كانت الندوة الفكرية الدّولية التي دأب على تنظيمها مهرجان أيام قرطاج المسرحية في دوراته الأولى من المحطات الرّئيسية التي تشدّ إليها جمهور المتابعين من المختصين في الشأن المسرحي من مخرجين وكتاب مسرحيين ونقاد وجامعيين ونخب فكرية و طلبة . فبفضل تلك الندوات الفكرية الدولية أمكن للمتابع إدراك الجانب الفكري والمعرفي حول المسرح وتمثل المسرح جهدا فكريا وتصورا ثقافيا عميقا غير منفصل عن الحياة , والاطلاع على جملة الأفكار الحاصلة حول الفعل المسرحي وتطوره. غير أن تلك اللقاءات الفكرية والمعرفية والنقدية قد زالت منذ قيام تلك الدورات الأخيرة التي تولى فيها محمد إدريس إدارة المهرجان , حتى بات الاحتفال بالمسرح عنده في تعارض صارخ مع الفكر والمعرفة والحوار, وتحوّل المسرح إلى مجرد عروض محمولة على ارتجال الشعارات والعناوين العريضة التي تحتفظ لنفسها بالوعود . كانت الندوات الفكرية مكملة وسندا للمجهود الإبداعي المسرحي, وهوما تدركه كبريات المهرجانات المسرحية العالمية , كما هوحال مهرجان آفنيون في كل دورة من دوراته حيث الندوة واللقاءات الفكرية هي بمثابة المحرار للتّعرف على الاتجاهات الكبرى والمشاغل الأساسية للإبداع المسرحي في اتصاله بالمشاغل الفكرية والجمالية والاجتماعية والسياسية. فالمسرح في قلب المشغل الاجتماعي والمعرفي والتربوي, وليس مجرد بذخ احتفالي زائل يقيمه أناس مجهولون لجماهير مجهولة, والمسرح بالأساس خدمة اجتماعية ولا يمكن أن تكون هذه الخدمة الاجتماعية متنصّلة عن فلسفة تضبط أصولها وتحرّر آفاقها. ولأننا ذكرنا في هذا السياق مهرجان آفنيون, فإن التطور المعرفي الحاصل والاختيارات الفكرية والجمالية القائم في المسرح الأوروبي كانت إرهاصاتها الفكرية ناشئة في دورات هذا المهرجان وناضجة على وهج الحوار الفكري الدائم بين المبدع والمتلقي طوال المهرجان الذي تصاغ من خلاله مشاريع التحولات الفكرية العميقة التي تخترق الممارسة المسرحية وتؤثر في توجهاتها وتحدد فاعليتها . لكن الندوة الفكرية الدولية التي جاءت في سياق الاحتفال بمائوية المسرح التونسي والتي جاءت متزامنة مع فعاليات أيام قرطاج المسرحية أعادت الى هذه الدورة تلك النكهة القديمة التي باتت معلقة منذ تخلي أيام قرطاج المسرحية عن الفكر والمعرفة والحوار واكتفت فقط بالمظهر الاحتفالي. لقد ساندت هذه الندوة فاعلية هذا المهرجان بشكل مصادف طوال يومين من الأطاريح والنقاش والجدل والحوار النظري والنقدي, وبينت هذه الندوة الفكرية مدى «الجوع إلى الحوار» (على حد عبارة سعد الله ونوس) حول الشأن المسرحي وجدية تطارح مشاكله والنظر في آفاقه المستقبلية خاصة من المشاركين التونسيين نقادا وجامعيين ومسرحيين . وبالمقابل وجدت إدارة مهرجان أيام قرطاج المسرحية الفرصة لإقامة سلسلة من اللقاءات الفضفاضة حول الكتابة المسرحية والعناية بشؤون المسرح الفرنسي والخوض في مشاغله وهمومه . والحال أن المسرح التونسي هوالأولى والجدير بالاهتمام .