برغم وجود العديد من المكتبات العمومية ووجود قدر لا بأس به من الكتب، وحسن استقبال العاملين بهذه المكتبات الى كل زائر حتى وان كانت زيارته قصد دخول دورة المياه، فقد تحولت هذه المكتبات الى قاعات للمراجعة خاصة لتلامذة الباكالوريا أو للدردشة في أيام الصقيع والمطر، وبقيت الكتب على رفوفها تحترق شوقا الى قارئ أو حتى الى أنامل تربت على أغلفتها التي كساها الغبار. وتحتوي ولاية القصرين على 14 مكتبة عمومية، صممت أغلبها بطريقة عصرية يحلو بين جدرانها المقام وقراءة أو تصفح الكتب. وتحتوي هذه المكتبات جميعها على 150 ألف كتاب (وليس عنوانا)، تنتمي الى مختلف الاختصاصات الثقافية والاجتماعية والعلمية والتاريخية وغيرها، صحيح بأن هذا العدد ضئيل جدا بالمقارنة مع عدد السكان حيث إن لكل مواطن 0.4 كتاب، ولكنه كاف جدا بالنسبة للطبقة الشابة والنشطة. كما لاحظنا بأن أغلب العاملين بهذه المكتبات إن لم نقل كلهم يتمتعون بحسن الاستقبال لكل من يطرق باب المكتبة ويحاولون مساعدته في كل شيء حتى وإن كان يريد فقط الدخول الى دورة المياه (وهذا ما حصل معنا). ومع هذا كله ظلت هذه المكتبات خالية من زوار حقيقيين غايتهم الكتاب والبحث في صفحاته عن فائدة، وكان كل القادمين الذين تمكنا من معاينتهم على مدى أيام هم بعض من التلامذة إما يراجعون بعض الدروس أو ينقلون بعض الواجبات من كراريس أصدقائهم، أو أنهم قدموا للدردشة لأن الجو قار س وممطر بالخارج. وان كانت الاحصائيات تشير الى إن أزمة الكتاب هي أزمة عربية بامتياز وليست خاصة بولاية القصرين، حيث ان المواطن الأمريكي يقرأ كل سنة 13 كتابا، والايطالي يقرأ 11 كتابا، أما العربي فإنه يقرأ ربع صفحة كل سنة. ولكن الحال لم يكن على هذا المنوال في ولاية القصرين في سنوات الثمانينات وبداية التسعينات حيث كانت مقررات و زارة التربية تعتمد أسلوب «المطالعة الاجبارية» التي اختفت من كل المدارس والمعاهد. ويلزم أسلوب المطالعة الاجبارية كل تلميذ بقراءة على الأقل كتابين في السنة الدراسية ويقوم بتلخيصهما وتقديمهما الى أستاذة أو معلمه، وهو ما يجعل العلاقة بين الكتاب والتلميذ اجبارية لا يمكن لهذا الأخير التخلي عنها. ونظرا للامكانيات المادية المتواضعة للتلامذة ولغلاء سعر الكتب وأيضا لفقدانها في المكتبات التجارية، فقد كانت المكتبات العمومية هي الحضن الذي يوفر الكتب لكل طالبها، أي لكل التلامذة. وكان المشرفون على هذه المكتبات العمومية يقيمون احتفالا صغيرا في رأس كل سنة يقدمون فيها جوائز لأهم رواد المكتبة حسب عدد الكتب التي طالعوها، وتتمثل هذه الجوائز في مجموعة من الكتب ايضا، واذكر انني كنت واحدا من هؤلاء الفائزين بالجائزة، وكانت دافعا قويا لمزيد من القراءة والمطالعة. واليوم اختفت المطالعة الاجبارية، واختفت تلك المبادرات الطيبة من مسؤولي المكتبات، فقط لسبب واحد وهو الغياب الكلي لأشخاص يبحثون عن هذه الكتب. إن ازدهار الأمم يعتمد أساسا على مدى وعي شعوبها وعلى مستوى ثقافتها والتي تمر عبر التهذيب والتدريب والتطوير بالقراءة والكتاب، وهذا ما سعت الدولة الى توفيره من حيث الفضاءات والامكانات،فلماذا ألغت وزارة التربية «المطالعة الاجبارية» حتى كان هجر الكتاب وتحول المكتبات العمومية الى قاعات الى الدردشة وكأنه تناقضا مع سياسة الدولة.