينة حالة الاستنفار القصوى ساعة نعيه وهي حالة لا يعلنونها الا في الحروب.رحل ابوعمار بعد نصف قرن من النضال..اختلف معه كثيرون لكن بكاه الجميع لان لا احد يستطيع ان ينكر حبه لفلسطين وشعبها ايا كانت الاختلافات في الرؤى ..قد يكون اخطأ لكنه لم يفرط ابدا في القضية ولا في ثوابتها كان يفاوض لكنه كان ينهي كلامه لمهاتفة الشهيد أحمد ياسين بقوله «دعواتك يا شيخ» وكانت تلك إشارة بتنفيذ عملية ضد الغاصبين ..كان عنوانا عالميا لفلسطين لا يذكر اسمه حتى يعرفها الناس من شرق الأرض الى غربها ..عرف كل من أحاطوا به ..عرف ضعفهم وربما تخاذلهم ولا نقول خياناتهم لكنه كان يحرم الدم الفلسطيني..دفع حياته ثمنا لمواقفه ويكفيه شهادة ان الصهاينة قرروا قتله فيما يحمون ب «موسادهم» وجندهم غيره ..كان «اب الامة الفلسطينية» كما يقول اهله في لبنان ..وسيظل اب الامة الفلسطينية ورمزا لنضال امته العربية والاسلامية ..رفع غصن الزيتون فاغتالوه وغصن الزيتون ..ولكن سيظل خالدا مثل من سبقوه سيظل خالدا مثل القدس ومثل الاقصى ومثل الكرمل وغزة هاشم ... «أنا حر او شهيد» هكذا كان يردد وايدي التآمر يراها من حوله ..ورحل وقد جمع الاثنين حرا وشهيدا ..رحل وقد ثبت في اذهان العالم كله بنضاله وبنضال رفاقه في فتح وغيرها ان فلسطين ارض لها شعب رغم انف الصهاينة ...دفن في رام الله لكن سيأتي اليوم الذي ينقل فيه جثمانه الى القدس لان القدس عائدة بعد انقشاع سجف الاستسلام والظلام مهما كانت التضحيات وطالت الايام..