يعد رحيل المفكر محمد عابد الجابري خسارة فادحة للفكر والثقافة العربية المعاصرة, ولمسيرة النهج العقلاني الصعب الذي اجترحته أجيال متعاقبة في الثقافة العربية منذ عصر النهضة إلي اليوم. وتتضاعف هذه الخسارة حين يكون رحيل هذا المفكر العربي مرتبطا بمشروع فكري ضخم يروم مراجعة مسيرة تشكل العقل العربي والكشف عن فاعليته التاريخية والحضارية ... لقد أنجز الجابري من أنجز طوال حياة قصيرة إدّخرها في التفكير للنهوض بالأمة بل كلل ولا ملل, ومشروعه لا تحتمل ذات بشرية واحدة على مواكبته وبناءه , بل ولعل رحيله يطالب الأجيال الحاضرة في استكمال مشروعه الفكري , وهوأمر ثابت على الأقل في مثال الفكر الغربي حين يكون المشروع الفردي فاتحة لجهد جماعي متواصل , مثلما هي التقاليد في الفكر الألماني كما هوفي مثال مشروع نلدكه « تاريخ القرآن « الذي أكمله طلابه ... ولأننا من هذا المنبر لا نريد تفويت حدث الرحيل , أردنا من خلال هذا الملف التعريف على الأقل بالعطاء الفكري لهذا المفكر الفيلسوف من خلال ما هوثابت في المعطيات حول حياته وإنتاجاته . إعداد : عبد الحليم المسعودي من هو محمد عابد الجابري ؟ ولد محمد عابد الجابري في قرية الفجيج عام 1936 جنوب شرق المغرب منحدرا من عائلة تقليدية معروفة بالعلم والتدين, تلقى تعليمه الابتدائي في تلك القرية , ثم انتقل ليستقر مع عائلته في الدارالبيضاء حيث أكمل فيها دراسته الثانوية ثم الجامعية وتحصل على ديبلوم الدراسات العليا في الفلسفة عام 1967 , وفي عام 1958 انتقل الجابري إلى دمشق ليحصل على الإجازة في الفلسفة بعد أن حصل على الباكالوريا كمرشح حر , ولم يتم دراسته الجامعية , وعاد للمغرب لينتسب للجامعة المغربية في أول عهدها ليكمل فيها دراسته ومساره الأكاديمي , في عام 1967 نال الجابري شهادة الماجستير بعد مناقشته لرسالة عنوانها «منهجية الكتابات التاريخية المغربية « وهي الرسالة التي بلور من خلالها موضوع أطروحة الدكتوراه حول فكر ابن خلدون ونظريته في التاريخ والمجتمع , وجاءت أطروحته تحت عنوان « العصبية والدولة :معالم نظرية خلدونية في التاريخ العربي الإسلامي « والتي ناقشها عام 1970 في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط , وهي الجامعة التي شغل فيها منصب أستاذ للفلسفة والفكر العربي الإسلامي . وقد حفلت حياة الجابري بالعديد من الدراسات وزخرت بالنشاط سياسي وأكاديمي وفكري إذ أنه بدأ مسيرته المهنية مدرسا ثم تدرج حتى أصبح موجها تربويا لأساتذة الفلسفة بالتعليم الثانوي . الجابري وموقعه في الثقافة العربية المعاصرة ويعد الجابري من أهم المفكرين المعاصرين في الثقافة والفكر العربي , بدءا ناظرا في التاريخ والتراث وانتهى به المطاف في المشغل الفلسفي النقدي المعاصر , كما أنه في نفس الوقت لم يفصل جهده الفكري والأكاديمي عن المشاغل الوطنية والسياسية ' فالجابري قد عرف كناشط في خلايا العمل الوطني ضد الإستعمار الفرنسي في المغرب في بداية خمسينات القرن الماضي , كما أنه يعد من الوجوه القيادية البارزة في حزب الإتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية وقد شغل في ذلك ولفترة طويلة عضوية مكتبه السياسي قبل اعتزاله العمل السياسي وتفرغه للشؤون الفكرية والأبحاث الجامعية, وعالم المحاضرات الكبرى في كبرى الجامعات العربية والمنتديات الفكرية . ويحضى الجابري بحضور وتقدير في الأوساط الفكرية والجامعية , كما يحظى في نفس الوقت بشهرة في الأوساط الفكرية الجدالية إذ عنيت كتاباته وفكره بالدراسة والنقد في كامل الوطن العربي , مما جعل من متونه في قلب النقاش الفكري في كامل أوجهه سواء من مناصريه أومناوئيه . ولعل من بين أهم ما حظيت به أفكار الجابري تلك التي شكلت مشروع دراسة بنية العقل العربي . وفي ذلك يقول إبراهيم العريس :» كان محمد عابد الجابري واحدا من أشهر المفكرين النهضويين العرب خلال العقود الأخيرة . بل لعله كان المفكر العربي الوحيد الذي صارت كتبه كلها , ومنذ بداية نشر سلسلته الفكرية « نقد العقل العربي»الأكثر مبيعا في أي لائحة من هذا النوع .وفي هذا الإطار كان ظاهرة يصعب تفسيرها : لماذا يقبل القراء العرب ,وربما بعشرات الألوف, على قراءة أعماله؟ ولماذا يتشري نسخا من هذه الأعمال قراء من الصعب القول, أنهم ,كلهم, يقرؤون ما يشترون . في الوقت نفسه عرف بكونه الأكثر مشرقية بين كتاب المغرب العربي , في فترة ازدهرت فيها الكتابات الفكرية المغربية متغلبة على المشرقية, لا سيما بعد هزيمة حزيران (يونيو) , وفي سياق النجاح الكبير الذي افتتحه مواطنه عبد الله العروي بكتابه « الأيديولوجيا العربية المعاصرة « . وربما اعتبر كثيرون من القراء المشارقة أن اليقين الفكري والمنهجي الذي جاء به الجابري في كتاباته , هوتعويض عن الارتجاج الذي أحدثه العروي . « ويعتبر محمد عابد الجابري من أهم المفكرين الذين يتنزل تفكيرهم في تجديد مسار الاجتهاد وترى مي كمال الدين منطلقة من مقولته « باب الاجتهاد لم يقفل ولكن انغلق الفكر الذي كان يمارسه « أن الجابري قد تطرق في كتابه «قضايا الفكر المعاصر «للحديث عن عدة قضايا منها تأكيده أن التصدي لأثر العولمة الفادح على المصالح العربية الإقتصادية منها والقومية والثقافية يتطلب أكثر من التنديد بتلك الأخطار , داعيا لقيام مجموعة عربية متضامنة تنسق خططها التنموية وسياستها الإقتصادية , أما في كتابه « نقد الحاجة إلى الإصلاح «فتحدث عن السلفية مستخلصا أفضل نماذجها والوجه القابل للحداثة فيها , وهوالنموذج الذي تخلص من الماضوية حين يكون نموذجا يمارس « العودة إلى الماضي ليس من أجل الماضي نفسه , بل من أجل التحرر مما تراكم من انحرافات وظلمات, موضحا أن الناس لا تقبل الأفكار الإصلاحية إلا إذا قدمت لهم بوصفها ذات أصول في تراثهم . الجابري بين التثمين والتكفير : ولأن مشروع الجابري النقدي للتراث في كليته لا يفرق على الأقل على مستوى المنهج بين طبيعة النصوص الدنيوية والمقدسة فقد كان شغله على النظر في النص القرآن من أهم المحاولات الجريئة في تناول خطابه على المستوى الدلالي والتاريخي , فكان كتابه «التعريف بالقرآن « والذي يتنزل في مشروع الأشمل « مدخل إلى القرآن الكريم « , من أهم الأعمال التي أثارت جدلا في أوساط الفكرية العربية والإسلامية , خاصة وأن آراؤه الواردة في الكتاب قد أثارت حفيظة السلفيين الذي ذهبوا إلى حدود تكفيره وإخراجه من الملة . وتشير مي كمال الدين أن الجابري « قد تعرض للنقد والهجوم العنيف , وصدرت ضده فتاوى وكتابات كثيرة تشكك في شخصه وفي دينه , بسبب مقاله الذي نشرته صحيفة « الإتحاد « الإماراتية تحت عنوان « ما قيل أنه رُفع وسقط من القرآن « وعرض فيها لآراء العلماء قديما واللذين قالوا بأن الآيات القرآنية قد تكون سقطت ولم تدرج بنص المصحف الذي بين أيدينا , وقد جاءت هذه المقالة ضمن كتاب الجابري المعروف ب « في تعريف القرآن « وهوالجزء الأول من مشروعه « مدخل للقرآن الكريم « وقوبل بنقد لاذع . ولكن يدفع عن المفكر المغربي تهمة التشكيك في قدسية ووكمال النص القرآني , عدد من الكتاب الذين أجروا قراءة مؤلفاته , ومنهم الكاتب العماني عبد الله العليان والذي كتب بصحيفة الأخبار اللبنانية مقالا يقول فيه : « والواقع أن الجابري لم يقل هوبذلك , إنما عرض بعض الآراء التي ذكرت عنه من بعض المفسرين والمحدثين, وجاءت بعضها كردود على آراء بعض الغلاة أوالمشركين أوغيرهم , لكنه يقول في ص 222 من الكتاب , أن كل الآراء التي قيلت في هذا الجانب «مرفوضة بإجماع المسلمين « . وهذا تأكيد من الجابري أن ما قيل عن التحريف أوالنقصان في القرآن ليس له عند كل المسلمين ومذاهبهم أي قبول ,ومرفوض منذ العصر الأول حتى الآن, وهذا ما أكده في الكتاب نفسه بقوله ليس « ثمة أدلة قاطعة على حدوث زيادة أونقصان في القرآن كما هوفي المصحف بين أيدي الناس , منذ جمعه زمن عثمان « .» . إنتاجات الجابري الفكرية والأكاديمية : سنحاول في هذا السياق استعراض أهم إنتاجات الجابري الفكرية والأكاديمية والتي تهتم بدراسة ونقد التراث والقضايا الفكرية والسياسية والإجتماعية الراهنة بدءا بالمسألة الخلدونية ووصولا إلى مشروع قراءة القرآن : - العصبية والدولة : معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي، وهونص أطروحته لنيل الدكتوراه - أضواء على مشكل التعليم بالمغرب - مدخل إلى فلسفة العلوم (جزآن) - من أجل رؤية تقدمية لبعض مشكلاتنا الفكرية والتربوية - نحن والتراث : قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي - الخطاب العربي المعاصر: دراسة تحليلية نقدية - تكوين العقل العربي - بنية العقل العربي - السياسات التعليمية في المغرب العربي - إشكاليات الفكر العربي المعاصر- المغرب المعاصر: الخصوصية والهوية.. الحداثة والتنمية - العقل السياسي العربي - حوار المغرب والمشرق: حوار مع د. حسن حنفي - التراث والحداثة: دراسات ومناقشات - مقدمة لنقد العقل العربي - المسألة الثقافية - المثقفون في الحضارة العربية الإسلامية، محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد - مسألة الهوية: العروبة والإسلام... والغرب - الدين والدولة وتطبيق الشريعة - المشروع النهضوي العربي- الديمقراطية وحقوق الإنسان - قضايا في الفكر المعاصر (العولمة، صراع الحضارات، العودة إلى الأخلاق، التسامح، الديمقراطية ونظام القيم، الفلسفة والمدينة) - التنمية البشرية والخصوصية السوسيوثقافية : العالم العربي نموذجا - وجهة نظر: نحوإعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر - حفريات في الذاكرة، من بعيد (سيرة ذاتية من الصبا إلى سن العشرين) - الإشراف على نشر جديد لأعمال ابن رشد الأصيلة مع مداخل ومقدمات تحليلية وشروح - ابن رشد: سيرة وفكر - العقل الأخلاقي العربي: دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية - سلسلة مواقف (سلسلة كتب في حجم كتاب الجيب) - في نقد الحاجة إلى الإصلاح - مدخل إلى القرآن - فهم القرآن: التفسير الواضح حسب ترتيب النزول. (*) - إعتمدنا في إعداد هذا الملف على : جريدة الحياة اللندنية 04 ماي 2010 (مقال لإبراهيم العريس ) , موقع عرب 48 الإلكتروني , محيط شبكة الإعلام العربية (مقال مي كمال الدين ) , موقع جريدة القدس الإلكتروني .