في الشعر العربي قصيدة نالت شهرة كبيرة وسارت معظم أبياتها مسرى الأمثال، ولا يكاد ينسبها أحد إلى غير السموءل المتوفَّى نحو سنة 95 ق ه الموافق ل 560م وهو من الشعراء العرب من يهود يثرب قبل الإسلام، باستثناء بعض العلماء الراسخين في العلم الذين نسبوها إلى شاعر آخر مظلوم سُلب حقه فيها ولم يجد من يرجعه إليه، فأردت التصدي لهذا الضيم، وأن أكون لسان دفاع لأعيد الحق السليب إلى صاحبه المظلوم بالاعتماد على بعض العلماء الذين يؤكدون نسبتها إليه، ومطلع هذه القصيدة: إذا المرء لم يَدنسْ من اللؤم عِرضهُ فكل رداء يرتديه جميلُ هذا الشاعر الذي يكاد يجزم كبار العلماء بنسبة هذه القصيدة إليه هو عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي المتوفَّى نحو سنة 190ه 805م ومنهم الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور في تفسيره الشهير: التحرير والتنوير (1/528)، وذلك عند استشهاده ببيتين منها، البيت الأول في تفسيره للآية 61 من سورة البقرة: (وَضُربَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ...): حيث قال: (والذلة الصّغار ...وهي ضد العزة ولذلك قابل بينهما السموءل والحارثي في قوله: وما ضَرَّنا أنا قليلٌ وجارُنا كثيرٌ، وجارُ الأكثرين ذليلُ واستشهد بالبيت الثاني من تلك اللامية في تفسيره للآية 102 من نفس السورة: (واتَّبَعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر... بقوله(1/528): (وقد أفادت الآية، بجمعها بين إثبات الضُّرِّ ونفي النفع الذي هو ضده، مفاد الحصر، فكأنه قيل: «ويتعلمون ما ليس إلا ضرًّا، كقول السموءل أو عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي: تسيل على حدِّ الضُّباتِ نفوسنا وليس على غير الضُّباتِ تسيلُ) والملاحظ أن ابن عاشور لم يؤكد نسبتها في المرتين السابقتين إلى أيّ من الشاعرين المذكورين. لذلك رجعت إلى ترجمة السموءل في كتاب «طبقات فحول الشعراء» لابن سلام الجُمَحي (139/231ه) في باب (طبقة شعراء يهود) (ص 236). فوجدته يقول عنه: (وفي يهود المدينة وأكنافها شعر جيد منهم: السموءل [بن غَرِيض] بن عاديا، من أهل تيماء...) وذكر من شعره ستة أبيات من قصيدة أخرى على البحر الخفيف وروي التاء المضمومة، ولو كانت هذه اللامية له لذكرها في هذا الباب الخاص بشعراء يهود أو لأشار إليها مجرد إشارة. وهذا ما جعلني أبحث في كتاب «طبقات الشعراء» لابن المعتز في فصل «أخبار الحارثي» فوجدته يتحدث عنه بكامل الإعجاب، وقال عنه بسنده: (كان الحارثي شاعرا مفلقا مفوّها مقتدرا مطبوعا وكان لا يشبه بشعره شعر المحدثين الحضريين، وكان نمطه نمط الأعراب، ولما قال قصيدته المعروفة العجيبة انقاد الشعراء وأذعنوا. وهو أحد مَن نُسِخ شعره بماء الذهب...) (ص: 276/277) وهي تقع في تسعة أبيات من البحر السريع، على روي العين، وبعد ما ذكرالأبيات قال: (فاجتمعت الشعراء والأدباء على أن هذه الأبيات ليست من نمط عصره وأن أحدا لا يطمع في مثلها. ولعمري إنه لكلام، مع فصاحته، وقلَّتِه، يُقَدِّرُ مَن يسمعه أنه سيأتي بمثله، فإذا رامه وجده أبعد من الثريا، وكذلك الشعر المتناهي الذي ليس قبله في الجودة غاية. وقد سُئل بعض العلماء فقيل: ما الشعر عندك؟ قال: السهل الممتنع.) وختم ابن المعتز حديثه عن الحارثي بقوله عن البيت الأخير منها: «هذا البيت سجدة للشعراء، ولو لم يكن في كِتابنا إلا شعر الحارثي لكان جليلا.» لكنه لم ينسب إليه القصيدة اللامية موضوع حديثنا، ولم يشر إليها، مما لا يجعلنا نؤكد أنها للحارثي. بعد هذا بحثت عن ترجمة السموءل، في معجم الأعلام للزركلي، وهو معاصر، فوجدته يقول عنه: «شاعر جاهلي حكيم، من سكان خيبر (في شمال المدينة)...أشهر شعره لاميته التي مطلعها: «إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه فكل رداء يرتديه جميلُ وهي من أجود الشعر. وفي علماء الأدب مَن ينسبها لعبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي)(5) وإذا به يعيدنا إلى نقطة البداية التي أشرنا إليها في تفسير ابن عاشور. بعد هذا بحثت في نفس المعجم عن ترجمة الحارثي فوجدته يقول عنه: (...شاعر فحل من بني الحارث بن كعب من قحطان. كان من سكان الفلجة، من الأراضي التابعة لدمشق في أيامه (يُطِلُّ عليها جبل عاملة) وقصد بغداد، فسجنه الرشيد العباسي، وجُهِلَ مصيرُه، وضاع أكثر شعره، وما بقي منه طبقته عالية، ومن العلماء مَن يجزم بأن من شعره «اللامية» المنسوبة للسموءل كلها أو أكثرها، وكان له ابنٌ شاعرٌ (محمد بن عبد الملك) وحفيدٌ شاعرٌ (الوليد بن محمد) وأخٌ شاعر (سعيد بن عبد الرحيم). وهذه الترجمة الموجزة تدل دلالة تكاد تكون قطعية على أن تلك اللامية له، فلنتأمل كلام صاحب الأعلام الذي نجد فيه كل الدلائل على أنها للحارثي دون تصريح. ورغم هذا الاقتناع فقد أردت أن أتأكد من هذا الموضوع فبحثت في كتاب «الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني وهو قديم، فوجدت فيه (أخبار السموءل ونسبه) (22: 108/ 113) لكنه لم يذكر هذه القصيدة ولم ينسبها إليه رغم أن حديثه عن السموءل قصير، وقد عودنا على ذكر كل ما يعرفه عن الشاعر الذي يترجم له، ولم يذكر من تلك القصيدة إلا أربعة أبيات في خبر آخر طويل عن الغناء، لا صلة له بترجمة السموءل، يهمنا منه قوله: «...ثم عاد إلى الجارية فتغنت بصوت لحكم الوادي: تُعَيِّرُنا أنّا قليلٌ عديدنا فقلت لها: إن الكرامَ قليلُ» وهكذا نرى أن أبا الفرج نسب الصوت أي اللحن إلى حكم الوادي ولم ينسب تلك الأبيات لا إلى السموءل ولا إلى الحارثي، ولكن الذي قام بفهرسة الكتاب، هو الذي نسبها إلى السموءل أو إلى ابنه شريح اعتمادا على شهرة تلك النسبة وذلك في فهرس القوافي، لأن واضعها، وهو من المعاصرين، لم تبْلغه نسبتها إلى الحارثي، بدليل أنه لم يشر إلى هذا الموضوع في تحقيقه لكتاب «طبقات الشعراء» لابن المعتز عند الحديث عن الحارثي كما ذكرنا. (6/295) وأخيرا أقول إذا كان المؤرخون القدماء للأدب العربي لم يثبتوا نسبتها إلى السموءل، والمحدثون من أصحاب معاجم الأعلام يرجحون نسبتها إلى الحارثي، فإني أرجح هذا الترجيح بل أثبته، وأطالب بإرجاع هذا الحق إلى صاحبه الذي فتح هارون الرشيد الباب لهضم حقوقه منذ أن حبسه لأسباب لا نعرفها، بمجرد دخوله بغداد، ومنذ ذلك الوقت استمر مؤرخو الأدب العربي في هذا التفريط في حق الشاعر العربي المسلم الصميم عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي وانساقوا مع مَن نسبها إلى ذلك الشاعر العربي اليهودي السموءل بن عُرَيْض (بالعين وبالتصغير) بن عاديا. وهكذا نرى أنه إذا كان مؤرخو الأدب العربي القدماء والدارسون المحدثون لم يستطيعوا استرجاع قصيدة رائعة من شاعر عربي من أهل يثرب، وهو اسم المدينة القديم يدين بدين موسى عليه السلام قبل ظهور الإسلام يسمى السموءل (أو صموييل)، إلى صاحبها العربي الصميم من جبل عامل بجنوب لبنان واسمه عبد الملك بن عبد الله، فكيف يستطيع ساسة العرب استرجاع أرض شاسعة تسمى فلسطين إلى أصحابها من العرب المسلمين والمسيحيين واليهود العرب؟ هذا إذا لم يكن البعض من هؤلاء الساسة قد ساعدوا على ضياع هذا الحق كما أضاع أخوال طرفة بن العبد حقه في إرث أمه «وردة» فقال فيهم: ما تنظرون بحقِّ وردةَ فيكمُ صغُرَ البنونَ ورهط وردةَ غُيََّبُ وعندئذ يمكن أن نردد هذا البيت المناسب للمقام وللوضع الراهن من معلقة طرفة في ظلم الأقارب، الذين كثيرا ما تكون أعمالهم أقسَى من لسع العقارب: وظلم ذوي القربَى أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند