من جملة معارف القرن العشرين علوم اختصاصها دراسة طرق التّحكّم في الجمهور وتوجيهه لتحقيق غرض معيّن. وقد بذل علم النّفس، من الوقت والمال، على دراسة التحكّم في الفرد والتّأثير عليه، أضعاف ما أنفق على زيادة استقلاله الذّاتي، وتحكّمه في صياغة رأيه وذوقه. من الأمثلة الطّريفة على ذلك ما طالعته في كتاب مترجم يكشف خبايا الحضارة الحديثة. وخلاصته أن شركة تبغ أمريكية أرادت في ثلاثينيات القرن الماضي زيادة أرباحها فقررت حثّ النساء على التّدخين، بعد أن كنّ ينفرن منه، وتستحي حتى المدخّنات من الظهور بالسيجارة جهارا. بدأ الأمر باقناعهنّ أن السّجائر هي «مشاعل للحرّيّة» اذ أرسلت سكرتيرة المدير تلغرافات لفتيات من علية القوم تقول فيها : «من أجل المساواة بين الجنسين، ومن أجل مناهضة تحريم آخر مفروض على بنات جنسنا قرّرت مع غيري من الشّابّات أن نوقد مشغلا آخر للحرّيّة بتدخين السّجائر أثناء مسيرتنا بالشارع الخامس يوم عيد الفصح». أثار الحدث ضجّة قوميّة، فنشرت صور النّساء بالصّحف. لكن مدير الشركة صاحبة الفكرة خاب مسعاه، فالنّساء لم يدخّنّ سجائر «لوكي سترايك» التي ينتجها، لأنّ غلاف علبتها الأخضر يتنافر مع ألوان فساتينهنّ، فاقترح عون الدّعاية على المدير تغيير الغلاف الى لون أكثر حيادا، فرفض بشدّة، فهو لم ينفق ملايين الدّولارات في الاعلان على غلاف ليغيّره بسهولة بعد ذلك. اقترح عون الدّعاية عندئذ ما يلي: «اذا لم نستطع الذّهاب بالأخضر الى النّاس فلنجعلهم يأتون اليه، أعطني المال اللاّزم ولنبدأ بالعمل». يقول ادوار برنيز صاحب هذه الفكرة في مذكّراته: «أطلقت على خطّتي اسم «هندسة الاذعان أو الموافقة»، فكما يفعل المهندس المعماري أعددت تصميما شاملا، وحدّدت الأهداف، واستراتيجية النّشاطات المخطّطة». بدأنا باعداد دراسات بسيكولوجية عن تداعيات اللون الأخضر، وبتنظيم حفل راقص للمجتمع الرّاقي، و تمّ تشجيع أحد منتجي الحرير ليكثر من انتاج اللّون الأخضر، فأقام مأدبة لمحرّري الموضة، كانت قائمة الطّعام فيها خضراء، وكل الطّعام أخضر. وتحدّث أستاذ جامعيّ عن مزايا اللون الأخضر، وحاضرهم ناقد فنّيّ عن اللون الأخضر في أعمال الفنّانين. في الأثناء أنشئ مكتب مهمّته تنبيه العاملين في حقل الموضة الى أن اللّون الأخضر هو سيّد الألوان، في الملابس، وفي الأكسسوارات، وحتى في ديكورات المنازل، وأرسلت 1500 رسالة تحمل هذا المعنى الى العاملين في المجال، والى صنّاع الموضة في باريس ليضمنوا انضمامهم الى الاتّجاه الجديد. فلمّا اشتدّت الحملة ركب سائر المنتجين الموجة، فأعلن أحدهم عن طلاء أظافر جديد أخضر زمرديّ، وأدخل آخر الجوارب الخضراء، وبدأ ظهور المعروضات الخضراء في الفترينات بالمدن الكبرى. حتى علب السجائر المنافسة للّوكي سترايك بدأت تستعمل على أغلفتها اللون الأخضر، ابتداء من سجائر «الجمل/كامل». وهكذا اعترف المنافسون ذاتهم بأن «لوكي سترايك» هي قمّة الموضة. سيهزأ أناس كثيرون من تبديد عباقرة الصّناعة في أمريكا لأموالهم في أنشطة سخيفة، واضاعة مستشاريهم لذكائهم ونفوذهم في التّرويج لموادّ ضارّة بالصّحّة، موهمين النّساء تارة أن هذا أفضل الطّرق لاستكمال حريّتهنّ ومساواة الرّجال في كلّ شيء، وتارة أخرى بأن اللّون الأخضر هو سيّد الألوان قاطبة. لكنّ شركة التّبغ كانت تنظر الى دوافعها النّفعيّة بعين الجدّ، لذا بذلت أقصى جهودها في جلب النّساء اللاّئي كنّ غير معنيّات بهذه العادة الرّجاليّة، شاهرة أمامهنّ شعار «استكمال الحرّيّة» مرّة و«استكمال الأناقة» مرّة أخرى، مقنعة اياهنّ بأنّ التّدخين اختيار فرديّ، وكذلك ثيابهنّ الخضراء لم تكن سوى استجابة لأذواقهنّ الشخصيّة. وبأساليب ذكيّة ساق ادوار برنيز أمامه كالقطيع ناشطات الجمعيات النسائية، ومنتجي الحرير، ومصمّمي الموضة، وصنّاع الأثاث، ومنتجي القطع الكمالية، وضمّهم الى موكب «اللّون الأخضر» دون أن يكون ذلك بإرادتهم واختيارهم، وانما انساقوا مع شركة السّجائر ليجنوا الأرباح، وليس مقصدهم خدمة ادوار برنيز أومن يوظّفه. أما الفنّانون وعلماء النّفس والصّحفيّون والمثقّفون الذين شاركوا في الحملة فيكون من الواجب سؤالهم هل انّ محاضراتهم ومقالاتهم عن أهمّيّة اللّون الأخضر كانت تعبيرا عن اختياراتهم الخاصّة، أم انهم وقعوا ضحيّة التّلاعب حتى ظنّوا الدّفاع عن اللّون الأخضر قضيّة مهمّة جدّا؟ وهكذا انطلاقا من رغبة شركة السّجائر في زيادة أرباحها تمّت السيطرة على ذوق النّساء، واخضاع الموضة وكل العاملين في دائرتها، وجرّهم داخل اطار كامل، وضع المستهلك فيه أمام بدائل محدّدة، عليه الاختيار فيما بينها. وحقيقة الأمر أنه كان ثمّة ايهام بحرّيّة الاختيار، لأنّ العاملين على صياغة الرّأي العامّ وتكييف رأي المستهلكين تدخّلوا بدهاء كبير للاقناع وتوجيه الأذواق والتّأثير في الخيارات الشخصيّة عن طريق العلاقات العامّة والاعلان، الى درجة التّلاعب بالآراء والتّأثير في القرار الفردي، بأساليب خفيّة، مع التّظاهر بتوسيع عالم الاختيار، وضمان حرّيّته الكاملة.