قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ) رواه البخاري. لقد أولى الإسلام القضاء وكل ما يؤدي إلى نشر العدل بين الناس الأهمية القصوى , وحرص حرصا شديدا على المحافظة على حقوق الأفراد من الضياع, وقد برز هذا الحرص من خلال دعوة القرآن إلى إقامة العدل: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (النحل 90). كما أن النبي صلى الله عليه وسلم حذّر الناس من كل ما يعرقل عمل القضاء من مخادعة وشهادة زور وتحيل وغيره وذلك في كثير من الأحاديث منها هذا الحديث العظيم الذي بين أيدينا الذي احتوى على معاني نبيلة وقيم عظيمة وأرسى قواعد هامة في التقاضي عند النزاعات التي هي من طبائع البشر نظرا لاختلاف الأهواء والمشارب وميل النفس الأمارة بالسوء إلى الظلم وقديما قال الشاعر: والظلم من شيم النفوس فإن تجد .... ذا عفة فلعلّة لا يظلم استهل النبي صلى الله عليه وسلم حديثه بقوله(إنما أنا بشر تختصمون إليّ فلعلّ بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض له على ما أسمع... ) فهذا إثبات من الرسول أنه إنسان في بشريته مثل بقية البشر يخطئ و يصيب عند تصرفاته كإنسان وكقاضٍ بالخصوص عندما يحكم بين المتنازعين فقد يكون أحد المتقاضين أبلغ في الحجة وأقدر على الإقناع من غريمه رغم أنه مجانب للحقّ وبهذا قد يؤثر على القاضي في إصدار حكم قضائي لصالحه على ما سمع من الطرفين خاصة إذا لم تتوفر لدى القاضي الأدلة الكافية رغم اجتهاده لأننا في النهاية مطالبون بالحكم على الظاهر لا على الباطن ولسنا مطالبين أيضا بالتنقيب عن قلوب الناس ثم يواصل النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلَا يَأْخُذْ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ) أي بمعنى من أعطيت له حقا بحسب الظاهر وليس له وهو يعلم ذلك ولم يردّه لصاحبه فجزاؤه العذاب الشديد يوم القيامة. يقول بن حجر العسقلاني في شرحه لهذا الحديث: (الَّذِي قَضَيْتُ لَهُ بِهِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ إِذَا كَانَ فِي الْبَاطِنِ لَا يَسْتَحِقُّهُ فَهُوَ عَلَيْهِ حَرَامٌ يَئُولُ بِهِ إِلَى النَّارِ، وَقَوْلُهُ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ، تَمْثِيلٌ يُفْهَمُ مِنْهُ شِدَّةُ التَّعْذِيبِ عَلَى مَنْ يَتَعَاطَاهُ) كقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} (النساء10 ). ثم أن القاضي إذا اجتهد وقضى بالظاهر وكان غير موفق في قضائه فإنه لا يلحقه إثم بل له أجر وثواب عند الله تعالى. كما أن قضاءه الذي أصدره لا يحلّ حراما ولا يحرّم حلالا فالحلال يبقى حلالا والحرام يبقى حراما وفق الميزان الرباني الذي بيّن الحلال والحرام.