تُواصل «الشروق» استقراء آراء الأمناء العامين للأحزاب السياسية في أعقاب الانتخابات الرئاسية والتشريعيّة الأخيرة والاحتفال بالذكرى 22 لتحوّل 7 نوفمبر،وبعد اللقاء مع الأستاذ أحمد الإينوبلي الأمين العام للاتحاد الديمقراطي الوحدوي والسيّد منذر ثابت الأمين العام للحزب الاجتماعي التحرّري تلتقي «الشروق» اليوم مع السيّد منجي الخماسي الأمين العام لحزب الخضر للتقدّم لتتطارح معه مواضيع على صلة بتقييم المشهد السياسي الوطني والموقف من مسائل مستجدّة علّ أبرزها عودة الحديث بقوّة عن فيلق المستقوين بالأجانب ودعاة التشكيك في سلامة المسار الإصلاحي التونسي ، هذا إلى جانب مسألة المطالبة بالتعويض عن فترة الاستعمار الفرنسي لتونس. هناك تباينات في خصوص تقييم درجة تطوّر المشهد السياسي في تونس..ما موقفكم؟ نحن لا نرى بعين واحدة، ونحن نفهم خصائص بلادنا وطبيعة الحياة بها أكثر ممّا يعرفها آخرون يغمضون عيونهم عن حقائق بيّنة وساطعة لا غبار عليها وأضحت اليوم محلّ إشادة وتنويه من أكثر من جهة مُحايدة. المشهد السياسي في تونس يتطوّر ويسير نحو الأفضل كنتيجة حتمية لما تمّت مُراكمتُهُ من حصاد إيجابي على مدار العقدين الماضيين مكّن من الخروج بالبلاد نهائيا من مرحلة النفق المظلم وانسداد الآفاق أواخر حكم الرئيس الراحل الزعيم الحبيب بورقيبة وإنجاح مسارات التنمية السياسية والاجتماعيّة والاقتصادية وتوسيع هوامش المشاركة والتوافق والحوار الوطني بين كلّ مكوّنات المجتمع التونسي حول كلّ الملفات والقضايا والمسائل الكبرى. بالنسبة لنا المهم أن تقرّ القراءات القائمة اليوم بتطوّر هذا المشهد، قد يكون هناك اختلاف حول درجة هذا التطوّر، ولكن بالنسبة لنا كنّا ومنذ حصولنا على تأشيرة العمل القانوني في 3 مارس 2006 انتصرنا لخيار المراكمة الإيجابيّة وآمنا بأنّ الانتقال الديمقراطي المرحلي والتدريجي حول أفضل خيار واسلم منهجيّة لبلوغ تطلعات الشعب في بناء تجربة ديمقراطية وتعدّدية نموذجية خالية من المخاوف أو حركات الارتماء في المجهول والّتي علّمتنا التجارب والوقائع في أكثر من بلد أنّها قد تكون حركات مُفضية إلى الفوضى والانخرام الأمني والتفكّك الاجتماعي وغياب لهيبة الدولة وأمن الشعب وسلامته وتغييب كلّ فرصه في مزيد النماء والتطوّر. نحن نُعارض المناهج الراديكالية في التغيير السياسي وتبديل أنظمة الحكم، نحن مع روح التمشي العقلاني والموضوعي الذي يُراكم مرحلة بمرحلة المكاسب والانجازات ويُغيّب نهائيّا امكانيات النكوص أو التراجع أو السير إلى الخلف أو الانهيار. وفي قناعتنا فإنّ فلسفة الرئيس زين العابدين بن علي فلسفة حكيمة ونموذجيّة تمكّنت برغم العراقيل والتحديات من التأسيس لانتقال ديمقراطي هادئ نلمسُ اليوم ثماره وحصاده الإيجابي اللّذين ينعمُ بهما كلّ الشعب دون إقصاء أو تهميش لأيّ طرف أو مكوّن من مكونات المجتمع المدني والسياسي والحقوقي، ونحن نلتقي مع هذه الفلسفة الاستشرافية والإستراتيجية الحكيمة والمتبصّرة وندعم جميع مبادئها وأُسُسها ونعتزّ أنّها فلسفة وطنية تُعطي ولاءها الأوّل والأخير والمطلق للشعب والوطن وتضحيات الأجيال السابقة ولا تمنحُ هذا الولاء إلى أيّ جهة أخرى. إنّ دعم ومساندة الرئيس بن علي ردّ للجميل وعرفان للرجل الّذي أخرج البلاد من نفق مظلم إلى مصاف الدول المتقدّمة وانتصار دائم للخيارات الوطنية الغالية والعزيزة على كلّ التونسيين والتونسيات. طرح حزب معارض تونسي مؤخّرا مسألة مُطالبة فرنسا بالاعتذار وتقديم تعويضات عن فترة استعمارها لبلادنا، ما هو موقفكم وما تعليقكم على ظرفية ووجاهة هذا المطلب؟ هذه مسألة حيوية مع اعتقادي أنّها يجب أن ترتقي لتكون محلّ وفاق وإجماع وطني بعيدا عن كل مظاهر المزايدات لأنّها مسألة تتجاوز جوهر التعويضات المادية أو ما شابهها إلى إعادة الاعتبار لتضحيات أجيال معركة التحرير وشهداء الوطن البررة إبّان فترة الاستعمار البغيض والّذي اكتوت به كلّ العائلات والأسر التونسيّة من الشمال إلى الجنوب. ونحن في حزب الخضر للتقدّم نُساند هذا المطلب ونحن كذلك نُساير اتجاهات تمتين العلاقة بين الشعبين لا السعي إلى تفكيكها عن طريق لوبيات استعمارية وأشخاص أفسدهم الدهر وتواطؤوا على مصلحة وطنهم وضدّ شعوبهم مقابل «حفنة من الأوروات»، وسنقوم بتفعيل هذا الموضوع عبر مختلف الآليات والوسائل المتاحة سواء عبر التأكيد عليه في بياناتنا ولقاءاتنا وتحركاتنا أو عبر ممثلينا في مختلف الهياكل المنتخبة وخاصة منها مجلس النواب، ونحن نعتقد أنّ نواب الشعب مُطالبون بأن يكون لهم موقف واضح من هذا الموضوع لأنّهم يُمثّلون كامل الشعب وهم بإمكانهم التمسّك بإجراءات عمليّة من أجل الضغط على الحكومة الفرنسيّة للاعتراف بحجم الضرر الحاصل للبلاد التونسية طيلة فترة الاستعمار وهروب البعض إلى الأمام، كما أنّه من الوجاهة أن تُساير الحكومة التونسية هذا المطلب الشعبي العادل وتتفاعل إيجابيا مع الدعوات المتصاعدة حاليا لإرغام الفرنسيين على الاعتذار وتقديم التعويضات. وفي اعتقادي فأنّ البعض من الفرنسيين اليوم في ورطة حقيقية تجاه أنفسهم أوّلا وأساسا لأنّ عدم الاعتراف بخطإ تلك المرحلة يتناقضُ جوهريّا مع صميم ما يدعون إليه من حريات وقيم حقوق الإنسان وصيانة العلاقات المتكافئة والمتساوية بين الدول والشعوب، ونحن في حزب الخضر للتقدّم نأسفُ جدّا للخطاب الغريب الّذي تشنّفُ به فئات فرنسيّة آذاننا وآذان العالم في هذا المجال ممّا يدفع حقيقة إلى التشكيك في صدقية ما يرفعونهُ من شعارات ومطالب. الحقبة الاستعماريّة حقبة مظلمة في تاريخ الدولة والشعب الفرنسي وعلى الفرنسيين جميعا التحرّك هم أيضا وأن يمتلكوا الشجاعة الكافية لتصويب تلك الأخطاء التاريخية الّتي ارتكبها أجدادُهم ومن ثمّة حماية جوهر العلاقات المتينة الّتي امتدّت على أكثر من صعيد بين شعبي وحكومتي البلدين والانصهار الاقتصادي والاجتماعي الكبير الّذي تمّ في أعقاب استقلال تونس وخروج الجيش الفرنسي عن أراضيها. وليس الفرنسيون أكثر مُكابرة أو نرجسية من نظرائهم الإيطاليين الّذين أنهوا وبشجاعة نادرة صفحة مظلمة من تاريخهم تجاه الشعب الليبي الشقيق. ومن المؤكّد الإقرار اليوم بأنّ الحقبة الاستعماريّة حقبة مظلمة وعلى الشعب الفرنسي امتلاك الشجاعة والتصدي للنوايا المغرضة الّتي تستهدفُ إحداث تصدّع في العلاقات بين البلدين وتوتيرها لحساب «مصالح سياسويّة» سافرة وضيّقة وذاتية. وكذلك ، وفي نفس السياق فإنّنا نعتقدُ أنّ مسألة الاعتذار عن الحقبة الاستعمارية المظلمة يجب أن تتجاوز اليوم إلى بناء علاقات متكافئة ومتساوية بين فرنساوتونس على جميع المستويات وفي كلّ الميادين واحترام سيادة البلدين واستقلاليّة قرارهما. تصاعدت مؤخرا بعض الأصوات الفرنسية المشكّكة في واقع الحريات وحقوق الإنسان في تونس وعبّرت عن استيائها ممّا قالت إنّه واقع يجب أن يتغيّر وهو ما حاولت بعض القوى المحسوبة على المعارضة التونسية المساعدة على تسويقه لدى الرأي العام الدولي؟ هذه مهزلة في سياق العلاقات الدوليّة ، أن تبحث دولة عن التدخّل في الشؤون الداخلية لبلد مستقل وصاحب سيادة ، هذا إلاّ إذا كانت تلك الأصوات ما تزال تعتبر تونس مستعمرة فرنسيّة تحتاج إلى الوصاية والتدخل والتوجيه والإملاءات، وهذا مؤسف جدّا لأنّ تونس دولة مستقلة وبشهادة العالم بأسره فهي في قاطرة الدول المتحضّرة والمتقدّمة الّتي راكمت مكاسب هامّة جدّا غيّرت وجه الحياة بها في جميع جهاتها ومدنها ولدى كلّ فئاتها الاجتماعيّة ، بل إنّ العالم اليوم يشهد لتونس وقيادتها بأنّها كانت ولا تزال صاحبة مبادرة وذات تأثير هام في محيطها الإقليمي والقاري حينما امتلكت ناصية العلم والتكنولوجيا الحديثة وأقرّت إصلاحات رائدة في مجال حقوق المرأة والفئات الضعيفة وذات الاحتياجات الخصوصيّة والانتقال التدريجي والمرحلي في بناء ديمقراطي هادئ ورصين ومثمر ومناخ سلمي وآمن والابتعاد نهائيّا عن كلّ مظاهر الفوضى والصدام وبنت لنفسها تجربة متميّزة عوّلت فيها على مواردها البشريّة أمام شحّ مواردها الطبيعيّة. وعبّر خطاب رئيس الدولة يوم أدائه اليمين الدستوريّة عن مهمات جسيمة في الذود عن استقلال البلاد وصيانة مكتسباتها ورفض كلّ أشكال التدخل الأجنبي تحت أيّ عنوان أو يافطة فما بالك بعناوين مغشوشة وكاذبة ومغرضة نسجها البعض من المرتزقة الّذين عجزوا عن فرض تواجدهم داخل المشهد السياسي والحقوقي الوطني فراحوا يستعطفون مستعمري الأمس ويؤلّبونهم على وطنهم المستقل ، وهذا في اعتقادي سلوك معرّة وخزي يستحق التنديد الشديد وعدم السكوت عليه لأنّه يمسّ بمبادئ الجمهورية والوطن المستقل وتقدير تضحيات الأجيال السابقة سواء في معركة التحرير أو في معركة بناء الدولة المستقلة الحديثة. ومن المهمّ في هذا الصدد التأكيد على أنّه ومهما كانت سلبيات الواقع في نظر البعض فإنّ ذلك لا يُمكنهُ أن يكون البتّة مدعاة للاستقواء بالآخرين أو المس بحرمة وقداسة الوطن، هذا وطننا وهذه بلادنا فضاءات الاختلاف فيها عديدة ومتعدّدة وعكست الانتخابات الأخيرة هذا المعطى بشكل لا يقبل الجدل أو الاختلاف ، ومن جهة أخرى فإنّ الخطاب الرسمي نفسه يقرّ بعدم اكتمال التجربة ويدعو باستمرار إلى المزيد من العمل والبذل حتى تنضاف للبلاد والشعب مكاسب جديدة وحتّى يتمّ تجاوز مختلف التحديات والرهانات الموجودة وينتقل الوطن بكل فئاته وجهاته وأحزابه إلى مرحلة جديدة على درب اللحاق بمصاف الدول المتقدّمة. إنّ الخضوع إلى ابتزاز بعض القوى الاستعماريّة الجديدة والوقوع تحت دائرة تأثيرهم وتوجيهاتهم وتعليماتهم أمر أضحى اليوم في غاية التحقير والتنديد ليس فقط في تونس بل في العديد من الدول الأخرى، فهذا السلوك منتشر وما تزال عديد الشعوب تُعاني من سلبياته ولكن إرادة الحريّة والاستقلاليّة والبناء الذاتي وحرمة الأوطان وسيادتها ورموزها ستكون دوما هي المنتصرة في النهاية. وفي نظرنا فإنّ فهم طبيعة «الاستعمار القديم» الذي جاء في أعقاب الثورة الصناعية وبحث مجتمعاتها عن أسواق لبضائعها ومنتوجاتها وتعويله لاحقا على البعض من باعة الضمائر للتمكين لجيوشهم ومعمريهم في الأراضي والدول المستعمرة من مثل من درجنا هنا في تونس على نعتهم ب«الحركيين والڤوميّة»، يضعنا في فهم ميكانيكي وآلي لطبيعة «الاستعمار الجديد» الّذي ضرب دولا عديدة مثل العراق وأفغانستان ويهدّد دولا أخرى مثل سوريا والسودان ولبنان ويحرم الفلسطينيين من دولتهم المستقلة ، هذا «الاستعمار الغربي» الّذي دكّّت الأزمات المالية والمصرفية والاقتصادية مجتمعاته وعطّلت حركة الاستهلاك داخلهُ ممّا أوجد رغبة في استعادة سيناريو الأمس في إيجاد مستعمرات تقبل البضائع والمنتوجات وتُساعد على استعادة اقتصاديات تلك المجتمعات نهضتها وديمومة حركتها،ولم تجد دول هذا «الاستعمار» بقديمه وجديده إلاّ شمّاعة الحريات وحقوق الإنسان واستجلاب بعض المرتزقة المفلسين لاستباحة الأرض والعرض والمال، وهذا ما يجب أن يكون مبثوثا في وعي الجميع، وهنا نفهمُ مغزى نقل الرئيس زين العابدين بن علي لمسألة التدخّل الأجنبي في القرار التونسي ومحاولة المس من استقلاليّته إلى الهياكل الإقليميّة والقاريّة لأنّ الوضع لا يهمّ تونس فقط بل كلّ الدول المغاربيّة والعربيّة والإفريقيّة وهو ما يقتضي موقفا جماعيّا حازما لوقف كلّ المخاطر والتهديدات وكشف الألاعيب والاستراتيجيات الاستعماريّة الجديدة.