كان الثلج يغطي شوارع باريس في ذلك اليوم الشتائي البارد الذي قررت فيه زيارة أوغست رودان، الفنان العبقري والنحات الاكثر شهرة ورائد النحت الحديث الذي استطاع أن يتجاوز عقدة رفض الجمهور والنقاد على حد السواء في أعماله الاولى. أواخر ديسمبر كانت باريس تحت سماء غائمة وثلوج وأمطار، كم حلمت بهذا الطقس البديع في طفولتي هكذا كنت أحدث نفسي وأنا في مترو الخط 13 في طريقي الى الدائرة السابعة وتحديدا في نهج De varenne عدد 79، وحدها الامطار تجدد روحي وتحيي طفولتي المنهكة برماد الايام والليالي. لم يكن الوصول صعبا الى حديقة قصر بورين وهي الحديقة الثالثة بعد حديقة قصر فرساي وحديقة اللوكسمبورغ في الدائرة الباريسية الخامسة، في هذا القصر أقام أوغست رودان بعد أن غادر بيته في Meudon وفي هذا القصر أقام جان كوكتو وماتيس وبعد نضال طويل مع المؤسسات الرسمية تمكن عدد من المبدعين الفرنسيين من افتكاك قرار لتحويل القصر والحديقة الى متحف يحمل اسم رودان بعد موته بعامين إذ توفي رودان في 17 نوفمبر 1917 وهو من مواليد 12 نوفمبر 1940 وقد أعاد المهندس جاك شاغار تصميم الحديقة لتكون فضاء تابعا للمتحف على مسافة 30 ألف متر مربع. العبقري بمجرد دخولك الى الحديقة وقبل دخول القصر بطابقيه والسبعة عشرة غرفة تسترعي انتباهك أشهر أعمال رودان «المفكر» هذا النحت الذي صنع شهرة رودان وكان أنجزه سنة 1880 بعد عشرين عاما من احترافه النحت وكان العمل الاول الذي أنجزه نحتا لوالده وبين زوايا الحديقة يتجول الزوار بين أعمال رودان التي مازالت تنبض بالحياة مثل «القبلة» 1886و«الإيدي» و«الظل الثلاثة» 1881 و«القبعة» 1875 و«رأس الظل» 1880 و«رجل من العصر البرنزي» 1877 و«الراقص الكمبودي» 1906 و«الفجر» و«بوابة الجحيم». وفي قاعات المتحف أعمال أخرى لرودان ولصديقته كاميل كلوديل (1864 1943) شقيقة صديقه الشاعر بول كلوديل التي عاشت في متحفه وعانت من تقلب مزاجه فعاشت قسوة الحب مع فنان عبقري يكبرها بربع قرن وتعلمت على يديه تقنيات النحت الاولى وقادها الحب الى مصحة الامراض النفسية التي أنهت فيها حياتها وأقامت فيها ثلاثين عاما لم يكن أحد يزورها فيها إلا شقيقها الشاعر مرة في السنة! انسحقت كاميل كلوديل تحت عصف الحب وهيجانه فكانت تصنع أشكالا ووجوها هشة، متألمة وبعد أن هجرت مرسم رودان بسبب اليأس من الحب اللامجدي عاشت في الشارع وعانت مرارة الفقر والحرمان الى أن انتهى بها الحال الى مصحة للامراض النفسية، انه جنون الفن وقسوة الحب. في غرف المتحف لن تستطيع الهرب من طيف كاميل كلوديل التي كانت النموذج الذي اعتمده رودان في العديد من أعماله التي رسم فيها المرأة لكن الفنان الكبير لم يكن يعبأ بأحاسيس تلك العاشقة الصغيرة التي ماتت بعد رحلة مع المرض واليأس والحرمان، كما لا يمكن أن تنسى القصة الغريبة التي جمعت بين رودان والشاعر الالماني ريلكه الذي كتب له «أنا قادم الى باريس هذا الخريف لكي ألتقي بك وأغمس نفسي في أعمالك الابداعية» حدث هذا سنة 1902 ووصل ريلكه الى باريس وكان لا يجيد أكثر من بعض الكلمات والجمل بالفرنسية آنذاك ولم يكن حال رودان مع اللغة الالمانية أفضل وفي شهر واحد ورغم مشكلة اللغة كتب ريلكه كتابه عن رودان الذي ترجم فيه افتتانه بأعماله النحتية وهو الافتتان الذي تترجمه عديد القصائد التي كتبها ريلكه خلال الفترة التي عاشها مع رودان. لم يهتم أوغست رودان بالكتاب في البداية، لكن الترجمة الفرنسية التي صدرت سنة 1905 أقنعته بعبقرية ريلكه فدعاه الى الاقامة في بيته في Meudon. وفي إقامته الثانية اقترب الشاعر من مثله الاعلى الى أن أصبح كاتبه الخاص لكن رودان ضاق ذرعا بتدخل ريلكه في الكثير من «شؤونه الفنية» كما قال فأطرده وكانت هذه الحادثة مؤلمة جدا لشاعر افتتن بنحات متقلّب المزاج فكتب «طردني مثل خادم سارق». محطات في غرف القصر عدد كبير ليس من أعمال رودان فقط بل من مقتنياته أيضا من لوحات ومنحوتات وتحف قديمة ومن بين مقتنياته أعمال لفان غوغ ومونيه ورينوار وكاريير وما رسمه من لوحات مائية في بداياته ويصل عددها الى حوالي 8 آلاف و8 آلاف صورة فوتوغرافية ويعرض هذا الرصيد في القاعة التاسعة مرة كل ثلاثة أشهر وأغلب أعماله المائية مستوحاة من طبيعة بلجيكا وايطاليا وأشعار بودلير ودانتي وكان رودان قد سافر في شبابه الى روما ودرس النحت هناك وخاصة أعمال ميكيلا نجيلو وكان في طفولته يتردد على اللوفر ودرس في مدرسة فنون جميلة في الحي اللاتيني وحين سعى الى دخول مدرسة باريس للفنون الجميلة رفض ثلاث مرات فاتجه الى دراسة الديكور وانخرط في اتحاد فناني الديكور فوجد نفسه قريبا من دولكروا وغوتييه مما أعاد له الثقة في نفسه بعد أن عانى من الرفض من النقاد والجمهور على حد السواء. ولعل مسيرة رودان نموذج للتحدي وللاصرار وهي لا تختلف كثيرا عن سيرة فان غوغ فكلاهما واجه الرفض والتغافل والاهمال النقدي قبل أن يصبح كلاهما معلما عالميا يزور متحفهما في كل عام ملايين الناس من مختلف الجنسيات. الخلود لا أعرف لماذا أتذكر العالم العربي كلما انتشت روحي بسيرة العباقرة من الفنانين والنحاتين، فهذا المتحف لا نظير له في العالم العربي ليس لانه لا يوجد عباقرة بل لأننا لا نحترم الذاكرة فمتحف رودان لم ينجز بقرار إداري بل كانت نتيجة حملة قادها عدد من الفنانين قبل مونيه وميريو وبوانكاريه وكليمنصو وبدأت المعركة قبل وفاة رودان في 1916 وفي 1917 رحل دون أن يرى متحفه الذي افتتح سنة 1919 ليكون مزارا لعشاق النحت الذين يزورونه من كل العالم لاكتشاف حياة فنان خصص حياته لقراءة الجسد الانساني فنحت الحركة والسكون والصمت دون أن ينسى الضوء الذي يسكبه على الجسد فيمنح حياة كالتي تنبعث الآن من كل أعماله النحتية والمائية. وأنا أغادر حديقة رودان كانت باريس تغرق في الثلج والامطار أواخر سنة 2008 بل في يومها الاخير، هكذا تمضي السنوات ويرحل الزائرون ومازال رودان يملأ المكان والزمان وتلك عبقرية الفن الخالدة.