عَبِقَتْ زوايا وقبابُ وأركان فضاء «الصفصاف» بضاحية المرسى مساء يوم الأحد الفارط برائحة البخور لحظة انطلاق فرقة سيدي عبد العزيز للانشاد الصوفي في التهليل والتكبير. عائلات وأزواج وعرائس وشباب وأطفال جاؤوا من مختلف ضواحي العاصمة الى المقهى التاريخي لينعموا بسهرة صيفية أنعشتها نسمات البحر العليلة والأناشيد الدينية ورمزية المكان. ووسط هؤلاء جميعا انتصبت بئر «الصفصاف» والناعورة والناقة ليكتمل مشهد رائع من مشاهد تراث وذاكرة تونس الثرية «البير والصفصاف والناعورة» مثلما غنّت السيدة نعمة. «الشروق» لم تفوّت فرصة ليلة سمر من «ليالي زمان» وكانت في الموعد. مثلما كانت «الصفصاف» نقطة إلتقاء المسافرين والرحل وقوافل التجار منذ قرون كانت كذلك في عهد الباي الذي اختارها لاقامة مربض لخيوله واستراحة لتناول قهوة «الززوة». هذا الكلام بدأنا به السيد سليم البحري وكيل المقهى وهو احد احفاد الشيخ محمد البحري القاضي المالكي في عهد البايات والمالك الاول للفضاء... ويوضّح السيد سليم البحري قصة فضاء الصفصاف قائلا: «الحقيقة أن الماء هو الذي جمع قوافل التجار قديما حول «الصفصاف» كما جمع اهالي المرسى وسكان العاصمة حول البئر. وكان الجميع يشرب ويأخذ ما يشاء من الماء مجانا. ويقال أن احد البايات أراد بيع هذا الفضاء ليهودي كانت في نيته استغلال العين وبيع الماء بمقابل مالي وعرض هذا الاخير على الباي مبلغ اربعة فرنكات لكن جدّنا الشيخ محمد القاضي عرض ضعف هذا المبلغ، أي دفع ثمانية فرنكات واشترى الصفصاف وترك الناس يستغلون العين مجانا». **الماء والقهوة والبريك ويتدخّل السيد حكيم البحري شقيق السيد سليم، قائلا: «قمت ببعض البحوث عن عين «الصفصاف» واتضح لي ان الناس قديما كانوا يتداوون بماء «الصفصاف» أما اليوم فنحن بصدد القيام بالتحاليل اللازمة لضمان سلامة العين والماء وان شاء الله ستتضح النتائج في القريب العاجل». ويواصل السيد حكيم متحدّثا عن تاريخ مقهى الصفصاف قائلا: «يمكن القول ان ما جمع الناس حول هذا الفضاء هو الماء اولا ثم «قهوة الززوة» ثم «البريك»، والمشوي... وقد عثرنا على رحى القهوة التقليدي الذي استعمل منذ عشرات السنين. ولعل رمزية «الصفصاف» في ارتباطها بعديد العادات والتقاليد لضاحية المرسى مثل «بشارة عنقود العنب» والناقة «فتحية» وغيرها.... **كبار الفنانين والشيوخ ونعود الى سهرات «الصفصاف» الخالدة التي ستخلدها ذاكرة ا لفن التونسي. يقول السيد سليم البحري: «هذا المكان شهد أحلى حفلات الفنانين خلال الستينات والسبعينات وما بعدها. من هؤلاء اذكر الفنان علي الرياحي والفنانة وردة الجزائرية وكبار شيوخ المالوف والصوفية... لقد تمّ تشييد ركح ضخم في بداية الستينات لتنطلق الحفلات كل ليلة خلال فصل الصيف ومرّة في الاسبوع خلال سائر الفصول. وقد أعدنا هذه التقاليد منذ العام الماضي وركّزنا على سهرات المالوف والانشاد الصوفي مرّة في الاسبوع (مساء يوم الجمعة من كل أسبوع). وطبعا يكون الدخول الى الصفصاف مجانا كما أن الحضور غير مشروط باستهلاك أنواع معيّنة من المأكولات او المشروبات بل الحضور حرّ وتلقائي ومفتوح للجميع... نحن نريد من هذه الحفلات المحافظة على الطابع التراثي المميّز للصفصاف وليست لنا أهداف تجارية وهذا واقع». ونوّه السيد سليم بجهود البلدية والسلط المحلية للمحافظة على فضاء الصفصاف معلما حضاريا وتاريخيا. سهرة الانشهاد الصوفي رفقة الشيخ لطفي أفندي وفرقته تواصلت لاكثر من ثلاث ساعات امتزجت خلالها الاجواء الصوفية بأجواء السمر الصيفي لتتجلى صور من الذاكرة التونسية نسيناها في غمرة «السهريات المعلّبة» التي سيطرت على «سوق المهرجانات».