لم يسعني الا أن أقبل الدعوة الكريمة من هذه الصحيفة الرفيعة لكي أكون واحدا من كُتّابها، وأن أطلَّ على قرائها لأجد نفسي بينهم، منشغلا بما ينشغلون، ومتأملا بما يتأملون. فلتونس عطرُها الخاص. وهي اذ تُغريك، فلأنها تعرف بماذا. لقد صنع هذا البلدُ تجربةً تستحق أن تُقتفى وأن يُنظر اليها كمدرسة؛ صنع ما يجعل منه منارةً لمشروعِ تحديثٍ ما نزال، في غير صقعٍ من أصقاعنا، نبحث عنه. وهو هنا يغذي السيرَ الى الأمام؛ يشقُّ منافذَ جديدة للتنمية ويرسي معالمَ اضافيةٍ على عمرانه الاجتماعي، ويبحث عن سُبلٍ أخرى، ثم أخرى للانخراط في المستقبل. قبل ما يناهز 15 عاما زرت تونس للمرة الأولى. فوجدت نفسي في ورشة عمران عملاقة. فمن اينما نظرتَ اليها، تراها تبني. ومن حيثما جئتها تراها غارقة في عمل. أكان الأمرُ مشروعا لوضع حجر على حجر؟ أو لصنع غنى عابر؟ أو للظهور بمظهر هندسي لائق؟ الاغراءُ الأول، كان أن تنظر ليس الى ما ينهضُ فوق الأرض، بل الى ما ينهض من خلالها؛ الى ذلك الشيء الذي ينهضُ من روحها كما ينهضُ الغصنُ، أو كما ينهضُ برعمُ الوردة. لتكتشف أن وراء العمران عمرانا آخر. ولتكتشف أن ما تُخفيه تونس عنك أكبر بكثير مما ينهض من منشآتها. العمرانُ الآخر كان هو الأهم. انه عمرانُ الانسان أولا، ثم عمرانُ المجتمع كوحدةٍ واحدةٍ، ثم عمرانُ المؤسسة. شيء ما، في الملمح الأول، يقولُ لك أن ثمّة في الأمرِ لغزا. ولكن أحدا ما، في الملمح الثاني، سيكشفُ عن نفسه، ليُريك أن ثمّة في الأمر روحا وطنيةً، تستنهضُ الهمم، وتدلُّ على الطريق الى صنع غدٍ أفضل. والدهشة الأولى ظلّت هي الدهشة. فعلى مر السنوات، ظلّ المعتركُ هو نفسه، وظلّ يُثمر، ثم يمضي قُدما. يُضيفُ عمرانا على عمرانه الأهم، ويشقُّ طرقا، ويخرجُ من صعوباتٍ، ويفتتح آفاقا جديدةً للمزيدِ من التنمية. ما مِن بلدٍ نامٍ في عالمنا الراهن فعلَ ما فعلته تونس بامكانياتها المحدودة. اذا كان للياسمين أن يصفع أحدا، فقد كان ذلك الاكتشافُ شيئا من صفع الياسمين: فالتخلفُ والفقرُ ليسا قَدرا عربيا. والدائرةُ ليست مغلقة! ضع رأسك تحت سطحِ الماء بشبرٍ لترى مكمنَ السرِّ، وستجد نفسك تغرق في تاريخ من مساعي البناء والتجديد. تونس هبةُ تاريخها. ذلك ما قلته يوما. انها هبةُ مشروعها الحضاري الذي اشتغل عليه الكثير من القادة العظام، وظلَّ متواصلا، على مدى القرون من حنبعل، الى خير الدين، الى بورقيبة، الى زين العابدين بن علي، ثم الى كل الذين سيحملون هذا التاريخ المشرق على أكتافهم ليسيروا بهذا البلد الى الأمام. وهي هبةُ مفكريها الذين وضعوا الحجر الأساس لمشروعها التنويري والاصلاحي وأعادوا قراءة مرتكزات الحضارة والدين، ليجعلوا منهما حضارة ودينا ليس للماضي وحده بل للحاضر والمستقبل. لا تنهضُ تونسُ من تجربةٍ «غير مُفكّر» فيها. ذلك هو الأساس. ثمة عقلٌ اجتماعي وراء المسألة. وهو الذي يصنعُ الدوافعَ. هل تجدني بحاجة الى أن أقول، نعم، ثمة صعوبات، وثمة ما يحسنُ القيامَ به، وثمة..؟ نعم. تلك هي الحياةُ أصلا! وذلك هو لغزُ العمران أصلا! فأنت تبني، لتعود فتضع فوق الحجرِ حجرا. المدينةُ الفاضلة ليست تلك التي تراها عامرةً، وخاليةً من كلِّ نقصٍ. انها رحلةُ الطريقِ اليها. انها ما يصنع الحكمة. ذلك هو المشروع. وتلك هي منارةُ الحكمة. يوم كتب قسطنطين كفافي قصيدته العملاقة «ايثاكا»، فقد كان يعرف ان التاريخَ هو ليس ما تقرأه من ماضيك، بل هو ما تصنعه في الطريق الى غدك. ويوم بدأ مهندسُ هذه التجربة العملاقة مشروعَه للبناء، فقد كان يبني ايثاكا أخرى، انما شديدة الواقعية. ولكن ليس من أجل الحكمة وحدها وانما من أجل حفظِ حياةٍ للملايين وللمضي بها قدما، بثراءٍ يتقاسمُ العمرانَ الاجتماعي كما يتقاسمُ الحكمة. في الشعر تبني مدنا فاضلةً. أما في الحياة فأنت تذهب اليها ولا تصلها أبدا. ومدينتك دائما نصفُ فاضلة. ولكنك ان لم تر الفضلَ في نصفها، فلن ترى نصفها الآخر بالوضوح الذي يتطلبه معترك التحديث، ولن يكون بوسعك أن تمضي اليه. لقد أغرتني تونس لأجد نفسي متأملا في مشروعها للتحديث. وعادت «الشروق» لتنفخ في جمرةِ حبٍّ لم تخمد أبدا. وتونس اذ تُغريك، فيحسن بك أن ترضى وتقبل.