منوبة: حجز طُنّيْن من الفواكه الجافة غير صالحة للاستهلاك    جندوبة: حجز أطنان من القمح والشعير العلفي ومواد أخرى غذائية في مخزن عشوائي    بنزرت: القبض على تكفيري مفتش عنه ومحكوم ب8 سنوات سجنا    تونس تصدر موقفا بخصوص فشل مجلس الامن الدولي في اقرار عضوية دولة فلسطين الكاملة    ابداع في الامتحانات مقابل حوادث مروعة في الطرقات.. «الباك سبور» يثير الجدل    قبل الهجوم الصهيوني الوشيك ...رفح تناشد العالم منعا للمذبحة    أخبار الترجي الرياضي .. أفضلية ترجية وخطة متوازنة    وزير الشباب والرياضة: نحو منح الشباب المُتطوع 'بطاقة المتطوع'    بعد القبض على 3 قيادات في 24 ساعة وحجز أحزمة ناسفة ..«الدواعش» خطّطوا لتفجيرات في تونس    رئيس الجمهورية يشرف على افتتاح الدورة 38 لمعرض تونس الدولي للكتاب    انطلاق الموسم السياحي بتونس.. «معا للفنّ المعاصر» في دورته السادسة    الجم...الأيّام الرّومانيّة تيسدروس في نسختها السابعة.. إحياء لذاكرة الألعاب الأولمبيّة القديمة    القصرين..سيتخصّص في أدوية «السرطان» والأمراض المستعصية.. نحو إحداث مركز لتوزيع الأدوية الخصوصيّة    بكل هدوء …الي السيد عبد العزيز المخلوفي رئيس النادي الصفاقسي    هزيمة تؤكّد المشاكل الفنيّة والنفسيّة التي يعيشها النادي الصفاقسي    توقيع مذكرة تفاهم بين تونس و 'الكيبيك' في مجال مكافحة الجرائم الالكترونية    تعاون تونسي أمريكي في قطاع النسيج والملابس    عاجل/ محاولة تلميذ الاعتداء على أستاذه: مندوب التربية بالقيروان يكشف تفاصيلا جديدة    معرض تونس الدولي للكتاب يعلن عن المتوجين    ماذا في اجتماع وزيرة الصناعة بوفد عن الشركة الصينية الناشطة في مجال إنتاج الفسفاط؟    عاجل/ هذا ما تقرّر بخصوص زيارة الغريبة لهذا العام    المعهد الثانوي بدوز: الاتحاد الجهوي للشغل بقبلي يطلق صيحة فزع    عاجل/ تعيين مديرتين عامتين على رأس معهد باستور وديوان المياه    الوضع الصحي للفنان ''الهادي بن عمر'' محل متابعة من القنصلية العامة لتونس بمرسليا    حالة الطقس خلال نهاية الأسبوع    النادي البنزرتي وقوافل قفصة يتأهلان إلى الدور الثمن النهائي لكاس تونس    لجنة التشريع العام تستمع الى ممثلين عن وزارة الصحة    سيدي بوزيد: وفاة شخص واصابة 5 آخرين في حادث مرور    انطلاق معرض نابل الدولي في دورته 61    مضاعفا سيولته مرتين: البنك العربي لتونس يطور ناتجه البنكي الى 357 مليون دينار    تخصيص 12 مليون م3 من المياه للري التكميلي ل38 ألف هكتار من مساحات الزراعات الكبرى    عاجل/ كشف هوية الرجل الذي هدّد بتفجير القنصلية الايرانية في باريس    عاجل/ انتخاب عماد الدربالي رئيسا لمجلس الجهات والأقاليم    الصالون الدولي للفلاحة البيولوجية: 100 عارض وورشات عمل حول واقع الفلاحة البيولوجية في تونس والعالم    وزارة التربية تقرر إرجاع المبالغ المقتطعة من أجور أساتذة على خلفية هذا الاحتجاج ّ    برنامج الجلسة العامة الافتتاحية للمجلس الوطني للجهات والأقاليم    كأس تونس لكرة السلة: البرنامج الكامل لمواجهات الدور ربع النهائي    انزلاق حافلة سياحية في برج السدرية: التفاصيل    نقابة الثانوي: وزيرة التربية تعهدت بإنتداب الأساتذة النواب.    تواصل حملات التلقيح ضد الامراض الحيوانية إلى غاية ماي 2024 بغاية تلقيح 70 بالمائة من القطيع الوطني    بطولة برشلونة للتنس: اليوناني تسيتسيباس يتأهل للدور ربع النهائي    عاجل/ بعد تأكيد اسرائيل استهدافها أصفهان: هكذا ردت لايران..    وفاة الفنان المصري صلاح السعدني    توزر: ضبط مروج مخدرات من ذوي السوابق العدلية    عاجل: زلزال يضرب تركيا    كلوب : الخروج من الدوري الأوروبي يمكن أن يفيد ليفربول محليا    انتشار حالات الإسهال وأوجاع المعدة.. .الإدارة الجهوية للصحة بمدنين توضح    القيروان: هذا ما جاء في إعترافات التلميذ الذي حاول طعن أستاذه    المنستير: ضبط شخص عمد إلى زراعة '' الماريخوانا '' للاتجار فيها    خطبة الجمعة..الإسلام دين الرحمة والسماحة.. خيركم خيركم لأهله !    اسألوني .. يجيب عنها الأستاذ الشيخ: أحمد الغربي    منبر الجمعة .. الطفولة في الإسلام    ضروري ان نكسر حلقة العنف والكره…الفة يوسف    وزير الصحة يشدّد على ضرورة التسريع في تركيز الوكالة الوطنية للصحة العموميّة    شاهدت رئيس الجمهورية…يضحك    حيرة الاصحاب من دعوات معرض الكتاب    غادة عبد الرازق: شقيقي كان سببا في وفاة والدي    موعد أول أيام عيد الاضحى فلكيا..#خبر_عاجل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الندوة المغاربية ل «الشروق»: التعويض والاعتذار عن جريمة الاحتلال: الآن... الآن... وليس غدا! (2/2)
نشر في الشروق يوم 06 - 12 - 2009

أعدّ الندوة وشارك في الإنجاز: عبد الحميد الرياحي خالد الحداد النوري الصل
تُنهي «الشروق» اليوم نشر وقائع ندوتها المغاربية الأولى والّتي التأمت بنزل إفريقيا بالعاصمة يوم الثلاثاء 24 نوفمبر 2009 والتي بحثت موضوع: «الشعوب المغاربية وحق الاعتذار والتعويض عن الحقبة الاستعمارية» والتي حضرها ثلة من المؤرخين والمفكرين والسياسيين من تونس والجزائر والمغرب وليبيا.
وتأتي هذه الندوة الكبرى في سياق ما تؤمن به جريدة «الشروق» و«دار الأنوار» من مبادئ فتح قنوات الحوار والنقاش وإثراء لفلسفة تعدّد الآراء والمقاربات حيال مختلف الموضوعات والمسائل السياسية والثقافية والفكرية وانسجاما كذلك مع انتصارها للتقارب بين شعوب المنطقة المغاربية.
الندوة المغاربية الكبرى لجريدة «الشروق» عالجت موضوعا يلقى اهتمام كلّ البلدان المغاربية وحتى دول عربية أخرى ألا وهو موضوع «الحق في الاعتذار والتعويض عن الحقبة الاستعمارية».
وتميّزت الندوة التي لقيت تغطية إعلامية واسعة (فضائيات ميدل سات 1 المغربية وفرونس 24 والحرّة والقناة التونسية المتميّزة «حنبعل») وعرفت تفاعلا إيجابيا في إطار التناول لمضامين فكرية وسياسية هامة أثارتها الندوة على علاقة بمخلفات وآثار الفترة الاستعمارية الّتي اكتوت بنيرانها كامل الشعوب المغاربية ولعقود طويلة، ومع تواتر عدد من الأحداث والمستجدات ومن أبرزها تمكّن الأشقاء في الجماهيريّة الليبيّة من انتزاع اعتذار رسمي من الحكومة الإيطالية عن فترة الاستعمار الفاشي للتراب الليبي مع حصولها كذلك عن تعويضات مادية هامّة عن أضرار تلك الفترة ، أصبح من الجائز التحرّك على مستوى بقية الدول من أجل تحقيق هذه المعادلة الجديدة وفتح صفحات من التعاون والشراكة الحقيقيّة مع الدول المستعمرة سابقة وطي صفحة الآلام والجراح والتدمير والضحايا والقتلى.
تلك هي مقاربة الندوة الّتي استعرضت كذلك أوجها من الأضرار الّتي ألحقتها الفترة الاستعمارية بالمنطقة المغاربية ماديا وبشريا وثقافيا وما يفتحهُ الاعتذار من آفاق واعدة للعلاقات بين دول جنوب وشمال المتوسّط وتدعيم الشراكات ومختلف أوجه التعاون.
وننشر اليوم بقية الندوة أي وقائع الجلسة الثانية الّتي رأسها الدكتور الحبيب الجنحاني وكذلك جلسة النقاش العام الّتي تمّ خلالها تبادل العديد من الأفكار والآراء والمقاربات، علما وأنّ الجلسة الثانية تضمنت المداخلات التالية:
التعاون الحضاري بين الأقطار العربية وأوروبا ودوره في تجاوز الحقبة الاحتلاليّة : الدكتور المنصف ونّاس
الجرائم الاستعمارية بين مهنية المؤرّخ ومطالب الذاكرة الجماعيّة : الدكتور خالد عبيد
العدالة المتلوّنة: الشعوب المغاربيّة ورواسب الاستعمار: الأستاذ عبد اللّه العبيدي
رؤية سياسية لملف الاعتذار والتعويض عن الحقبة الاستعمارية : الأستاذ أحمد الإينوبلي الأمين العام للاتحاد الوحدوي الديمقراطي
السيّد عمر الشاهد: أفكار عن مشروع بعث «الهيئة العربية لتصفية آثار الاستعمار»
وكانت «الشروق» نشرت أمس وقائع الجلسة العلمية والفكرية الأولى والّتي ترأسها السيّد محمّد مواعدة وتضمّنت المداخلات التالية:
مداخلة مفتاحيّة حول مشروع أحقية وجدوى المطالبة بالاعتذار عن الحقبة الاستعمارية : الأستاذ المتميّز عبد الجليل التميمي.
آليات معالجة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في المرحلة الاستعماريّة : الأستاذ عبد السلام بوطيب
تحديات اللغة العربية في مواجهة اللوبي الفرنكفوني ومخلفات الحقبة الاستعماريّة: الدكتور عثمان السعدي
التجربة الليبيّة في انتزاع الاعتذار والتعويضات من إيطاليا: الأستاذ مفتاح بونعيجة.
خالد عبيد (مختصّ في التاريخ السياسي للحركة الوطنية): الجرائم الاستعمارية بين مهنية المؤرّخ ومطالب الذاكرة الجماعية
في البداية، أتوجّه بالشكر إلى صحيفة «الشروق» ورئيس تحريرها السيّد عبد الحميد الرياحي الذي سبق له أن فتح أعمدة الجريدة لي في مواضيع الذاكرة الوطنية والوجود الأمريكي بتونس خلال الحرب العالمية الثانية، وأيضا الزميل والصديق خالد الحدّاد، وذلك على توجيههما الدعوة لي للمشاركة في هذه الندوة.
في الواقع، أعتبر ما سأقوله امتدادا لما ذكره أستاذي الجليل الدكتور عبد الجليل التميمي وأيضا الزميل والصديق عبد السلام بوطيّب، وإنّي أبدأ من حيث انتهى السيّد بوطيّب الذي توقف حول طرح تساؤلات: من أمر؟ ومن نفّذ؟ ومن استفاد؟ وذلك، كي أضيف إليها تساؤلا آخر: ومن هي الضحيّة؟ والذي يجرّنا إلى طرح مسألة الاستعمار في البلدان التي ابتليت به وتحديدا تونس، لأنّ أيّ استعمار كان لا بدّ أن يرتكب جرائم بحقّ من احتلّ بلده، فيكاد يكون هذا الأمر بالذات بمثابة الحتمي، وبالتالي، لم تشذّ تونس عن هذه القاعدة، صحيح أنّ «الفظاعات» التي ارتكبت في تونس أو في المغرب الأقصى لا يمكنها بأيّ حال من الأحوال أن ترقى إلى ما ارتكب بحقّ الجزائريين من مجازر، لكن، أعتقد أنّ الجرم الاستعماري هو جرم وجريمة، سيّان إن كان عدد الضحايا بضعة أفراد أو عشرات أو مئات أو ألوفا وملايين.
وقد سبق لي أن اقترحت أن نحتفل بعيد الشهيد في تونس بدلا من عيد الشهداء وأن لا نكتفي بضحايا يوم 9 أفريل 1938، لأنّ ضحايا الوجود الاستعماري بتونس هم كثّر منذ أن وطأت الجيوش الفرنسية التراب التونسي في أفريل 1881 إلى أن خرجت منه في أكتوبر 1963.
وليس بالضرورة أن يكون ضحايا الوجود الاستعماري في شكل موتى أو جرحى، قد نتمكّن من تعدادهم ويصبحون بالتالي مجرّد أرقام، وقد لا نتمكّن من ذلك فيصبح تقديرهم من باب التخمينات، لأنّ الضحايا قد يكونون منسيين يصعب حصرهم، ضحايا النهب الاستعماري، ضحايا التفقير الاستعماري، ضحايا تحطيم الاستعمار لِبُنَى المجتمع التونسي التقليدية وإعادة تشكيله بُنَى أخرى تتماشى ورغبته في استنزاف البلاد اقتصاديا، ضحايا طردوا من أراضيهم التي استولى عليها الاستعمار وفق قوانين سنّها وفق مشيئته، كي يمنحها إلى المعمّرين، ضحايا صامتون، بعضهم استسلم لقدره المحتوم، والبعض الآخر لم يستكن وحاول الانتفاض، فكان مصيره إمّا النفي والإبعاد أو السجن أو الإعدام..
ولو أردنا أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر بعض الجرائم التي ارتكبت بحق التونسيين طوال الحقبة الاستعمارية، فإنّه يمكننا أن نبدأ منذ الأيّام الأولى التي دخلت فيها الجيوش الفرنسية إلى تونس في أفريل 1881 والقوّة اللامتكافئة التي استعملها الجيش الفرنسي لإنهاء أيّة مقاومة للتونسيين لمن اجتاح أرضهم. وأيضا سحق انتفاضة الجنوب الشرقي التونسي خلال الحرب العالمية الأولى والذي استعمل فيها الطيران الفرنسي، كما تواترت الأنباء، السلاح الكيمياوي، ولا يمكننا نحن هنا أن نثبت ذلك أو ننفيه، وأيضا عشرات الألوف من التونسيين الذين «أجبروا» على التجنيد والمشاركة في حرب ليست حربهم ولا ناقة لهم فيها ولا جمل، إنّها الحرب العالمية الأولى، فمات منهم الألوف، وجرح الألوف.
وبقيت جروح العديد منهم إلى أن توفّوا باعتبار مشاركة العديد منهم في معارك فردان التي استعملت فيها الأسلحة الكيمياوية بين الطرف الفرنسي والألماني، وبالرغم من تضحيات هؤلاء الجنود، فإنّ فرنسا لم توفهم حقّهم وأعطتهم جرايات هزيلة مقارنة بما يتقاضاه الجندي الفرنسي، الذي شارك في ذات الحرب أو حتّى الحرب العالمية الثانية أو غيرها من الحروب، التي أجبر التونسيون على المشاركة فيها كحرب الريف في المغرب الأقصى ضدّ الأمير عبد الكريم الخطّابي وحرب الهند الصينية.
وأيضا «الانتقام» الفرنسي ضدّ التونسيين خلال الحرب العالمية الثانية بدعوى مساندتهم المحور وقد طال الآلاف منهم أعدم منهم العشرات دون محاكمة، والقمع الدموي لانتفاضة المرازيق في هذه الفترة، وقد ارتكبت فرنسا جرائم باسم هذا «الانتقام» يمكن تصنيفها ضمن خانة «جرائم حرب» و«جرائم ضدّ الإنسانية»، وهي كانت فرصة بالنسبة إليها كي تعيد بعضا من هيبتها التي فقدتها إثر هزيمتها «المخزية» أمام ألمانيا، كما طبّقت فرنسا أساليب ضدّ التونسيين ذكّرتنا بذاتها التي تطبّقها اسرائيل إزاء الفلسطينيين من حصار جماعي وشبه تجويع و«اختطاف» الرهائن من نساء وأطفال وشيوخ للضغط على الوطنيين كما حدث في بلدة رأس الجبل ورفراف بدرجة أقلّ خلال سنة 1944، ونعتقد أنّ ما حدث في رأس الجبل ثمّ في زرمدين سنة 1946 هو تهيئة وتدريب لما سيحدث لاحقا في تازركة سنة 1952 من تدمير وقتل واغتصاب...
وهذا يجرّنا للحديث عن القمع الفرنسي لما نطلق عليها بالثورة التونسية، والذي لم تتورّع خلاله فرنسا من اعتماد الأساليب اللاأخلاقية واللاقانونية لإسكات انتفاضة الاستقلال التونسي، من ذلك وعلى سبيل الذكر دائما، تصفية «اليد الحمراء» المرتبطة مباشرة بأجهزة فرنسية معيّنة للزعيم النقابي والوطني فرحات حشّاد في ديسمبر 1952 ، وتصفية «اليد الحمراء»، وإن شاركت في ذلك أياد تونسية، للزعيم الدستوري الهادي شاكر في سبتمبر 1953.
وأعتقد أنّ عائلتيْ الشهيديْن، كما غيرهما من عائلات الشهداء، ما زالتا تنتظران اعتذارا فرنسيا رسميا عن هاتين الجريمتين وإماطة اللثام عن حقيقة ما حدث، وتحديد المسؤوليات فيهما ومن اتّخذ القرار بالتصفية الجسدية، وأيضا ما تواترت بشأنه الشهادات عن تصفية ما عُرف ب:«كومندوس فرحات حشاد» الذي انطلق من ليبيا في ديسمبر 1952 للثأر لاستشهاد هذا الزعيم فوقع في كمين فرنسي واستسلم أفراد هذا «الكومندوس» فقام الفرنسيون بتصفيتهم وهم أسرى ولم يحافظوا إلاّ على اثنين فقط، وأيضا القصف الجوّي الفرنسي لمعاقل الثوّار التونسيين في جبال الجنوب التونسي خاصّة والذين انحازوا إلى الزعيم صالح بن يوسف، وأيضا «مأساة بنزرت» منذ جويلية 1961 والتي استشهد فيها المئات من التونسيين الذين سحقوا سحقا وأحرقوا حرقا أمام قوّة النار الفرنسية «المهولة»، والتي لم تتورّع حتّى عن استخدام قنابل النابالم وفق المتناقل، وما زال سكّان هذه المدينة ينقلون شهادات عن ما لا يمكننا وصفه إلاّ بجريمة حرب فرنسية تجاه تونسيين «هبّوا» لتحرير بلدهم.
على كلّ، ممّا تقدّم، أردنا أن نؤكّد أنّ مسألة «الجرائم الاستعمارية» هي مسألة قائمة ولا يمكن اعتبارها من باب المزايدات السياسية أو الظرفية، أو التغاضي عنها، وحتّى إن غُضّ عنها فإنّ ذلك لا يمكن أن يشطبها تاريخيا أو يمْحوها من الذاكرة أو يُجرّم من يتحدّث عنها أو..، لأنّ الاستعمار يبقى استعمارا ولا يمكن أن يكون إلاّ استعمارا حتّى وإن خرج من الحياض يوما فرجوعه وارد في كلّ آن كما العراق، وهنا لا يمكننا الحديث عن مزايا الاستعمار وفضائله...لأنّ كلّ «مزية» أو «خصلة» استعمارية في بلد ما ليست منّة منه لهذا الشعب أو ذاك، بل حتّى إدخاله لبعض أنماط الحداثة في وسائل النقل أو التعليم أو الصحّة..هي مندرجة في سياقه الخاصّ به ووفق رزنامته الاستغلالية، وليس حبّا في هذا الشعب أو ذاك، أو رغبة إنسانية حقيقية في الخروج به من دائرة «التوحّش» إلى دائرة «الحضارة».
والأكيد أنّ أيّة ظاهرة تاريخية كانت تحمل في طيّاتها بذور تلاشيها التاريخي تماما كالاستعمار، الذي هو ظاهرة تاريخية في سياق محدّد أفرزت مسارّات من حيث تدري ولا تدري، أدّت بها حتما إلى ظهور ظاهرة التحرّر التي بدت إثر الحرب العالمية الثانية حتمية، وإن مُهّد لها منذ ما قبل هذا التاريخ، لكن متغيّرات الحرب العالمية الثانية وما بعدها سرّعت من وتيرة حتميتها.
وإذا كانت الجرائم الاستعمارية أمرا قائما مثلما أسلفنا، فإنّ ما يمكن تسميته بالذاكرة الجماعية هي التي تدفع أحيانا نحو استذكارها فاعتبارها أمرا أساسيا، أو التغاضي عنها من أجل ما يسمّى بالمصلحة المشتركة للشعبين أو المصالح العليا لهذه الدولة أو تلك، وهذا كلّه، لأنّ الذاكرة هي «حاضر الماضي» كما ذكر الفيلسوف الفرنسي بول ريكور، وما دامت هي كذلك، فهي تتميّز بانتقائيتها وبقدرتها على النسيان كما التذكّر وبإلحاح، خاصّة إذا كان هذا الماضي أو ذاك ماضيا مؤلما أو مخزيا أو محزنا أو مرعبا وكابوسيا، أو مبعث اعتزاز وافتخار..
وهذا يعني بالضرورة أنّ الذاكرة هي ذاكرات متعدّدة، ذاكرة الجلاّد الذي يعمل على الدفع نحو النسيان والصمت الذاكري وإن لزم الأمر قسريا، وذاكرة الضحيّة التي تعتبر ما حدث لها لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن تتماهى معه أيّة تضحية أخرى، ولا يمكن أن تعبّر المقالات والكتب والريبورتاجات عن حقيقة ما عانته وعايشته في تلك اللحظة بالذات، لحظة التضحية وهو ما تفتقده كلّ هذه المقالات أو البرامج الوثائقية في نظرها لأنّها باردة لم تتلظّ بنار تلك اللحظة، لحظة التضحية الكبرى، وبالتالي، تبقى معاناتها أكبر من أن تُحبّر، ولا يمكن، وهذا هو الأهمّ، أن يعبّر عنها كلحظة تاريخية إلاّ من اكتوى بها وقد يصل الأمر إلى حدّ استنكار عمل المؤرّخ، لأنّه لا يمكن أن يكون المؤرّخ هنا إلاّ هي، أي الضحيّة، بينما ذلك المؤرّخ قد يعمد إلى «تشويهها» في نظرها، لأنّه يدرسها وفق أدوات عمل وبحث لا يمكن أن تكون إلاّ «باردة» في نظر هذا أو ذاك.
وهذا يدفعنا للحديث عن دور المؤرّخ أمام كلّ هذا وماهية دوره؟ وهل يجب عليه أن يساير هذه الموجة الذاكرية أو تلك؟ أو ينأى بنفسه عن كلّ هذا ويواصل عمله؟ لأنّ التاريخ هو بناء وإعادة تشكيل أو تشكّل للماضي وفق أدوات علمية، هي «السلاح» الموضوعي لهذا المؤّرخ الذي يجب عليه كتابة التاريخ في هدوء قدر الإمكان وخاصّة وجب عليه عدم تسييس التاريخ وهو يدعو إلى ذلك، لأنّه لو سُيّس التاريخ لانعدم عمل المؤرّخ وبات وجوده كلاوجوده تماما، وهذا يعني أنّ عمل المؤرّخ ينحصر في نظري في تقديم الوثائق والأدلّة والبراهين اعتمادا على الشهادات والأرشيفات المتعدّدة التي يحلّلها وفق أدوات عمله المعهودة، لكن، بعد ذلك ينتهي دوره لأنّ هذا الدور من صميم عمله، وإن كنّا ننبّه مرّة أخرى إلى مخاطر وانزلاقات ما سمّاه الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس ب: «الاستعمال العمومي للتاريخ» أو إن شئنا مزالق تسييس التاريخ.
وهنا يأتي دور من يعتبر نفسه مؤتمنا على ذاكرة شعب ما كي يطالب هذا المستعمر أو ذاك بالاعتذار عن جرائمه في هذا البلد أو ذاك، وكم هي كثيرة إن في الهند الصينية أو في مدغشقر أو في الجزائر أو في العراق أو في ليبيا..لكن أن يكون هذا الدور مخصّصا للمؤرّخ فإنّي أعتقد أنّه من الضروري أن ينكف بنفسه عن ذلك، لأنّه إن ساير هذا التوجّه الذاكري فإنّه سيخرج من موضوعيته، لأنّ هذا التوجّه نحو الاعتذار يختفي أحيانا ويخفت كما يتوهّج أحيانا أخرى وفق الظرفية السياسية والاقليمية والدولية.
وفي حال تونس مثلا، إنّ مسألة الجرائم الاستعمارية في حقّ التونسيين أمر ثابت تاريخيا لا يمكن نكرانه أو التقليل منه لدعاوي عدّة، ويا حبّذا لو تنشئ هيئة وطنية تتكوّن من مختصّين في التاريخ وعلم الاجتماع والحقوقيين وأخصّائيين نفسانيين، مهمّتها رصد هذه الجرائم وتوثيقها ولديها من الصلاحيات ما يمكّنها من ذلك، ويجب أن لا يخرج عملها عن هذا الإطار المهني بعيدا عن أيّة اعتبارات أخرى، قد تمسّ من مصداقيتها، وتقدّم تقارير في هذا الشأن يطّلع عليها الرأي العام حتّى يكون على بيّنة ممّا حصل في الحقبة الاستعمارية التي تكاد تصبح منسية لدى الأجيال الحاضرة ومنسية لدى القادم منها، بينما يُعدّ الخطر الاستعماري في أيّ شكل قد يأتي وفق ظرفية تاريخية محدّدة، أمرا قائما لا يمكن التغافل عنه، ويبقى مثال العراق أفضل مثال في هذا المجال، مجال عودة استعمار إلى بلد قد تحرّر منذ زمن منه.
وبإمكان هذه الهيئة أن تأخذ بعدا اقليميا من خلال تنسيقها مع هيئات شبيهة بها في الجزائر والمغرب الأقصى بغاية تنسيق الجهود أؤكّد هنا المهنية للمطالبة، وهذا ما أميل إليه شخصيا وبقطع النظر عن اختصاصي، باعتذار رسمي فرنسي عن هذه الحقبة الاستعمارية ولو شفويا في حال تونس مثلا، ولا تعني هذه المطالبة في نظري محاولة لإحياء الضغائن والأحقاد والثأر، قدر ما هي محاولة أعتبرها ضرورية لتجاوز هذه الضغائن والأحقاد بالذات، لأنّه لا يعني عدم مطالبة المستعمر بالاعتذار عن جرائمه قبلئذ أنّ ما وقع أثناء هذه الحقبة بات منسيا، وتمّ تجاوزه، بل بالعكس، يبقى دفينا في اللاوعي الذاكري الجماعي بانتظار الظرفية المواتية للتعبير عمّا اختلج في الصدور لسنوات وعقود أحيانا، وقد لا ندري كيف سيكون هذا التعبير الدفين؟ وهل بإمكان الإحاطة به أم لا؟
وأؤكّد مرّة أخرى أنّ المطالبة بفتح مثل هذا الملفّ، لو باتت يوما ما رسمية، إنّما غايتها التجاوز وطيّ صفحة الماضي الأليم، والنظر إلى المستقبل بتفاؤل أكثر دون وجود لأيّ مكدّر كان حتّى وإن ظُنّ أن لا وجود له، ولنا في التجربة الليبية في هذا المجال ما يؤيّد هذا المنحى.
لأنّه من غير المنطقي أن يُعتذر إلى مجموعات محدّدة وشعوب معيّنة عن الاضطهاد الذي لحقها والمجازر التي ارتكبت بحقّها، والمسارعة إلى تجريم كلّ من يشكّك في هذه المجزرة أو تلك أو.. بينما تتعالى أصوات من هنا وهناك لاعتبار الحقبة الاستعمارية في شمال افريقيا حقبة «بنّاءة»، ويلفّ الصمت الرسمي اللابريء منذ عقود حقيقة ما جرى فعلا في هذه المنطقة، والذي طال حتّى المناهج الفرنسية المدرسية! التي بالكاد تتعرّض إلى الفترة الاستعمارية! وذلك بالرغم من وجود جمعيات وهيئات تعمل من أجل إماطة ما حدث إذّاك، وبالرغم من الخطوات الفرنسية الرسمية «المحتشمة» كتلك التي اتّخذها الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك.
وفي الأخير، أرجو أن لا تنطبق سياسة المكيالين حتّى على ذاكرة شعب ما، وحتّى إن طبّقت، فعلى هيئات هذا الشعب أو ذاك أن تعمل على ديمومة الاستذكار الذاكري لأجيال لم تعايش «فظاعات» الحقبة الاستعمارية، وذلك حتّى لا تنسى يوما أنّ بلدها قد احتلّ يوما وعانى الأمرّين من جثم استعماري عليه، قد يرجع يوما ما وفي زمن ما، وعندها إن حدث هذا الأمر لا قُدّر له أن يحدث، فعلينا أن نرجو لبلادنا «رُحْمانا رحيما» على حدّ قول أحد المناضلين لمّا مرّت أمامه وهو في الغربة مواكب احتفال شعب باستقلاله، بينما بلده يرزح تحت الاستعمار فتذكّر حال بلده تونس فرجا لها هذا الرُحمان الرحيم في كلمات بليغة للغاية ما أحرانا لو ندرّسها لأجيالنا حتّى تستوعب معنى فقدان بلد ما لسيادته وكيف عبّر هذا التونسي عن هذا الفقدان في كلمات تنضح صدقا وأسى على حال بلده التي انتكست رايته ونُكّست أعلامه وامتهن أهله وباتوا أذلّة في أرضهم إذّاك!؟
والحال أنّ هذا البلد هو بلدهم والأرض هي أرضهم والغريب هو الذي استولى عليها، فإذا بهم باتوا هم الغرباء، والغريب في أرضه كالغريب عنها سيّان بينهما، لأنّهما يفتقدان ذات الأرض ولو إلى حين وما لا نرجوه أن لا يكون بلا حين!
عمر الشاهد (ناشط نقابي وسياسي من تونس): «الهيئة العربية لتصفية أثار الاستعمار» خطوة لإزالة أثار الاحتلال والتصدي لإمكانية تكراره
في البداية نتوجه بالشكر إلى جريدة «الشروق» على شرف تنظيم هذه الندوة والمساهمة في التعريف بقضية نعتقد أن لتداعياتها القادمة عميق الأثر على مستقبل امتنا وأمنها القومي.
ولا يفوتنا أن ننوه إلى الدلالة اللغوية لفعل استعمر فهو من التعمير والعمران والاستخلاف إذ يقول الله تعالى: «هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها» ولذلك نستعمله في مداخلتنا تجاوزا ولكن بمعنى احتل وهو الفعل الدال على المعنى المقصود في هذه الندوة.
نعتقد أن جملة من العوامل المتضافرة أسهمت في تخمير مشروع تكوين هيئة عربية تعمل على خلق مؤسسات تناضل من اجل تصفية أثار المرحلة الاستعمارية والتصدي لإمكانية تكرارها خاصة بعد احتلال العراق وسياسة التهديد المتواصل لأقطار أخرى,وتفتح ملفات أخرى كتهجير أهل الأندلس ومحو الحضارة العربية الإسلامية هناك .
ويمكن أن نجمل هذه العوامل في النقاط التالية :
1- واقعية المطلب ومشروعيته: شهدت السنوات الأخيرة تقدما في التعاطي مع هذا النوع من القضايا فاليابان اعتذرت للصين ولكوريا وأستراليا اعتذرت للسكان الذين هجروا قسرا وسخروا لخدمة مستغليهم وايطاليا اعترفت واعتذرت للشعب العربي في ليبيا وانحنى برلسكوني مقبلا يد حفيد عمر المختار وتعمل الآن على التعويض، إلى غير ذلك من المطالبات في أكثر من مكان في العالم وهو ما يعطي مطلبنا مزيدا من الشرعية والواقعية تدفع عنه شبهة التعصب والمثالية الحالمة .
2- قانونية المطلب : إن الجرائم التي ارتكبها الاحتلال طيلة عشرات السنين لا يمكن آن تسقط بالتقادم من وجهة نظر القانون الدولي الإنساني.
3-تاريخية مطلب الاعتراف والاعتذار: هذا المطلب قديم جديد إذ لا يحق لأي كان أن يدعي اليوم بأنه أول من يفتح هذا الموضوع فالشعب العربي عاش سنوات الخمسينات والستينات رافعا شعار إزالة أثار الاستعمار والذي عدل جزئيا ليصبح إزالة أثار العدوان.
ولم يتوقف هذا الأمر لملاحقة المستعمرين وإجبارهم على الاعتراف والاعتذار وجبر الأضرار حتى بعد ذلك ففي الجزائر خاصة مع ضحايا التفجيرات النووية في الصحراء ومجازر سطيف وغيرها.
وفي المغرب لضحايا استعمال الغازات السامة والمجازر في حق المغاربة العزل خاصة بعد ثورة الريف,, وفي تونس المجازر التي ارتكبت عند دخول الاحتلال والاغتيالات التي لحقت الوطنيين والعدوان على ساقية سيدي يوسف ثم حديثا العدوان الصهيوني على حمام الشط واغتيال أبو جهاد إلى غير ذلك من المجازر التي ارتكبها الاحتلال الصهيوني في لبنان – صبرا وشتيلا – والأمريكي البريطاني في العراق.
من هنا جاءت فكرة إخراج هذه الدعوة التاريخية من الدوائر الضيقة، ومن أسلوب الهبات المؤقتة، أو التوظيف الحزبي أو تركها شأنا رسميا يخضع لحسابات العلاقات الدولية، أمرا حاسما لبلورة جهد نضالي فعال يواجه الجهة المسؤولة عن جرم الاحتلال بوسائل فعالة ومؤثرة ، عدا ذلك فإن الموضوع سيعود للمربع الأول والطرف المقابل لن يبقى مكتوف الأيدي بل سيحاول إجهاض أي محاولة جادة.
4-مخاطر تكرار الظاهرة الاستعمارية: لعله من البديهي القول بأن الاحتلال ليس حقبة كما هو رائج في الأدب السياسي بل هو ظاهرة يمكن آن تتكرر كلما توافرت عواملها،وقد جاءت تاريخيا مع استفحال أزمة النظام الرأسمالي ونخشى مع الأزمة الاقتصادية العالمية. وهي أزمة نفس النظام آن نعود إلى نفس الظاهرة وعلى نطاق واسع ويقصد بالدول الاستعمارية كل الدول التي مارست جرما استعماريا: فرنسا اسبانيا بريطانيا الولايات المتحدة.
5- الإصرار على التعويض أو جبر الضرر: يستحيل تقريبا حصر وتقدير الآثار المادية والمعنوية للاحتلال وذلك لمحدودية توثيق تلك المرحلة وسريتها واستحواذ المستعمر نفسه على وثائقها إلى يوم الناس هذا زيادة على الآثار النفسية والثقافية التي لا يمكن تقديرها ماديا فإن فكرة جبر الضرر تأتي إجراء احترازيا ضمن حزمة من الإجراءات الواجب اتخاذها لمنع تكرر الظاهرة الاستعمارية كما آن ذلك فيه إقرار بالمسؤولية الدولية على جرم الاحتلال والالتزام بالتالي بالتعويض لدولة التي وقع في مواجهتها الفعل.
6- استمرار الآثار المترتبة عن الاحتلال إلى اليوم على المستوى البشري والتنموي: ألغام إلحاق ثقافي تبعية اقتصادية اغتراب حضاري ,,, يجعل القضية مركبة وذات أبعاد حقوقية وثقافية وحضارية واقتصادية وإعلامية وسياسية ولذلك فان هذا الأمر يستوجب جهدا يتجاوز قدرات فرد أو حزب أو قطر بمفرده بل يستوجب جهدا جماعيا تتولى أعباءه هيئة مستقلة تتفرع عنها لجان عمل متخصصة في مختلف المجالات وتعبأ من اجله كل الإمكانات المتاحة وتستفيد من كل مراكمة نوعية وكمية في هذا الاتجاه.
بناء على هذه المسوغات يتفاعل عدد من المثقفين والسياسيين العرب ومنذ أكثر من سنتين لأجل بلورة فكرة الهيئة العربية لتصفية أثار الاستعمار ويشرفنا أن تكون جريدة «الشروق» أول من يعلن عن هذه المبادرة.
د. منصف ونّاس: مطلب جبر الأضرار مشروع
تونس (الشروق)
لا شكّ أن جبر الأضرار عن المرحلة الاحتلالية أمر مشروع وحصل في عديد المرات بين عدد من الدول لعلّ آخرها إقرار إيطاليا بجرائمها في ليبيا وقبولها بمبدإ التعويض حتى وإن كان ذلك رمزيا ولكن ما يتوجب أن يشار إليه هو منهجية التعامل مع الحقبة الاحتلالية أي مع مرحلة الاحتلال الفرنسي، فما ينتمي الى الماضي هو من الماضي ونحن اليوم بحاجة الى منهجية جديدة في التعامل لها علاقة بالحاضر وبالتغيرات الدولية وبالعلاقات الجيدة بين سياسيي فرنسا وتونس ولذلك فالاعتذار بالكلام فقط هو غير كاف وهو بحاجة الى مزيد التدعيم.. ومن بين آليات التدعيم هذه تطوير التعامل الفني والحضاري حتى يكون أداة فعلية في عملية التنمية خاصة بالنسبة الى بلد كتونس تحرص فعلا على أن يغادر التخلف فعليا..ونحن لا نلمس من الجانب الفرنسي أي تحمل فعلي لتطوير وتدعيم التعاون الفني والاقتصادي والتنموي بين البلدين فقد ولّى عصر التعاون الفني المتمثل في منح متواضعة واستثمارات بسيطة..
إذا كان هناك حرص حقيقي على هذا التعاون فليكن تعاونا فعليا يساعد تونس على مجابهة مستلزمات التنمية ومقتضيات مواجهة العولمة أي التزام فرنسي رسمي فعلي باتجاه المساعدة على نهوض تونس وذلك هو الاعتذار الفعلي والالتزام بجبر أضرار الحقبة الاستعمارية التي دامت 75 سنة أما دون ذلك فليس جديرا بأن ننوّه به ولا أن نقف عنده كما يمكن أن يترجم هذا التعاون الفني الحضاري في احترام سيادة تونس واستقلالية قرارها والامتناع عن تصرفات المرحلة الاحتلالية.. كما يقتضي ذلك احترام الانسان العربي والتعامل بندية مع الدول العربية واحترام إرادتها في الحياة فحينما يقول الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي مرّتين في القاهرة ان اسرائيل ديمقراطية كبرى فهذا أسلوب من التعامل المغشوش والمبني على المغالطة والاستخفاف بحق مئات الملايين من العرب في الاحترام والتقدير وعدم التحايل في قضيتهم المركزية فلسطين.. فهذا أمر حضاري لا تقاس فيه إذا كانت فرنسا حريصة على علاقاتها مع الاقطار العربية ولكن كل هذا لا يجب أن يغفل قضية مهمة وهي ضرورة تحصين البيت الداخلي وتوسيع دوائر المشاركة الثقافية والسياسية لسدّ الباب أمام التدخلات الخارجية والمساس باستقلالية القرار التونسي فالجبهة الداخلية المتماسكة والقوية والمشاركة في القرار هو أحسن ردّ فعل على كل التدخلات الخارجية والمدعومة من قبل قوى أجنبية.
أ. عبد ا& العبيدي (خبير في الشؤون الاستراتيجية): العدالة المتلوّنة: الشعوب المغاربية ورواسب الاستعمار
تونس (الشروق) :
بداية أحييّ «الشروق» على هذه المبادرة الطيبة التي تتيح لنا الفرصة لوضع هذا الموضوع في إطاره وتوضيح بعض المفاهيم والتطرّق الى بعض جوانب المنهج الذي نرى أهمية اعتماده لبلوغ الاهداف من وراء هذه المبادرة.
في ما يخصّ موضوع الندوة، فإني اعتقد انه يجب أن نعي ان المطالبة بالاعتذار عن الحقبة الاستعمارية تنطلق من قناعة أصحابها بأن الاعتذار لا يصدر الا عن نادم على ما قدّمت يداه ولا نعتقد أمام تجدد آليات وأهداف النزعة الاستعمارية لدى بعض المجموعات أنها تستطيع ان تتعايش مع الندم والاعتذار وحتى ان تظاهرت بالندم وقدمت الاعتذار فلن يكون ذلك الا من باب المناورة...ولذلك وجب على أصحاب المبادرة الأخذ في الاعتبار عدة عناصر من أهمها التفريق ما بين الشعوب والدول والانظمة التي كثيرا ما لا تتطابق مصالحها وإن بدت للوهلة الاولى متطابقة... وان نميز بين ما هو تكتيكي متغير حسب الظرف وحسب الامكانات المتاحة وما هو استراتيجي ثابت وكذلك ان نميز ما بين السياسي والقانوني.
ففي الغرب وأوروبا بالتحديد وكذلك في كل بقاع العالم التي لحقتها أضرار جراء العمليات المسلحة في الحربين الاولى والثاني وقع السعي الى القضاء على آثارها المادية والبشرية والادبية... ورأينا ان بعض المتضررين وصل بهم الامر حد افتعال حقوق وأضرار وهمية (اليهود) واستغلوا ضعف البلدان التي انطلقت منها شرارة الحرب لابتزازها ماديا وسياسيا على خلاف بلدان شمال افريقيا المستعمرة خلال تلك الحقبة المغلوبة على أمرها... فلم نسمع عن عمليات واسعة النطاق لإزالة الالغام وعن تعويض عائلات قصفت منازلها ومات بعض أفرادها ولا عن تعويض أهالي فلاحين خاصة رعاة ذهبوا ضحية ألغام زرعت ببوادينا... وضياع كل هذه الحقوق ناجم في أول مراحله عن غياب السيادة في هذه البلدان وفي المراحل الموالية افتقاد مجتمعاتنا الى الكفاءات القادرة على رصد الاضرار وتقديرها وتحديد الاجراءات والمسالك الضرورية للحصول على التعويضات المناسبة لها.
يتحدث الكثير عن الاضرار الجمّة التي لحقت شعوبنا من الوضع الاستعماري حيث شوّهت هويتنا ودنّست مقدّساتنا واستُهتر بحضارتنا وانتهكت حرماتنا خصوصا اذا ما استحضرنا أننا أمة ذات حضارة كونية ساهمت في نحت أهم مظاهر الحضارة الانسانية وأسس تقدمها وتحديثها وكان باستمرار طلب هذه الامة التي أنهكتها الحضارة إن صح التعبير، على غرار ما حصل مع أمم سبقتها من مصريين قدامى وصينيين واغريق وروم ولم تغب عنها يوما جذوة النهوض من جديد وعرفت طوال تاريخها عددا لا بأس به من المصلحين الى ان جاء الاستعمار ليصدّ هذا المدّ الاصلاحي ويحوّل وجهته ويهمّش أصحابه واذا ما ركّزنا على تونس التي كان شأنها شأن المغرب والتي لم تكن ترابا فرنسيا مثل الجزائر وانما محمية (ممّن؟) ورغم ذلك جنّد أبناؤها بالآلاف وجلبوا الى ساحات القتال بعيدا عن وطنهم حيث ذهب الكثير منهم ضحايا مصالح وأحقاد لا علاقة لهم ولأوطانهم بها...
ولم يفكّر أحد يوما في تعويض أهله وبلده عن هذه الخسائر المروّعة.. ويجب كذلك ان نعي بعمق ان المطالبة بالاعتذار عن الحقبة الاستعمارية تنبع بالأساس من الرغبة والعزيمة على القضاء المبرم على أسبابه القديم منها والجديد... والعمل على تثبيت القيم الانسانية العليا التي تحول دون بروز هذا الوحش النجس (la bête immonde) من جديد وخصوصا أننا نعلم ان الشعور بنزعة استعمارية جديدة وبالكيل بمكيالين والعنصرية ليست مجرد وهم أو نظرية مؤامرة لعقول مريضة وانما هي حقيقة ماثلة أمامنا ولها نتائج بدأنا نجني ثمارها في فلسطين والعراق ودارفور وأفغانستان وباكستان ولحقنا منها في تونس بعض الشيء في حمام الشط وفي حادثة اغتيال «أبو جهاد» خصوصا اذا ما استحضرنا أن الاستعمار الجديد يعتمد نفس مصادر الوحي والاستلهام التي اعتمدها الاستعمار القديم..ونجد من أهم منظريها Ernest Renan الذي يعتبر الى حد اليوم من أكبر فلاسفة السياسة في فرنسا والغرب والذي قال في احدى أشهر محاضراته: «إن الشرط الأساسي لانتشار الحضارة الأوروبية هو القضاء على الاسلام لأنه دين يلغي الدولة وإن لنا معه حربا أزلية لا تنتهي الا بموت آخر مسلم فقرا ومجاعة او بتهجيره ارهابا الى أعماق الصحراء... إن الاسلام يمثل الغاء جذريا لأوروبا فهو تجسيد للتطرّف وازدراء بالعلم وقضاء على المجتمع المدني وهو عنوان سذاجة الفكر السامي وهو تقليص للعقل الانساني وانغلاق لكل فكر دقيق وشعور مرهف ولكل بحث عقلاني؟؟ كما ذكر أحد مفكري الغرب وهو «رجيد» (ليس كاتبا معروفا) أن الاستعمار ليس مسألة مصلحة وانما هو واجب؟
(la colonisation n'est pas une question d'interet mais une question de devoir)
مشددا على أن «الاستعمار واجب أخلاقي للشعوب والأفراد باستعمال القوة والامتيازات التي منحتهم إياها القوة الإلهية لصالح الانسانية جمعاء لأن الاستعمار هو أحد الواجبات المناطة بعهدة الدول العظمى والتي لا يجوز لها بحال أن تتفصى منه دون ان تخلّ برسالتها وان تنهار أخلاقيا»... ولكن الاهم من هذا وذاك ان أحد أهم مهندسي السياسة الحالية للاتحاد الاوروبي وهو روبرت كوبر Robert Cooper الديبلوماسي البريطاني والمستشار السابق لطوني بلير (رئيس الوزراء البريطاني السابق) والمدير العام السابق للسياسة الخارجية في الاتحاد الاوروبي سخّر جهده للتنظير لما أسماه باستعمار ما بعد الحداثة (imperialisme postmoderne) ومن أهم ركائز نظريته الفلسفية ان «بلدان الغرب يجب ان تتعامل في ما بينها على أساس قاعدة القانون ومبدإ الامن المشترك... وعندما يتعلق الامر بتعاملها مع بلدان من النوع التقليدي وجب عليها ان تعود الى الطرق العنيفة القديمة كاستعمال القوة والضربات الاستباقية والخداع وكل ما هو ضروري لمجابهة الشعوب التي مازالت تعيش في القرن التاسع عشر في معاملات بينية يجب ان نحترم فيها القانون لكن عندما نتحرك في الغاب يجب ان نطبق قانون الغاب».
ولكن بالرغم من كل ما سبق يجب ألا نغفل على اننا نشترك مع شعوب أوروبا والغرب في الكثير من القيم الحضارية والانسانية وان الشعوب كثيرا ما تكون مغلوبة على أمرها وهي الضحية الاولى للأعمال اللاإنسانية التي تصل أحيانا حد جرائم الحرب وجرائم ضد الانسانية التي تصدر عن حكوماتها في زمن ما وتجلب لها الويلات فوعينا أن مستقبل الفضاء الاوروبي متوسطي مشترك وان من واجبنا العمل مع القوى الخيّرة من رسميين ومجتمع مدني لوضع أسس ميسرة مشتركة تتجانس فيها المصالح وتتدعم في سياقها أسس النهضة والرفاه وتحقق فيها أسباب استدامة التنمية والموارد لسد المسالك امام أطماع قد تلحق بنا مجتمعين غربا وشرقا أضرارا دائمة لا نهضة بعدها... فالنهضة التي نرقبها في آسيا مع ما يرافقها من أسباب قوة اقتصادية وعسكرية قد لا تبشّر كلها بخير نظرا للفوارق القيمية والحضارية والعقائدية التي تفصلنا عن شعوب آسيا... وهذا لا يعني عداء تجاه هذه الشعوب وانما تحسّبا للمجهول ولأخطار قد لا نعلمها.
أحمد الإينوبلي: رؤية سياسية لملف الاعتذار والتعويض عن الحقبة الاستعمارية
تونس (الشروق):
حين أطلقت المبادرة اعتبرت في حينها خط دفاع أول في مجابهة إملاءات بأن تمتدّ في المستقبل...
إن الشعار السياسي لا يمكن له أن ييسّر الطريق إلا عبر ما يرسمه له رجل الفكر... وعليه أريد أن أؤكد هنا أن هذه المبادرة أطلقت لتعوّل على النخب التي ترسم كل الابعاد التي ترتبت على الاحتلال بما فيها المخلفات الثقافية والفكرية والحضارية والسياسية...
الاحتلال في أي مكان له ضرر حالي وقائم يمكن رصده وضرر آخر متواصل في المستقبل...
كل الشعوب التي عرفت الاحتلال تعطلت مسيرة تقدمها ونمائها في تعليم أبنائها... وإضافة الى تعطّل المسيرة هناك ضريبة أخرى تختلف فيها من بلد الى آخر بما قدمته من عدد الشهداء وضريبة الدم وعدة آثار أخرى يقف عندها علماء الاجتماع ان هذا خط الدفاع الاول... ولذلك كانت مبادرة صرخة بأننا مازلنا نعاني آثار الاحتلال وهي ماتزال ممتدة وسط مجتمعاتنا ولعل من آثارها محاولة الاستصغار والفرنكفونية... وهذه الرؤية الدينية قد ترجمها القانون الذي تبنّاه البرلمان الفرنسي في فيفري 2005 والذي يشرّع ويقنّن الاستعمار الجديد... أي أنه يدعو الاجيال ويربّيها على أن تعاود الكرة ولا يستغرب أن تأتي البوارج وتعود من جديد الى شمال افريقيا...
المبادرة التي أطلقناها هي ملك للشعب العربي... وأنا أقترح هنا أن ننسج على منوال المغرب... فالاخوة في الجزائر يسيرون على هذا الدرب بخطى فعّالة... كل طريق يبدأ بخطوة ولابد أن تأتي النتيجة... وأدعو نخبنا في تونس الى تكوين جمعية من أجل مجابهة مخلفات الاستعمار الفرنسي في تونس وبلورة تحرّك فاعل وتشكيل لجنة من أجل رسم طريق توصل الى تحقيق مطلبنا وحقنا هذا... نحن لسنا دعاة قطيعة وصراعات وحروب... نحن نريد حقا... نريد أن يرجع هذا الحق الى أصحابه...
وقائع جلسة النقاش العام: جدل حول الارث الاستعماري والراهن العربي.. وحديث عن الطابور الخامس والأمة الافتراضية ودعوات الديمقراطية وحقوق الإنسان ذات المكيالين
تونس (الشروق):
تمّ خلال الجلسة الأخيرة للندوة فتح باب النقاش حول موضوع الحق في الاعتذار عن الحقبة الاستعمارية، وفي ما يلي تفصيل لأهم التدخلات والتي شارك فيها المتدخلون خلال الجلستين الأولى والثانية وبعض ضيوف «الشروق»:
الحبيب الجنحاني: في إشكالية الإرث الاستعماري والراهن العربي
تونس «الشروق»:
أريد أن أسوق بعض الملاحظات التي تربط وتوحّد بين عناصر الموضوع.. فعندما تُطرح إشكالية الإرث الاستعماري والراهن العربي لابدّ من التساؤل عن الظاهرة الظرفية والتاريخية التي تطفو في هذه المسألة..
1 الخطوة الأولى لا تكمن برأيي في تحديد المفاهيم لمعالجة هذه المسألة فقط بل أيضا في تنزيل بروز هذه المفاهيم وتطوّرها في زمانها ومكانها.. فغداة الاستقلال طرحت قضية الاستعمار الجديد وكيف أنه خرج من الباب ليدخل من النافذة... وضمن معركة الاستعمار الجديد جنّدت معارك تحت هذا المفهوم لتصفية الإرث الاستعماري وفي مقدّمتها القواعد العسكرية في المغرب العربي ثم اختفى هذا المفهوم أو ضعف وجاء بعده السعي الى إبرام شراكة وتعاون عسكري وأمني إلى ان وصل الأمر الى التحالف مع الحلف الأطلسي.
وفي المجال الحضاري هبّت موجة إسمها الحوار الاسلامي المسيحي.. لكن هذه الموجة لم تأت بنتيجة تذكر..
كما أقول هنا إن الاستعمار دخل بثالوث الجندي والمعمّر والمبشر ثم جاءت بعد ذلك حقبة حوار الحضارات وهو حوار قيّم نبيل رحّبنا به... لكن سؤالنا هو لماذا هذا الحوار وكيف ومع من؟
أعود لأقول هنا: «لماذا أشرت الى تحديد المفاهيم لأنني قرأت عن الاحتلال الروماني والوندالي..
الملاحظة الثالثة... أشرت الى الحلف الأطلسي لأنه كانت لي تجربة عن كثب في نطاق الحرب الباردة... وفي معقل الحرب الباردة وأشدّ زواياها وهي برلين... أثناء النقاش كان يقال إننا نكرس جهودنا وأموالنا من أجل إسقاط المعسكر الشرقي.. ولم تمرّ إلا فترة قصيرة حتى بدأ التنظير الى ان هناك عدوا جديدا يطل برأسه من الجنوب وهو العالم العربي والاسلامي.
الملاحظة الرابعة هي ان الغرب متعدد وليس واحدا... وحذار من الخلط والوقوع في فخّ الايديولوجيات المتطرفة هنا وهناك... نعم حركات التحرر تعاونت هنا وهناك لكن لابدّ ان نتذكّر ان روّاد الحركات الاصلاحية ميّزوا بين الوجه الاستعماري وقاوموه وبين غرب التقدّم والتنوير والحداثة.
عبد الجليل التميمي: إشكاليات... وتوضيحات
تونس «الشروق»:
هناك إشكاليات عديدة ومعقدة وتحتاج الى أن نتوقف عندها... أنا أودّ ان أنبّه هنا الى أهمية إحياء الذاكرة الوطنية وتشكيل لجان في هذا المجال.. فلا مستقبل لهذه الذاكرة إلا من خلال المؤسسات المستقلة علميا.. فنحن اليوم في معركة حضارية فاعلة إذا لم نستطع ان نتوّجها عبر العمل على إحياء ذاكرتنا الوطنية... فإننا سنخسر هذه المعركة..
المشكلة هنا ان العرب لا يقرؤون فمؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات مثلا، معظم متابعيها وقرائها هم من غير العرب.. وهذا مؤلم.
عبد السلام بوطيب: زاد معرفي وسياسي وتاريخي ضعيف
تونس «الشروق»:
عندما بدأنا في مركز الذاكرة المشتركة والمستقبل بالمغرب نشتغل على هذا الموضوع أول ما فكّرنا فيه هو ان زادنا المعرفي والتاريخي والسياسي ضعيف جدا... وقلنا إننا قد ننجح على المستوى الاعلامي والمستوى السياسي ونعطي بالتالي آفاقا سياسية لهذا الموضوع ولكن ما يقلقنا في المركز هو الجانب المعرفي..
أعتقد انه يجب ان نتفق هنا على منهجية عمل واضحة وأن نفكّر في لجنة عربية مغاربية وذلك من خلال :
1 تحديد الهدف
2 تحديد المنهج
3 ضبط الخطة..
خالد سليمان (إعلامي وناقد مصري): الوعي بالهوية
تونس (الشروق):
كل ما طرح في هذه الندوة له علاقة بالوعي بالهوية.. موقعها وموضعها.. فالوعي بالهوية غاب عنّا.. للأسف مسألة الهوية الآن يتم تغييبها بشكل قصدي.
الفرنسيون برّروا في قانون فيفري 2005 ما فعله الاستعمار.. هناك أمور يجب أن نعيها ونستوعبها.. في هذا الموضوع.. فقبل أن يقوم الاستعمار بزرع الطابور الخامس قام بزرع نزاعات حدودية..
وبالتالي قبل الحديث عن التعويض والاعتذار عن الحقبة الاستعمارية ينبغي أن نسأل: هل نقدر على محاسبة الاستعمار.. ونحن ليس لدينا وعي كامل بهويتنا الوطنية»؟
عبد اللّه العبيدي: أمّة افتراضية
تونس (الشروق):
نحن نتحدث في إطار أمّة موحدة افتراضية.. وأعتقد أنه إذا ما أردنا لهذه المبادرة أن تنجح يجب أن تستند (المبادرة) إلى المواطن.. المواطن العربي اليوم أصبح متعدد الأبعاد والمصالح.. ودأبت بعض الأنظمة على أن تعتمد بعدا واحدا وتغيب الأبعاد الأخرى.. المواطن العربي لا يستطيع اليوم أن يدافع عن عروبته دون أن يدافع عن إسلامه.. وواجبنا اليوم في اعتقادي أن نسمح للمواطن بأن يحقّق ذاته وذلك بالتعبير عن مختلف أبعاده لأن خطوط الدفاع عن كيانه ومصالحه عديدة ومتداخلة كما يجب أن تكون له الجرأة للدفاع عن الايجابي من انجازات الأنظمة القائمة لأن هذه الانجازات كثيرا ما تكون ثمرة لقاء بين الشعب والقيادة، دون أن نشعر بالتملّق أو بالمجاراة الرخيصة فلن نحقق ما نصبو إليه من أهداف داخليا وخارجيا ونحن مشتتين لأن وحدة الصف هي من أسس الأخذ بأسباب القوّة والمناعة والرفاه أفرادا وشعوبا وأنظمة على أن يرى كل مكوّن من هذه المكوّنات مصلحته وعزّته وأمنه واستقراره في هذه الوحدة..
كذلك أودّ أن أعقب على ما ورد في احدى المداخلات التي تطرّقت إلى مسألة الاتحاد من أجل المتوسط حيث ألاحظ هنا أنه من المرجّح أن هذه المبادرة الصادرة عن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي المعروف بولعه بنظرية المحافظين الجدد وصداقاته المتينة مع بعض أقطاب هذه النظرية بأمريكا وأنصارهم بفرنسا أنها انطلقت من نظرية للكاتب الأمريكي من أصل ياباني فرانسيس فوكوياما التي شرحها في آخر كتبه بعنوان «بناء الدولة» (States Building) والتي رأى بمقتضاها ضرورة إعادة إحياء نظام الوصاية الذي كان معمولا به خلال حقبة عصبة الأمم ووضع الدول العربية والإسلامية المستعمرة سابقا والتي لم تتوفق خلال الفترة الفاصلة بين تاريخ استقلالها واليوم والتي تمتد في المعدل إلى 50 سنة تحت وصاية القوى الغربية ذات الخلفية الاستعمارية مما حدا بالرئيس الفرنسي دعوة إيطاليا وإسبانيا والبرتغال ذوات الماضي الاستعماري إلى تكوين مشروع الاتحاد من أجل المتوسط وهذا مما يفسر معارضة ألمانيا وبلدان شمال أوروبا لهذا المشروع وتعديله في مرحلة أولى على أمل أن يقع القضاء عليه تدريجيا من خلال رفضهم تمويله أوروبيا وتولّي بعض مسؤولي الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي مسؤوليات دائمة صلبه.
هشام الحاجي (عضو المكتب السياسي لحزب الوحدة الشعبية): خطوة ذات أهمية.. وحزبنا معني بمطالبة فرنسا بالاعتذار
تونس (الشروق):
ندوة «الشروق» مكّنتنا من الاستماع إلى جملة من المداخلات القيمة من ثلة من المناضلين الذين تدارسوا على امتداد ساعات موضوع «الشعوب المغاربية وحق الاعتذار والتعويض عن الحقبة الاستعمارية»..
أنا كعضو للمكتب السياسي بحزب الوحدة الشعبية أقول إننا معنيون في حزب الوحدة الشعبية بدعم جهود الاتحاد الوحدوي الديمقراطي الذي أطلق مبادرة لمطالبة فرنسا بالاعتذار للشعب التونسي عما لحق به خلال الحقبة الاستعمارية..
وهذه المبادرة تحسب لمن أطلقها لكنها (المبادرة) لم تعد حكرا على الاتحاد الوحدوي الديمقراطي.. وأعتقد أن مثل هذه الخطوة ذات أهمية بالغة خاصة حين نستحضر ثلاثة تواريخ..
التاريخ الأول هو عام 2003 حيث شهدنا خلال هذا العام عودة الاستعمار الجديد.. أما التاريخ الثاني فهو عام 2005 لما تقدّم بعض النواب الفرنسيين في البرلمان الفرنسي للحديث عن مزايا الاستعمار..
التاريخ الثالث لما أجبرت القيادة الليبية إيطاليا على الاعتذار والتعويض وهو ما يمثل رسما لطريق للمطالبة بالاعتذار والتعويض.. كذلك مدخل طلب التعويض فيه دعوة للكفّ عن التدخل في الشؤون الداخلية.. لكن ما أقوله إنه بات ضروريا أن ننطلق من هذه الندوة لنواصل الفعل والعمل على هذا الصعيد...
محمد مواعدة: الخلفية... والطابور الخامس
تونس «الشروق»:
أنا في الحقيقة لديّ ثلاث نقاط أريد أن أتوقف عندها..
1 هناك خلفية فكرية ثقافية ذات جذور دينية... أنتم تعرفون والكل يعرف ان الكنيسة هي أم فرنسا... وهي ليست ظاهرة بسيطة بل ان هذا الجذر هو قائم الذات.
2 الشعارات هي نفسها... الديمقراطية والحرية وحقوق الانسان..
3 هناك طابور خامس في المغرب العربي يساند هذا التيار الغربي الاستعماري.. وهدفه التقليل من جهود الشعوب المغاربية وتبرير الحملة الاستعمارية.. السؤال بعد التعرّض الى هذه النقاط هو ما العمل؟.. وهنا أجيب بأن الأمر يستدعي الانتقال من مجرّد التحليل الى الانجاز.. فالموضوع ليس بسيطا... وهنا يبرز أيضا دور المثقفين بالاستفادة من هذا الجانب في الكشف عن خطورة هذه الظاهرة.. كذلك دور التنظيمات هو على درجة كبيرة من الأهمية.. اذ لابدّ من التعامل مع هذه الظاهرة على مستوى التنظيمات.. لا لأسلوب إيديولوجي نظري.. نعم لأسلوب عميق ودقيق.
من خلاصات الندوة: اجماع على عدالة مطلب الاعتذار والتعويض عن حقبة الاستعمار
إعداد: خالد الحداد
خلصت جلستا الندوة وحلقة النقاش الّتي أعقبتهما إلى إبراز حالة التوافق الموجود بين المشاركين في الندوة حيال عدالة مطلب الاعتذار والتعويض عن الحقبة الاحتلاليّة –كما أسماها الدكتور المنصف ونّاس – وضرورة مواصلة التحرّك الجماعي الممنهج من أجل إعداد المستندات والوثائق والدراسات الكفيلة بتحقيق نجاحات للدول المغاربية وعموم الدول العربية وغيرها الّتي اكتوت بنيران الاستعمار والقهر وكذلك ضرورة أن لا يكون تناول هذا الملف الحيوي والحسّاس مرتبطا إلى ظرفيات أو ارتهانات وتوظيفات سياسية عابرة لأنّه ملف جدير بالاهتمام وهو وبقدر ما أنّه سيُساهم في غلق وطي صفحة الماضي الاستعماري بما فيه من مآس وآلام بقدر ما سيكون بابا لتحقيق عدالة في العلاقات بين الدول بما فيها الدول المستعمرة وبناء مستقبل متضامن وخال من كل عوامل التوتّر والصدام للأجيال المقبلة.
كما أثارت الندوة أهمية التصدي لبعض القوى المحلية والأجنبيّة الّتي ما تزال تحن للماضي الاستعماري بل وتتحرّك لاستعادة بعض أوجهه على غرار السعي للتدخّل في الشؤون الداخلية للدول المستقلة تحت عناوين ويافطات متعدّدة من أوضحها اليوم الحريات وحقوق الإنسان وسعي هذه القوى إلى التشكيك في تجربة الإصلاح والتحديث والتطوير الجارية في الدول المستقلة وذات السيادة.
وفي هذا الإطار كشفت الندوة البعض من النوايا والمخطّطات الّتي يستند إليها أمثال هؤلاء المنتصرين للفكر الاستعماري ولأفكار الهيمنة والتدخّل الأجنبي السافر في الشؤون المحلية للدول والساعين لإعطاء الدروس والمس من ثوابت الاستقلال والسيادة الوطنية، وهي نوايا مصلحية ترتهنُ في جلّها إلى حالات من الإفلاس السياسي ورغبة في تسويق بعض الهواجس والمطامع الشخصية لأناس وتيارات من اليمين واليسار نبذها الشارع العربي من المحيط إلى الخليج لرداءة صورتها وانكشاف تهاوي ما تحمله من طروحات وبرامج هذا إن كان لها أصلا طروحات وبرامج.
وعكست المداخلات الثرية للندوة عمق الأفكار الّتي تمّ تناولها انتصارا لعدالة مطلب الاعتذار والتعويض باعتباره مطلبا شعبيا وإنسانيا يجب أن يكون محلّ توافق بين كلّ التوجهات والتيارات والقطاعات المجتمعية من سياسيين وباحثين وأكاديميين ومؤرخين ومدافعين عن الحريات وحقوق الإنسان، مطلب فيه لمسة من الوفاء بليغة ومعبّرة لأرواح الشهداء والمناضلين وضحايا الاستعمار الغاشم وفيه كذلك رغبة صادقة ونبيلة لإعادة بناء أسس مستديمة للعلاقات الدولية تقوم على الاحترام المتبادل والتعاون والشراكة الفاعلة والبناءة الّتي تتجاوز مخلفات وآثار تلك المحن والمآسي الّتي لا يُمكن لأحد التشكيك فيها وتؤسس لمرحلة جديدة من الثقة والاطمئنان والتآزر والتآلف لمجابهة التحديات الّتي تواجه جميع الشعوب اليوم.
وانتهى المشاركون في الندوة إلى إقرار مبدأ مواصلة مثل هذه الندوات وتنظيم مثيلات لها في دول أخرى مغاربية بما يُعزّز متانة الملف ويوفّر له أرضية سياسية وأكاديميّة عميقة تجعلهُ يمرّ إلى درجة من الفاعلية والنجاعة في المدى القريب بعيدا عن كلّ التوصيفات أو التوظيفات السياسويّة الرديئة والممجوجة.
وتجدّد «الشروق» بالمناسبة تحياتها العميقة للمشرفين على قناة «حنبعل» لما أولوه من عناية بندوة «الشروق» المغاربية وتنظيمها لبرنامج حواري استضاف عددا من المشاركين في وقائع الجلسة الأولى للندوة ، وهذا الاهتمام يعكس حقيقة الدور الّذي تلعبهُ وسائل الإعلام على اختلاف أنواعها من أجل نشر الجدل وثقافة الاختلاف والمساهمة في تنوير الرأي العام المحلي والدولي حول عدد من الملفات والقضايا الهامة ومنها موضوع ندوتنا.
كما تشكر «الشروق» السادة المشاركين في الندوة لقبولهم المساهمة واتساع صدرهم لقبول الاختلافات والجدل وإنارتهم للموضوع من عديد الجوانب والمقاربات وهم:
الأستاذ المتميّز عبد الجليل التميمي: باحث في تاريخ الحركات الوطنية ورئيس مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات تونس، والدكتور عثمان السعدي: مناضل في جبهة التحرير الجزائرية وديبلوماسي سابق الجزائر، والأستاذ عبد السلام بوطيب: رئيس مركز الذاكرة المشتركة والمستقبل بالمغرب المغرب، والأستاذ مفتاح بونعيجة: مختص في التاريخ وأحد الباحثين في ملف الاعتذار والتعويضات الإيطالية لليبيا ليبيا، والدكتور الحبيب الجنحاني تونس: رئيس الجلسة الثانية، والدكتور المنصف ونّاس: مختص في العلوم الاجتماعية وله عدة أبحاث حول الأقطار المغاربيّة تونس، والأستاذ أحمد الإينوبلي: الأمين العام للاتحاد الديمقراطي الوحدوي تونس، والدكتور خالد عبيد: مختص في التاريخ السياسي للحركة الوطنية – تونس، والأستاذ عبد اللّه العبيدي: مختص في العلاقات والقانون الدولي وباحث في السياسات الخارجية، والسيّد يوسف الشاهد تونس: من الناشطين في سبيل بعث «الهيئة العربية لتصفية آثار الاستعمار».
وتأمل «الشروق» أن تُتاح فرص مماثلة لتدعيم الجدل والنقاش حول هذا الموضوع وغيره من الموضوعات والقضايا الّتي تهم شعوبنا المغاربية والعربية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.