صفاقس: فتح محاضر عدلية ضدّ أشخاص شاركوا في أحداث عنف بمنطقتي العامرة وجبنيانة (مصدر قضائي)    اختتام أشغال الدورة 25 للجنة العسكرية المشتركة لتونس وإيطاليا    هيئة الانتخابات:" التحديد الرسمي لموعد الانتخابات الرئاسية يكون بصدور امر لدعوة الناخبين"    جلسة عمل وزارية حول عودة التونسيين بالخارج    وزيرة الاقتصاد: الحكومة على اتم الاستعداد لمساندة ودعم قطاع صناعة مكونات الطائرات في تونس    الإقامات السياحية البديلة تمثل 9 بالمائة من معدل إختراق السوق وفق دراسة حديثة    مصر.. موقف صادم في الجامعة الأمريكية بالقاهرة    البطولة الافريقية للاندية البطلة للكرة الطائرة - مولدية بوسالم تنهزم امام الاهلي المصري 0-3 في الدور النهائي    رابطة الأبطال الافريقية - الترجي الرياضي يتحول الى بريتوريا للقاء صان داونز    الناشرون يدعون إلى التمديد في فترة معرض الكتاب ويطالبون بتكثيف الحملات الدعائية لاستقطاب الزوار    وزارة المرأة تنظم ندوة علميّة حول دور الكتاب في فك العزلة عن المسن    فيلم "إلى ابني" لظافر العابدين يتوج بجائزتين في مهرجان "هوليوود للفيلم العربي"    الاتحاد الجزائري يصدر بيانا رسميا بشأن مباراة نهضة بركان    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    الألعاب الأولمبية في باريس: برنامج ترويجي للسياحة بمناسبة المشاركة التونسية    فازا ب «الدربي وال«سكوديتو» انتر بطل مبكّرا وإنزاغي يتخطى مورينيو    المهدية .. للمُطالبة بتفعيل أمر إحداث محكمة استئناف ..المُحامون يُضربون عن العمل ويُقرّرون يوم غضب    أولا وأخيرا .. الله الله الله الله    بنزرت .. شملت مندوبية السياحة والبلديات ..استعدادات كبيرة للموسم السياحي الصيفي    فيروسات ، جوع وتصحّر .. كيف سنواجه بيئتنا «المريضة»؟    رمادة: حجز كميات من السجائر المهربة إثر كمين    نابل: السيطرة على حريق بشاحنة محملة بأطنان من مواد التنظيف    توزر.. يوم مفتوح احتفاء باليوم العالمي للكتاب    الليلة: أمطار متفرقة والحرارة تتراجع إلى 8 درجات    حنان قداس.. قرار منع التداول الإعلامي في قضية التآمر مازال ساريا    التضامن.. الإحتفاظ بشخص من أجل " خيانة مؤتمن "    النادي الصفاقسي : تربّص تحضيري بالحمامات استعدادا للقاء الترجّي الرياضي    أي تداعيات لاستقالة المبعوث الأممي على المشهد الليبي ؟    إكتشاف مُرعب.. بكتيريا جديدة قادرة على محو البشرية جمعاء!    ليبيا: ضبط 4 أشخاص حاولوا التسلل إلى تونس    عاجل/ إنتشال 7 جثث من شواطئ مختلفة في قابس    عاجل/ تلميذ يعتدي على زميلته بآلة حادة داخل القسم    يراكم السموم ويؤثر على القلب: تحذيرات من الباراسيتامول    طبرقة: فلاحو المنطقة السقوية طبرقة يوجهون نداء استغاثة    عاجل : الإفراج عن لاعب الاتحاد الرياضي المنستيري لكرة القدم عامر بلغيث    سيدي بوزيد: وفاة شخص واصابة 8 أشخاص في حادثي مرور    إنطلاق فعاليات الاجتماع ال4 لوزراء الشباب والرياضة لتجمع دول الساحل والصحراء    طلاق بالتراضي بين النادي الصفاقسي واللاعب الايفواري ستيفان قانالي    عاجل : مبروك كرشيد يخرج بهذا التصريح بعد مغادرته تونس    الجامعة تنجح في تأهيل لاعبة مزدوجة الجنسية لتقمص زي المنتخب الوطني لكرة اليد    جربة: إحتراق ''حافلة'' تابعة لجمعية لينا بن مهنّى    جندوبة: السيطرة على إصابات بمرض الجرب في صفوف تلاميذ    وزير الدفاع الايطالي في تونس    مصر: غرق حفيد داعية إسلامي مشهور في نهر النيل    جرايات في حدود 950 مليون دينار تُصرف شهريا.. مدير الضمان الإجتماعي يوضح    تونس : 94 سائحًا أمريكيًّا وبريطانيًّا يصلون الى ميناء سوسة اليوم    المرصد التونسي للمناخ يكشف تفاصيل التقلّبات الجوّية    بعد الاعتزال : لطفي العبدلي يعلن عودته لمهرجان قرطاج    نابل: الاحتفاظ بعنصر تكفيري مفتش عنه    بسبب فضيحة جنسية: استقالة هذا الاعلامي المشهور..!!    فظيع/ جريمة قتل تلميذ على يد زميله: تفاصيل ومعطيات صادمة..    وزارة الخارجية تنظم رحلة ترويجية لمنطقة الشمال الغربي لفائدة رؤساء بعثات دبلوماسية بتونس..    عاجل : وفيات في سقوط طائرتي هليكوبتر للبحرية الماليزية    جمعية منتجي بيض الاستهلاك تحذّر من بيض مهرّب قد يحمل انفلونزا الطيور    حادثة سقوط السور في القيروان: هذا ما قرره القضاء في حق المقاول والمهندس    بعد الجرائم المتكررة في حقه ...إذا سقطت هيبة المعلم، سقطت هيبة التعليم !    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشعر رهان خطير
الشاعر الآشوري الراحل سركون بولص:
نشر في الشعب يوم 08 - 12 - 2007

لم يذرف حبر مثلما ذرف على سركون بولص بعد وفاته ، منذ شهر عن رحيله ومازال الشعراء والأدباء يكتبون عن سركون في كل المجلات والجرائد العربية، وكأن رحيله مرآة لمصير الشعراء، معذبون في منفى الهجرة ومنفى الإقامة، ورغم أن سركون يعتبر من أهم شعراء ما بعد الستينات إلا أنه كان لابد أن ينتظر موته كي يكتشف شعره الجمهور العريض من القراء العرب؟
شاعر آخر يتوارى وبين أجفانه حلم أخير بالوطن ، وكأن الموت تحاول حمل الأخيار حتى تخفف عنهم جراح الأيام، هل كتب على شعراءنا أن يعيشوا في المنافي وأن يموتوا فيها، هل يستكثر الوطن على أبنائه أن يعيشوا فيه ويحبوه . رحل سركون بولص بعد أن عاش مغترباً ، ظل مسكوناً بالتراث العربي وتفاصيل الحياة اليومية في عراق الخمسينات ، أين كان الصبا والشباب وكأنه إتخذ من الذاكرة ملاذه الأول والأخير . وكشاعر حقيقي لجأ سركون إلى تجربته الحياتية وخبراته الفنية وثقافته الكونية ، كذلك إلى الذاكرة والتأمل والقدرة على الرصد وتشكيل المشهد والصورة ( أيان ترايط أو تهيم، لك تلك النغمة الأولى، في كل وصول وفي كل مغادرة ).
كتب سركون في بيان يوم الشعر «الشاعر وطنه الثاني القصيدة» ومن سخرية القدر أن المشكلة المهمة بعد موت سركون كانت أين سيدفن ؟ في أي وطن ؟ كيف يمكن أن يدفن في قصيدة ؟ مات بعيداً عن وطنه العراق ، وبعيداً عن مسكنه سان فرانسيسكو، كان في برلين ضيفاً على صديقه الشاعر مؤيد الراوي ، أدخل للعناية الفائقة في أحد مستشفيات برلين بسبب تشمع الكبد جراء نظرة الشاعر إلى طريقة عيشه في هذا الكون . عندما شعر بشيء من التحسن غادر المستشفى، مخالفاً قرار الأطباء، حدسه أخبره أن أيامه معدودة، لا وقت لديه للمستشفيات، كان يريد أن يترشف ما بقي له من الكأس ، صاح لأصدقائه:» الآن بدأت أعرف كتابة الشعر، من أين أتاني هذا الوهن « . من كروك إلى مقاهي بغداد المزدحمة، إلى بيروت الحداثة، إلى سان فرنسيسكو حيث الوليمة العارية «كتب «: هكذا أصبحت حياتي أشبه بجغرافيا لا يمكن تفسيرها بالمواقع والأماكن وصوت أيامي لم يعد قابلاً للتمني من قبل أزمنة الآخرين».
منذ فترة قريبة كان آخر لقاء لنا في الأردن، حملته بعيداً عن نغمات هاتفه الجوال، وهجوم الأصدقاء إلى مدينة الفحيص، كان يمكنه الحديث ساعات دون إنقطاع لكنه يتفادى الأحاديث الصحفية ، أما اللقاءات التلفزية فكانت شبه مستحيلة ، ومن حسن حظي انني إستطعت إغوائه لقبول ما أسماه (حوار الببغاء في قفص زجاجي) وها أنا أنقل هنا التسجيل الصوتي للحوار الوحيد الذي سجله سركون للتلفزيون آملة أن يتعرف عليه أكثر أحباء الشعر في تونس .
يعجبني إسمك (سركون ) إسم ميتولوجي؟
والدي سماني سرجون على إسم القائد الآشوري العظيم، لكني خيبت ظنه وأصبحت شاعرا.
لنبدأ الحديث عن الطفولة؟
ولدت سنة 44 في ضفاف الحبانية جزء من معسكر يسكن فيه الإنكليز، كان هناك القليل جداً من البيوت عشرة على الأكثر، مصطفة على ضفة البحيرة، عائلات آشورية أتت لاجئة كانت تعيش شمال العراق، حيث جرت مذابح الآشورين المشهورة تاريخياً، والتي شارك فيها الأكراد والفرس والأتراك والعرب، وجيء بالآشوريين إلى الحباينة لحمايتهم وأصبحت فيما بعد مقراً رئيسياً لهم ، كان والدي يعمل للإنكليز وبقيت عائلتي هناك إلى سنة 56 وبعد ذلك إنتقلنا إلى كركوك. كنت الثالث من خمسة أبناء، منذ بداية دراستي في المدسة الإبتدائية الوحيدة في الحباينة حفظت الشعر
كنت تحفظ الشعر بالعربية وتتكلم الآشورية؟
والدتي من الموصل تتكلم العربية إضافة إلى آشورية كلدان، وأكثر المسيحين في الشمال وخاصة الكلدان يتكلمون بالعربية.
بعد ذلك إنتقلت العائلة إلى كركوك؟
كركوك كانت مدينة غنية التنوع ، تتميز عن بقية مدن العراق بالتحرر والانفتاح الاجتماعي. سكانها خليط من العرب والأكراد والتركمان والآشوريين والأرمن واليهود والصابئة. اكتشاف النفط بكميات كبيرة حمل لها موظفين بريطانيين وألمان وفرنسيين والعديد من الجنسيات الأخرى أوربية وغير أوربية للعمل في شركة النفط العراقية البريطانية (إي بي سي) كانت اللغة الإنكليزية هي السائدة للتواصل مع الأجانب ، كان والدي يأخذني معه أحيانا إلى العمل مع الانجليز في مقراتهم وكان يتكلم معهم ببعض ما تعلمه من الكلمات الإنكليزية، وتواجد التركمان الذين يجيدون اللغة التركية ويتأثرون بما يحدث في تركيا من تحديث وعلمانية جراء التجربة الأتاتوركية أعطى لمدينة كركوك طابعاً خاصاً أكثر من أي مدينة عراقية أخرى، كل شيء كان جديد في كركوك، الحبانية مدينة صغيرة بينما كركوك كانت قديمة جداً قدم التاريخ ، وقد تمثلت في بنايات كقلعة كركوك التي تواجهك على الضفة الثانية من نهر(خاصة صو) كما يسميه التركمان وهو نهر يابس أكثر ايام السنة .التحديات التي وجدتها في الأزقة عند انتقالنا إلى كركوك من أطفال شرسين ، أصبحت بالنسبة لي نوعا من التحدي الشرس اللذيذ الذي يستفز طاقات أخرى كانت كامنة إلى حد الآن، قوميات متعددة من الأطفال، تؤلف عصابات صغيرة تقابل عصابات أخرى، قانون الطفولة لا يرحم وأعتقد انه ما زال سارياً على جميع أطفال العالم. .
متى زارتك ملكة الشعر ؟
جاءني الشعر مبكراً في الثانية عشرة من عمري ، كتبت قصيدة عن صياد مازلت أذكرها، لأن فكرة الصيد هي مفهوم الشاعر الحقيقي، الصياد يجلس كل صباح على البحر ويدلي بشبكه لعل سمكة عابرة تمر من هناك ، والشبكة هي القصيدة ، فإما تمسك الشعر أو يذهب في طريقه ، وعلى الشاعر أن ينسج تلك الشبكة وقد يستغرق ذلك طيلة حياة .في كركوك علمني والدي صيد السمك ، ربما كان لذلك تأثير على مخيلتي .وفي كركوك كتبت قصة قصيرة نشرتها في مجلة العاملون في النفط.
كنت دائماً على يقين من أن تكون شاعراً؟
كنت مغرماً بالأفلام السينمائية ، رغبت بأن أكون ممثلاً أو رساماً وقد شاركت بدور جثة في فيلم أمريكي حصلت لقاءه على سندويتش لحم، دخلت للدراسة في أكاديمية الفنون السينمائية ، فكرت أن أترك الشعر إلى الرسم ، درست الرسم والنحت وما زلت أحب الرسم كثيراً . لكن الشعر سيطر على كل شيء .
كانت كركوك بداية مسيرتك كشاعر؟
في كركوك تكونت مجموعة من الشعراء والكتاب الشباب المتمردين والمتطلعين إلى حياة جديدة وفن جديد، شكلوا ما سميت بعد «جماعة كركوك الأدبية»، برزت فيها أسماء عدة من الشعراء، حاولوا تغيير خارطة الشعر العراقي ، كان مشروع لتجاوز منتوج جيل الرواد الشعري ، جيل قصيدة التفعيلة وكان لجماعة كركوك أثرها العميق في التطورات الشعرية والأدبية التي شهدها العراق في العقود الأربعة الماضية.
في تلك السن المبكرة هل إخترت الشعر دون أي معرفة بالشعر ؟
أعتقد أن الشعر يختار الإنسان دون إدراك ، و للشعر موقع خاص تصل إليه بشروط معينة ، تدفعك إليها تجربتك الحياتية. جاءني الشعر مبكرا ، وكان كالضربة التي مازلت أسترجعها حتى في هذا الزمن المتأخر كلما حاولت أن أكتب قصيدة. الشعر نوع من السحر الذي من الممكن أن يغير حياتك كاملة، كما قصد ذلك ريلكة في قصيدة له عندما قال «عليك الآن أن تغير حياتك».
حملك الشعر إلى بغداد ؟
خرجت إلى الحياة في بغداد مدينة المقاهي والملاهي والحياة الليلية... والمكتبات أيضاً، وهناك نشرت عديداً من القصائد الحديثة وترجمات عديدة من الشعر الأمريكي ، في تلك الفترة )68_64(كان المجال مفتوحاً لتجاربنا الشعرية الجديدة ضمن بعض الصحف العراقية ومجلات لبنانية مثل مجلة «الشعر « لبوسف الخال و «حوار « لتوفيق صايغ . فاخذت أرسل كتاباتي إلى هناك كذلك لمجلة «الآداب» مع سهيل إدريس.
ثم قررت الذهاب إلى بيروت؟
كنت أتوق للذهاب ووجدت سبباً وجيهاً فقد رفضوا تعيني في وكالة الأنباء العراقية لأنني آشوري ، كان ممنوعاً تعيين الآشوريين في الجيش والأمن والإعلام ، ذهبت إلى بيروت التي فتحت لي ذراعيها كإمرأة عاشقة . المجتمع كان منفتحاً ومتسامحاً ، هناك إلتقيت كل الأسماء : يوسف الخال ، أنسي الحاج ، توفيق الصايغ ،وديع سعادة ، أدونيس وغيرهم... وحين قررت السفر ساعدني يوسف الخال للحصول على جواز سفر للهجرة إلى أمريكا.
كيف تنسج علاقة صادقة بين كتابة العربية والترجمة؟
الترجمة تجعل جميع اللغات والكتابات تتداخل وتتلاحم لتخلق شيئاً جديداً ، والشاعر الضعيف وحده هو من يتشبث بالنص المترجم ، يتحتم على الشاعر أن يقطع أشواطاً طويلة الى أن يحس بالنفس العميق للغة العربية ، باللهاث الكامل وراء المفردة العربية ، الذي يستجير به ويدفعه إلى التعبير بشكل حقيقي عن مضمرات ، هي أصلا كامنة في الشعر العربي، وعلى هذا الشاعر أن يكرس نفسه طويلا للبحث عن صوته، الغوص في ذاته، ولتأسيس إرتباط حقيقي بين قصيدته وكوامل الشعر العربي بمطلقه، إنها معادلة صعبة جداً، طرفاها البحث عن ذاته الحقيقة وعن لغته المستقبلية، لكل شاعر طريق وجميع الطرق تؤدي إلى القصيدة الجدية، ولا يمكن لنا أن نفسر الأشياء بهذه السهولة إلا إذا كنا مغرضين كما هم نقاد قصيدة النثر الحاليون.
هل كانت بداية قصيدة النثر في مجلة شعر في الستينات ، أم قبل ذلك عندما بدأت مجموعة كركوك في الخمسينات؟
لا يمكن تأريخ قصيدة النثر، تاريخ قصيدة النثر العربية حدث بشكل اعتباطي، الأكاديميون لا يعول عليهم في تقصي أصول هذه القصيدة ، لسبب واحد بسيط، وهو أنهم مطيعون بشكل مفرط ومبالغ فيه للنظرة السائدة ، وهي أصلاً مستقاة من كتاب فرنسي هو قصيدة النثر من بودلير الى يومنا هذا، لسوزان برناد . هنا يكمن الخطأ ... كتاب برناد... هو أصلا عن قصيدة النثر الحقة، أي القصيدة المكتوبة شكلاً كالمقال دون تقطيع، ولا تأتي القصيدة إلا عندما يقطع الشاعر قصيدته مثل أي أبيات. كما في قصيدة عادية، القصائد التي كتبها بودلير وسماها حكايات و قصيدة نثر او قصص صغيرة ، نسج فيها بودلير على منوال أدكارألن بو قصائد اخرى مكتوبة دون وزن ومقطعة شعرياً كما في قصيدته ( مدينة في البحر) ، وفي نفس الوقت كان والت ويتمان يكتب أوراق العشب، وهي ملحمة الشعر المكتوب نثراً بامتياز... إذاً بدأً لا يكمن أصل قصيدة النثر في النماذج الفرنسية ، فهي بحد ذاتها تقليد للنموذج الامريكي وخصوصاً عند بودلير وتأثره بأدكار ألن بو. وفي رأيي تكمن القضية في كيفية أخذ المفردات القديمة ووضعها في محيط جديد .جبران والريحاني كتبا قصيدة النثر ، وتأثرا بويتمان ، ثم جاءت مجلة «شعر « وقدمت محمد الماغوط ، رومانسي في لغته ورؤيته ، وهو يكتب حقاً ما يمكن أن نسميه نثراً ، أنسي الحاج الذي تأثر باللغة الفرنسية كان في بداياته رومنسياً ، أما توفيق الصايغ فقد أدرك مبكراً أن قصيدة النثر ينبغي أن تكون لها لغتها الخاصة ونسيجها المتفرد وعالمها الغريب .
ذكرت أن يوسف الصايغ هو أعظم شعراء قصيدة النثر ؟
أعتقد أن توفيق الصايغ من أهم شعراء قصيدة النثر ، كتب في بداية الخمسينات ثلاثون قصيدة نثر، مازالت صامدة أمام القراءة، رغم أن العديد من القصائد الموزونة لم تصمد أمام الزمن، توفيق الصايغ هو من أدخل على الشعر العربي التصوف المسيحي بعد أن عاد إلى التوراة والإنجيل والقرآن والكتب الدينية الأخرى، إختلاف قصيدة النثر الحديثة عند يوسف الصايغ ليس في إختلافها عن القصيدة الموزونة، وإنما في تركيبتها الجديدة التي هي الحداثة بعينها، فالشاعر الذي إبتعد عن التفاعيل الخليلية لم يفعل ذلك بحثاً أو لمجرد أنه لا يتقن أصول اللعبة الوزنية.
لماذا لم يعط النقاد توفيق الصايغ حقه من الدراسة؟
أهمل النقاد توفيق الصايغ بسبب رموزه المسيحية، كان الشعر القومي هو السائد آنذاك، والشيء الإيجابي أن الشعراء الجدد أزاحوا هذا التمثال ،توفيق الصايغ مر بتجربة قاهرة فقد قتل كشاعر وكإنسان، قد يكون شعره غريباً، لكن كل شعر عظيم يبدو غريباً أول الأمر إلى أن تألف الأذن إيقاعاته. والرموز الموجودة فيه موجودة في التوراة والإنجيل وحتى في القرآن، توفيق الصايغ ليس متديناً بالمعنى الضيق، إنه متصوف روحاني باطني .
الشاعر الذي اختار أن ينبذ التفاعيل الخليلية لم يفعل ذلك بحثاً او لمجرد انه لا يتقن اصول اللعبة الوزنية، وفي هذا صفعة موجهة إلى وجوه النقاد الاكاديميون ، الذين يتناولون موضوعة قصيدة النثر، ويحاولون قدر طاقاتهم أن يحبسوها في هذه الخانة الضيقة، أي كونها معارضة للمنحى الوزني .في العراق كان هناك شخص يحمل في ذاته كل التناقضات التي تحدثنا عنها ، ومجمل المعارك الذاتية مع تاريخ الشعر العربي ، بالاضافة الى شخصية شرسة وهجومية وبوهيمية وثائرة أسمه ( حسين مردان ) وفي كتابات حسين مردان تكمن بذرة قصيدة النثر المستقبلية ، كحالة فلسفية تستقطب المواجهة الكاملة لعصرنا هذا، ولعله يشارك شعراء آخرين في العالم وخصوصاً في عقد الستينيات بثورته تلك وتأكده على التدمير الذاتي، أي الثورة ضد المجتمع كسلوك حياتي ينعكس على الكتابة وكأنما في مرآة محدبة.
وهل ثمة مقارنة ما بين حسين مردان ومحمد الماغوط؟
إذا قارنا حسين مردان بالماغوط لرأينا قطبين مختلفين تماماً ، الماغوط يحاول أن يضحكنا فهو طريف ، اما حسين مردان فيحاول أن ينزل بنا الى الهاوية ، هاويته التي هي في النهاية ، تراثنا المشترك ، من هذه القاعدة التي بناها حسين مردان إنطلقت أصوات أخرى ، أصواتنا نحن الستينيين التي لا تكتفي بأن تقدم مجرد قصيدة يتملأها القاريء ، وإنما نطمح إلى أن يصطدم ذلك القاريء بفاجعية الأمر الواقع ، أي أن نكتب قصيدة في عالم مشحون بالتناقضات والجنون والرعب والاحتقار والتدمير ، هذه هي بيضة العنقاء التي أفرخها الغضب في العراق ! والبقية تاريخ موجود مكتوب بشكل سيء ، لان من هيمن على تقديم هذا التاريخ كانوا بضعة أشخاص ، لهم إنتماءات ضيقة وأدوات نرجسية متضخمة ، لا تصلح لأن تبوئهم تلك المكانة .. سامي مهدي أولهم وثانيهم فاضل العزاوي ، هذا الثنائي الذي ينبغي تزويجه في زفة صاخبة ، والتخلص منهما ليتفرغ شعراء آخرون جديرون بهذه المهمة لتسجيل وقائع هذا التاريخ بشكل صادق
في الفترة التي إنطلقتم فيها في كتابة الشعر ظهرت إتجاهات مختلفة من الكتابة ضمن مفهوم الحداثة؟
الحداثة مفهوم غامض وصعب التفسير ويعتمد على موقف الشاعر الشخصي من الثقافة والعالم بشكل عام. كانت حداثة الرواد تشكيلا جديدا للتفكير الرومانسي الذي هو ثوري أصلا. وكانت متأثرة بتقنيات شعراء الحداثة في أوروبا كإليوت وستويل وعزرا باوند وأودن الذين خلقوا الحداثة الأوروبية في العشرينات والثلاثينات من هذا القرن، في حين أن الشعراء الذين جاؤوا بعدهم شعراء الستينات كانوا يقرأ ون لأجيال أخرى من شعراء الحداثة الثانية في أوروبا وأمريكا. فالتأثيرات التي فعلت فعلها في شعراء الستينات لم يعرف عنها شعراء الريادة الأولى أي شي ء، لأن ثقافتهم توقفت عند حدود الحداثة البدائية الأولى، حداثة إليوت وعزرا باوند.
هذا يعني حدوث قطيعة مع جيل الرواد؟
إن جيل الستينات كان جيل القطيعة لأنه تبنى أولا قصيدة النثر، و هي ثورة حقيقية ورفض كامل لأسس معينة إستند اليها ويحتمي بها الشعر العربي الكلاسيكي، والتي تفرع منها شعر الرواد الذي كسر العمود الشعري، وهذا لا يعني أبدا أن الشعر قد تحرر، فالسياب مثلا كتب بنفس النمط الذي كان يكتب فيه كيتس، فهو أحدث الشعراء على الاطلاق وأعتبره أهم شاعر عربي، كتب حسب أنماط موجودة في الشعر الانجليزي، وكانت ثقافته إنجليزية بحتة، وإتبع نفس التقنيات والقوانين التي كانت عند شعراء الرومانسية الانجليزية، وأنا أكن إعجاباً خاصاً للسياب ، وأعتبره من أكبر الشعراء المحدثين على الإطلاق، قرأته بشكل مختلف، أثرى قصائدي بالتفصيلات الداخلية العميقة...
هل يصح مثل هذا الحديث على الجيل الثاني من الرواد مثل سعدي يوسف؟
هذا جيل أخر يضم كلا من سعدي يوسف ومحمود البريكان ورشدي العامل وشعراء أخرين، وقعوا تاريخياً بين الرواد وبين الستينيين، ونطلق عليهم شعراء الخمسينات. فسعدي يوسف مثلا هو شاعر ذكي وواع، وكان في بداياته مدركاً بشكل جيد لهذه المسائل. والغريب أنه قد قام بوثبات مذهلة بتقنياته في شعره الباكر، دلكن سعدي يوسف مازال يحمل ذلك النفس الرومانتيكي الحديث ، لأن شخصيته الشعرية لازالت تتراوح بين قطبين، قطب الحداثة المطلقة وقطب الحداثة المقيدة. وفي هذا المجال خلق سعدي أنماطا جديدة في الشعر موسومة بطابعه الشخص ، لأنك تستطيع أن تتعرف على قصيدة سعدي أينما وجدتها وهو شاعر كبير ، ولم يخلق مع الرواد قطيعة كاملة، و بحكم عمره وموقعه التاريخي كان مجددا حقيقيا.
وهل تأثر جيلكم بتجربة جيل ما بعد الرواد؟
بالطبع فجزء من شعراء ذلك الجيل كانوا شعراء ايديولوجيين وجدوا عند أدونيس ضالتهم المنشودة.
هل شكلت تجربة أدونيس إضافة الى الشعر العربي الحديث؟
دون شك أن أدونيس شكل إضافة وهو شاعر عظيم ، وأنا لا أحب أي واحد أن يطعن بأدونيس ، هو شاعر لا يحتاج الى شهادات ولا يحتاج الى إثبات أي شيء، لأن نتاجه يقف هناك شامخا، رغم أنني أعتقد أن تجربتي الشعرية تختلف عن تجربة أدونيس ، ومفهومي هو أن على كل شاعر أن يبني عالماً خاصاً مختلف بمفاهيمه وإيقاعاته وتقاسيمه .
في ديوانك «الحياة قرب الأكروبول « القصائد المربوطة بكركوك والعراق والتراث الآشوري والصداقات القديمة-الجديدة ، أسبغت على الشعرية مسحة درامية؟
كركوك هي بداية الكتابة ، المنبع الذي سقاني كلمات الشعر ، والمكان الذي فتحت عيني على مواقف الشعر، لقد كتبت عن كركوك في كل كتبي وفي شكل خاص في كتابي الأخير «الأول والتالي» وفيه قصيدة اسمها نهار في كركوك. وهي قصيدة تعبر بالضبط عن صورة كركوك التي لا زالت تلازمني، وهي قصيدة كتبت في أمريكا بسان فرانسسكو.عندما ذهبت الى بغداد كان تركيبي الشعري قد ثبت وتصلب تقريبا ، كانت بغداد هي المنبر الحقيقي، والمكان الأوسع روحا، والأكثر إمتلاء بالحياة عندما وجدت نفسي فيها، كانت بغداد حين كانت تجربتي الشعرية قد نمت وترعرعت، فيها كان الخروج إلى العالم، إلى الحلم الكبير ،حيث الحب والجنس الذي كان ومازال شيئاً سرياً في كركوك ، الكركوي بالنسبة للبغدادي هو نوع من القروي يحمل تفكير الريفي.
هل تكتب بسهولة؟
أبداً، أنطلق من الكتابة التي تخونني أحياناً قبل النهاية، تأبى الإنصياع، تحرن كالحمير .
ماذا تفعل عندما تهجرك القصيدة ؟
لا شيء، أخرج في جولة مهما كان الوقت متأخراً فأنا ممن يكتبون ليلاً، وغالباً تعود معي القصيدة لأدونها .
عن طريق كتاباتك قدمت حركة البتنيكس الأمريكية الشعرية؟
قرأت في كركوك قصائد البيتنيكس خاصة غينسبرغ في صحف ومجلات، ثم عندما ذهبت إلى بغداد إطلعت على قصائد غينسبرغ في المكتبة الأمريكية ، وتعرفت على قصائد المجموعة الطاغية لشعراء البيتنيكس في فترة الستينات، وعند وصولي إلى بيروت وجدت كتباً كثيرة وطلبت من يوسف الخال كتابة ملف خاص عن حركة البيتنيكس لمجلة(شعر) فوافق مباشرة، أنجزت العمل خلال شهرين وقد صدر هذا العدد وفيه قصائد لغينسبرغ ومنكور، وسنايدر وأغلب الشعراء المهمين في هذه الحركة ، ترجمت كذلك أغلفة الإسطوانات التي سجلوها في تلك الفترة .
كان لقصيدة «عواء» لغينسبيرغ تأثيراً واضحاً على جماعة شعراء «كركوك»؟
إنتظرت طويلاً قبل محاولة ترجمة قصيدة عواء ، فهي قصيدة صعبة الترجمة ، في اليونان إشتغلت طويلاً على ترجمتها ، قصيدة كتبت في سان فرنسيسكو مليئة بأسماء الأماكن والأشخاص وفيها أنواع من الخمور والمخدرات وأشياء كانت شائعة في ذلك الحين، ولن يعرفها إلا من عاش في سان فرنسيسكو . إنها تصقع قارئها بشكل واضح ، وقد تعرفت على غينسبيرغ وأصبحنا أصدقاء ، توفي في الثمانين من العمر ، كذلك غريغوري كورسو الذي أعتبره أفضل شعراء حركة البيتنيكس، كرواك الرائع توفي باكراً بسبب الكحول والمخدرات، لورنس فرلنغيتي مازال حياً، يعيش برفاهية من خلال مكتبة «أضواء المدينة» وقد كنت أقضي معظم الوقت في مكتبته في ساحة كولومبس والتي نشرت قصيدة «عواء» التي أحدثت تجديداً مهماً في المشهد الثقافي الأمريكي ، والتي درت على ناشرها أموالاً طائلة ،وما تزال (عواء) تصدر في طبعات متواصلة لا تنقطع، ذلك أن الجيل الجديد في أمريكا أعاد قراءة هذه القصيدة، ويحاول أن يجد فيها، كما وجد الجيل الستيني رموزاً معينة تدفعه إلى الإيمان بشيء ما. هي قصيدة مهمة صدرت حتى الآن طبعتها الأربعون، أو ربما أكثر من ذلك. لذلك إغتنى فرلنغيتي من نشرهذه القصيدة الذي بيع ديوانها أكثر من مليوني نسخة، ولا أعتقد أن هناك كتاباً شعرياً في التاريخ باع هذه الكمية الكبيرة. غينسبرغ هو إنسان عظيم، وشاعر مبدع، وآخر مرة رأيته كانت في مدينة أوكلاند، عبر الخليج، وهي مدينة قريبة من سان فرانسيسكو. إتصل بي ذات مرة، وقال لي أنه سوف يقوم بقراءة شعرية، وسيبعث المكافأة لأطفال فلسطين، وهو يهودي بالمناسبة. وقد اقترح عليّ ذات مرة أن نذهب إلى فلسطين، ونقرأ قصيدة ( عواء ) معاً، هو يقرأ النص الأصلي بالإنكليزية وأنا أقرأ الترجمة بالعربية أمام حائط المبكى أو أمام قبة الصخرة. فقلت له هذه فكرة شعرية عظيمة، لكنك سترجع سالماً إلى أمريكا، وربما أعلّق أنا على غصن شجرة هناك. الرجل كان شاعراً عظيماً، وعندما وافته المنية كنت في أبو ظبي، ألقيت محاضرة عن حياته وتجربته الشعرية. إذاً أن جيل البيتنكس هو جيل عظيم، وأثر فينا أخلاقياً من دون شك، وعلمنا أن نكون أحراراً، وأن نجرب الكتابة بأساليب جديدة من دون خوف. وعندما كنت في سان فرانسيسكو دخلت في معمعة الحرية والثورة الجنسية وحتى المخدرات. ولم لا ، فعلى الشاعر أن يجرب كل هذه الأشياء.
ماهي القصيدة التي تعتبرها نقطة تحول في مسيرتك الشعرية؟
دون أي تردد قصيدة «آلام بودلير وصلت « كتبت هذه القصيدة في قرية «شطين» حيث يسكن الصديق وديع سعادة ، قرية جبلية تطل على واد رائع وجميل ، كنت قد جربت الحب الحقيقي لأول مرة مع صديقة لبنانية درزية ما زلت أحبها إلى اليوم ، أحببت من خلالها كل الدروز . سنة بعد خروجي من العراق، في الثانية والعشرين من عمري ، كنت في حالة تجلي عاطفي، فكري وفلسفي، أمارس كل الأعمال الإنسانية في بيروت العاصمة الذهبية، المكان الأسطوري لقروي مثلي . أعطيت القصيدة ليوسف الخال فقرر نشرها لوحدها في عدد مجلة اشعرب دون أي قصيدة أخرى ، ومن الناحية الفنية أعتبر قصيدة (آلام بودلير وصلت) إحتواء كاملاً لأعماق القصيدة وتركيبتها ومواجهتها للموضوع ، أنا من الشعراء الذين يعملون طويلاً على القصيدة ، لكن هناك بعض القصائد أنشرها كما هي دون حذف أو تعديل منها قصيدة (آلام بودلير وصلت ) .
تعتبر نفسك شاعراً وقصاصاً في نفس الوقت؟
أحب كتابة القصص ، ولا فرق بين القصيدة والقصة ، نشرت مجموعة أولى (غرفة مهجورة) ولدي العديد من قصص منشورة وأخرى غير منشورة ، وهي مختارات تحمل نكهة خاصة من نفسي القصصي ، وأفكر بإصدار مجموعة قصصية مهمة تعبر عما أفكر فيه بشكل حقيقي . كما ترجمت لإيتيل عدنان (هناك في ضياء . وظلمة النفس . والآخر ) أنا أشتغل على عدة جبهات، أترجم، وأكتب الشعر، وأكتب القصة، وأشتغل على كتابين أو ثلاثة كتب في آنٍ واحد.
هل تفكر بكتابة سيرة ذاتية؟
كتبت (شهود على الضفاف) وهو شبه سيرة ذاتية ، ثم صدر لي كتاب بالألمانية عبارة عن سيرة ذاتية بعنوان(أساطير وتراث) مكتوب بطريقة سرد وحوارات وصور فوتوغرافية.
في رأيك هل للشاعر دور فيما يحدث في الوطن العربي؟
ما يحدث اليوم في الوطن العربي يحدث في العالم أجمع، ماذا يفعل الشاعر وكيف يستجيب؟ الشعراء مختلفون، هناك الشاعر رافع إيديولوجية معينة يعبر عنها من خلال أبيات تعكس موقفه السياسي، غالباً إيديولوجية حزبية معينة. أو سياسات عامة أو خاصة، وهناك الشاعر الذي يتعامل مع إنتمائه الإنساني ، هذا الشاعر يمكنه من خلال كتاباته أن يعطي شهادة صادقة عن التاريخ.
بعد سنوات طويلة من الغربة عن الوطن (العراق) أرى في مجموعتك التي صدرت عام 1996 والتي هي بعنوان (حامل الفانوس في ليل الذئاب) ميول قوية الى الحبانية، حيث ولادة سركون بولص، وكركوك وبغداد ومناطق أخرى، هل تشعر بالحنين الذي يشدك الى أماكنك الاولى ؟
نعم لقد رأيت الضرورة موجودة وتدفعني لتقصي ذلك التراب الذي مشيت عليه حافياً، ففي النهاية ماذا يمكنك أن تتشبث فيه وتسميه ملاذك الروحي والحقيقي، إن لم تكن تلك الاماكن التي تجلت فيها روحك الحقيقة، وتكونت فيها ذاتك الكاملة، كما في أماكن الطفولة والحدائق والأزقة والروائح والأشخاص، والنخلات المغبرة، والوجوه العراقية الكئيبة والفرحة في نفس الوقت، هذا هو أصلي وتلك جذوري وأنا أحتاجها اليوم أكثر من أي وقت مضى، وما هو الشعر في النهاية إن لم يكن فعل إستعادة والإحياء والقبض على الزمن الهارب . وحين عدت إلى العراق، ذهبت إلى كركوك حيث منزل طفولتي، خرج من البيت طفل صغير يشبهني تماماً، إبتسمت للزمن الذي أخذني بعيداً للطفولة، وعرفت أنني لن أعود فهناك من عاد مكاني .
الترحال على طريقتك هي حياة متعددة يحسدك عليها كثيرون وأنا أولهم ؟
لماذا لا ترحلين ؟
كلنا يتوق للرحيل ، لكن العمر يصل متأخراً
أنصحك أن لاتؤخري الأمر ، إرحلي ... غادري هذه النقطة من الزمن، هذه البقعة من الأرض، هذا الحاضر الذي تستيقظي فيه، وإلا سيكون حاضرك جثة تموت وتتعفن، ولن يفيدك لا شانيل ولا إيف سان لوران .( لكنني لم أرحل وخالفت الوصية ) المرأة هي الكل في الكل رغم أنني لا أنشغل بها طوال الوقت، لكن لها حضور دائم في قصائدي. وعندي موقف معين من المرأة، أو لنقل من شعر الحب. إن موقفي يختلف مع الكثيرين من الشعراء. المرأة بالنسبة لي ليست مجرد جسد، وليست كما يقال رفيقة درب أبداً. المرأة بالنسبة لي هي نوع من المخلوق الأسطوري، أحياناً في قدرته أن يكون دليلاً فلسفياً للرجل في العالم، ولكن على الصعيد الواقعي المرأة هي تلك الصديقة والحبيبة التي يمكنها أن تضيء حياتك، إذا التقيت بالمرأة الحقيقية، أو المرأة الملاك، أما إذا التقيت بالمرأة الخطأ فعليك أن تعد عدة الهرب ، وتجد طريقاً تنقذ بها رقبتك من مخالبها التي لا تعرف الرحمة.( خلال الحديث كان يشعل سيجارة من سيجارة فسالته بلطف مشيرة إلى السيجارة)
هل من الحكمة أن تعامل جسمك هذه المعاملة المزرية؟
أنا بلا وطن، لا عائلة، لا عمل، لا حب، لا أملك إلا جسدي فدعيني أدمره كما أشاء.
أنت تملك شعرك؟
لا أملك شيئاً، شعري ملك الآخرين .
لماذا لاتخفف من التدخين؟
حاولت تبطيل التدخين ، عوضته بالنيكوتين ، ثم قالوا لي أن البيذنجان يحتوي على مادة النيكوتين، وفي الآخر صرت أدخن وأبتلع حبوب النيكوتين وآكل البيذنجان .
لماذا تكتب؟
أكتب لأن الكتابة بالنسبة لي هي الحياة، نوع من العذاب الحقيقي واللذة النهائية، مهمة قدسية وإيمان مطلق يستحق الشعر أن يكرس الشاعر حياته من أجلها . أنا قضيت أكثر من أربعين سنة في كتابة الشعر، وملازمة هذا الهم الجميل، ومع ذلك فأنا لا أريد أن أتظاهر بأنني قد كرّست حياتي للشعر أكثر من غيري ، لأنني موقن تماماً بأن هناك شعراء في هذا العالم ضحوا من أجل الشعر بأشياء كثيرة لا تصدّق. هناك شعراء يمكن لنا أن نعتبرهم شهداءً حقيقيين ضحوا بأنفسهم من أجل الشعر أمثال سيزار فاييخو، وهو أعظم شعراء العالم، مات في باريس من الجوع. وهناك شعراء آخرون كبار أمثال ناظم حكمت، ونيرودا عرفوا منذ البداية حجم المسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتقهم، لأن اختيار الشعر مسألة غير هينة على الإطلاق. الشعر عالم له أسرار لا تنتهي، ورهان خطير.
لماذا لاتعود؟
لو عدت سأموت حال عودتي.
(أي أنه كان يخشى الموت سركون ... كان يتفاداها ، لكنها تلك الموت السخيفة
موت الشعراء مبكر خصوصاً حين يأتي بحجم هذا الشاعر الذي تبدو اللغة معه مثل عجين أول وبلمسة طفولية مدهشة. لعله كتب قصيدته بأصابع الغربة والعجمة والتوحش والتفرد (شربل داغر)
شاعر العراق الوحيد! لا أكاد أعرفُ ممّن مارسوا قصيدة النثرِ، شاعراً ألَمَّ بتعقيدات قصيدةِ النثرِ، ومسؤولياتها، مثل ما ألَمَّ سركون بولص. مدخلُهُ إليها مختلفٌ تماماً. إنه ليس المدخلَ الفرانكوفونيّ إلي النصّ المُنْبَتّ، في فترةٍ مظلمةٍ من حياة الشعر الفرنسيّ: رامبو مقتلَعاً من متاريس الكومونة... مدخلُهُ، المدّ الشعريّ الأمريكيّ. مجدُ النصّ المتّصل. أطروحةُ تظاهرةِ الطلبة، حيثُ القصيدةُ والقيثارُ والساحةُ العامّة.(سعدي يوسف)
سركون، الذي يمكن أن يقضي نهاره في مكان وليله في مكان آخر. لأن المكان الحقيقي، بالنسبة له، هو القصيدة. لربما تسرع من يشاهده إلي الاعتقاد في أنه شاعر يمارس التشرد عن قناعة، لكن سركون شاعر دائم الترحال، لكأنما القصيدة بنت ذلك الترحال، الذي لا يكف عن تجديد معني القصيدة (محمد بنيس)
لا كهولة ولا شيخوخة، سركون بولص من الفتوة إلي الرحيل، كأن حياته هي الشعر الذي يكتبه، وليست الزمن الفيزيائي الذي يستغرقه، وهي ميزة لا تحدث كثيراً في الواقع، الشعراء فقط قادرون علي ذلك.سركون ظل الفتي الذي لا يكتهل ولا يشيخ. قصيدته حصنته ضد الزمن (قاسم حداد)
أنّ الحجم الكمّي لنتاجه الشعري لم يتناسب البتة مع حجم التأثير النوعي الهائل الذي مارسه، منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي وحتي اليوم في الواقع، على جيلين متعاقبين من الشعراء العرب، وشعراء قصيدة النثر علي نحو أخصّ (صبحي حديدي)
يرحل الشاعر تاركا لنا أن نتأمل حضوره الأكثر إشراقا.. حضوره الأكثر بقاء.. يرحل سركون بولص تاركا لنا شعره لنكمل طريقا بدأه.. ونصنع مع كل صبيحة بداية جديدة..(لينا الطيبي)
لم يعد الشاعر الكبير والصّديق الكبير والمشّاء الكبير بيننا، وإنّ رحيلاً مبكّراً كهذا لَيحفر في الرّوح هاوية عميقة. تظلّ لدينا أعماله، هي بمثابة وصيّته الشخصيّة، وديعته المثمّنة التي نعود إليها مراراً وتكراراً، لننهل بعرفان المتعلّم وصحوه من نقاء هذا الينبوع (كاظم جهاد)
سركون بولص هو الشاعر الذي خفف القصيدة من جاذبيتها... شاعر عراقي خرج على الغنائيّة، راح يصيخ السمع الى موسيقى خفيّة طالعة من أعماق النثر. هوائي وخفيف ومسافر، تسكن الأماكن نصه والمدن والحكايات القديمة. فالنثر مخزن الذاكرة، ذاكرة الآخرين أيضاً (بيار أبي صعب)
كان له أثر كبير في الأجيال العربية التي أعقبته. وأقبل الشعراء الشباب على قراءته والتمثل به، ووجدوا فيه «الأب» الذي يرفض أن يمارس أبوته، والشاعر المتجدد دوماً في تمرّده على الفصاحة والبلاغة، وفي انفتاحه على اليومي والعابر وفي استسلامه لإغراءات المخيلة واللاوعي (عبده وازن)
*أدونيس
كتب أدونيس هذا النص قبل يومين من وفاة سركون بولص، لينشر في كتاب يضم مختارات من شعر الراحل يصدر بالانكليزية عن دار بانيبال في لندن.
«بوصفها هيَ هيَ،
لا بوصفها وَزناً أو نثراً، ينظر سركون بولص إلى الكتابة الشعريّة
ويمارسها. الكتابة عنده وجودٌ آخر داخلَ الوجود. هكذا لا يُجابِه إلاّ نفسَه
فيما يجابه العالم. وإذ يتجنّب، ويحيد ويعتزل، فلغايةٍ واحدة، أن تكتمل المسافة التي تقتضيها هذه المجابهة، والتي تتيح له أن يُحسِن الرّؤية، لكي يعرفَ كيف
يخترقُ ويستشرف.
ولا يجادل
ليكن الخيرُ، كما هو، خيراً لأصحابه. وليكن الشرّ، كما هو، شرّاً لأصحابه.
وَلْيتصارعِ المتصارعون.
أمّا هو فيُؤْثِر البقاءَ في الضوء
في سرّة الشّيء،
عالياً، وعموديّاً.
القيَمُ أراجيح،
والضوء في ما وراء الجهات.
وما «الرسالة»؟
الماءُ، وديعاً، يَنفَذُ ويغوص.
الهواء يُلامس الوردَ والشوك باليد نفسِها.
والجَناحُ هو الأخُ الأقربُ إلى الأفق.
ولا فَصْلَ بين الواقع وما وراءه:
المخيّلة عند سركون بولص معجونةٌ بالمادّة كأنها جسدٌ آخر في جسده.
شعرُ سركون بولص يسألني ... لهذا أحبه.»
من هو سركون بولص ؟
سركون بولص أحد أعمدة «جماعة كركوك» ومن أهم شعراء المهجر الجدد، ترك العراق مهاجراً سنة 1969 إلى بيروت ثم أمريكا ، إتخذ من مدينة سان فرنسيسكو وطناً بديلاً ، ومن الشعر مهنته الوحيدة ، وعبر السفر والتنقل شحن نصه الشعري بثراء اللغة والفرادة ، نجح مع زميله من أيام بيروت الشاعر المهجري المقيم في أستراليا «وديع سعادة» في ترسيخ قصيدة النثر ومنحها زخماً ومكانة في المشهد العربي المعاصر .ومن أهم محطات مسيرة سركون «جماعة كركوك « التي ضمت أكثر تجارب الشعر العراقي الستيني مثل: سركون بولص ، فاضل الغزاوي ، مؤيد الراوي ، جان دمو ، وصلاح فائق .وغيرهم
رفد سركون بولص المكتبة العربية بالعديد من ترجماته الأمينة لإزرا باوند، أودن، ميرْون، شيللي، شكسبير، وليام كارلوس وليامز، سيلفيا بلاث، غينسبرغ، روبرت دنكان، جون آشبيري، آنا سكستون، روبرت بلاي، جون لوكان، فضلاً عن نيرودا، ريلكه، فاسكو بوبا وآخرين. أصدر سركون بولص عدداً من الدواوين الشعرية وهي ( حامل الفانوس في ليل الذئاب، إذا كنت نائماً في مركب نوح، الأول والتالي، الوصول إلى مدينة أين، الحياة قرب الأكروبول ). كما صدرت له مختارات شعرية مترجمة بعنوان (رقائم لروح الكون) ومجموعة قصصية تحت عنوان (غرفة مهجورة ) وباللغتين العربية والألمانية، فضلاً عن سيرة ذاتية بعنوان (شهود على الضفاف).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.