بقلم: فاطمة بن عبد اللّه الكرّاي بعد وقفة قصيرة.. هي بمقاس وصلة غنائية من «القدود» الحلبية، تربّع «شادي الألحان» على كرسي جُلب له خصيصا.. وأطلق العنان لصوت شجيّ.. قويّ.. تخلّلته بحّة خفيفة.. لم تنل من صوته الأزلي.. تلّفه، فرقة قوامها واحد وعشرون عنصرا بين «مردّد» وعازف، آثروا جميعا أن يلبسوا اللون الأسود، في حين ارتدى صباح فخري «جبّة» تونسية بيضاء.. تمايلت الأشجار الفارعة الخضراء، التي تزين ركح قرطاج.. وتمايل معها الجمهور الذي ملأ قرطاج (أكثر من 10 آلاف متفرّج) على نغمات القدود الحلبيّة.. والانشاد العراقي.. والأغنية اللبنانية.. والمصرية.. هزّ صوته قرطاج، فكان الامتاع وكانت المؤانسة.. فذكرنا صوت صباح فخري، بزمن جميل كان لنا فيه أحبّة، نحضر معهم حفلات صباح فخري.. عرفته شخصيا في قرطاج سنة 1978، وكنت تلميذة أخذني الأهل الى مطرب قادم من حلب.. من بلاد سيف الدولة والمتنبي.. في ذاك الزمن، كان لأوليائنا «سلطة» معنوية أدبية في توجيهنا واسعاف ذوقنا.. نحن الذين نكبر.. لنصبح جمهور صباح فخري.. وجمهور فيروز.. وجمهور نجاة.. وكل العمالقة في مجال الفن الغنائي أصواتا وحضورا.. كان صباح فخري، طوال سهرة أمس الأول على ركح قرطاج، كما «السلطان» الذي تعلوه الهيبة.. هيبة الحضور.. وهيبة الصوت.. وهيبة التفاعل مع الجمهور.. والعمل على اطرابه.. أدخل الجميع، من خلال كل تلك المقطوعات الرائعة، في لحظات حنين.. حنين لماض كانت فيه الأغنية فنا.. والجمهور ثقافة.. حنين إلى أناس عايشناهم وعايشونا، عمالقة الفكر.. وعمالقة الفن.. كان الامتاع حاضرا.. ولبرهة شرد خيالي في سؤال حيرة: من يجيء بعد هذا الصوت أطال اللّه في عمره ومن يستطيع أن يسيطر و«يسوس» جمهورا كهذا، بكلمات جلّها بسيطة.. لكنها مليئة بالقصص.. والحكايات؟ أرى المشهد قاحلا.. والأذن تنوح.. لهول ما ستسمع لاحقا.. وقد بدأت التباشير لذلك.. غنى صباح فخري، فأمتع الحضور.. إلى حدّ أنه ولمّا أعلن نهاية العرض، وقفت له كل «قرطاج» تحية وإكبارا.. لما قدّم.. وما أطرب.. وما أعطى.. جلس صباح فخري وغنى.. واقفا.. وسيبقى كذلك على عهده بالوقوف.. إنه صاحب صوت.. من الأزل..