على غير عادته أفاق باكرا هذا الصباح وقد أنهى لتوّه حلما، بدا له جميلا، وممكن التحقّق أيضا.. رغم نهايته المفتوحة، الواعدة غموضا.. «متى أراك؟» كانت آخر جملة نطق بها، وكانت نسمات الفجر أسرع الى مداعبة أجفانه قبل أن يسمع إجابة عن سؤاله القلق.. اللّعينة، لماذا هبّت الآن، لم تمهله لحظة واحدة ليرتّب وعدا للقاء قادم، قد يكون في الحلم!.. ثم لمَ كلّ هذه الحسرة، فالأمر في غاية البساطة.. هكذا قفزت إلى ذهنه فكرة ماكرة، لماذا لا يواصل الحلم.. في اليقظة! ليقضي يوما خارجا عن الزمن، السّاعة فيه بدهر كامل من الإثارة والاندفاع، لن يكلّفه ذلك أكثر من أن يمتطي شوقه ويمضي، ككلّ مسافر زاده الحلم.. لن ينتظر أكثر لئلا ينقضي هذا اليوم الذي قد لا يقبل التكرار، سيتّجه الى حيث التقيا دوما، وسيجدها حتما، هي دائما هناك، وإن لم يأت.. لم تمض سوى لحظات حتى بدأ بتنفيذ ما خطّط له بجنون أعمى.. كم من المواعيد أخلف معها وصام عنها الأيّام والليالي أيضا.. ومن الجنون أن تُصام اللّيالي! لم يعد يذكر حجم شوقه إليها، ربّما أيّامها بلياليها، أو ربّما أسابيع.. لكنّها اليوم بدت أكثر قابلية للتذكّر، هي أجمل من أن تُنسى هكذا بنصف وداع، بصوت غائب أو بنصف لقاء. حملته كل تلك الأفكار حين كان يقطع طريقه إليها، وكلّما اقترب منها خطوة صار أكثر تذكّرا.. ومع آخر خطوة، تفطّن الى حجم «غيابه» عنها (أمّا هي، فلم تغب عنه لحظة واحدة).. بحرارة فراق دام بضعا وأسبوعين كان اللقاء، بحرارة شوق عمره بضع وأسبوعين من الحنين التقيا.. في المكان عينه! كلّما التقى بها كان البحر ثالثهما، لا شيء طرأ على المكان، على الصخور التي كان يجلس إليها مناجيا بين إبحار وآخر، حتى تلك التي عرفها منذ صباه وقد رسم عليها نجم أحمر عملاق، مازالت صامدة كما تركها، حبّات الرّمل حتى، مازالت محتفظة بلمعانها كأن لم تدسها آلاف الأرجل ولم تعبث بها أيادي الصبية.. كان عليه أن يترك لقاءاته الجنونية للقدر لعلّه يقطع من عاداته في السخرية والتهكّم على مواعيده، ثم إنه كان شديد الإيمان بأنّ أجمل اللقاءات هي تلك التي تكون الصدفة بطلها الرئيسي.. ولكن، لا شيء من كل ذلك حدّ من جموحه اليوم ونزوعه الى لقائها وقد اشتهى وصلها دون أن يعدّ صيغة حتى لحديثه معها ودون أن يحدّد «جدول أعمال» جلسته إليها برغم الأشياء الكثيرة التي كانت تتدافع في ذهنه، هو الذي بلغ من العمر بضعا وعشرين خيبة، وفوق الخيبات جميعها بضع، وقضية! لم يقو على خلع آلام «أمته» التي باتت تلاحقه دون رغبة منه، ولا على إلقائها هناك على قيد النسيان حتى صار يكتبها كما تكتب الخيبات عادة! لذلك لم يتردد في بث شكواه إليها، وقد فضحته نظراته الحائرة، وفاض القلق من عينيه. أهكذا شوقك! (انفجرت أخيرا) ألا تستطيع أن تُزايد على القدر قليلا وتعلن نفسك منطقة منزوعة «القومية»، من شبهة الانتماء إلى أمّة قيل انها «أمّة ضحكت من جهلها الأمم» أو ربّما ضحكت من تواطئها، ومن سذاجتها الأمم! الحديث في شؤون هذه الأمة يصيبنا بفقدان «المناعة اللغوية» لفرط ما كتبنا وما قلنا بشأن قضاياها التي تزاحمنا حتى لحظات الحبّ.. لكننا نصرّ مع ذلك على إدمانها، على كتابتها وإن بشيء من التحايل والتلفيق والتواطؤ، و.. التضليل. حين نعجز عن تحقيق أهداف أوعن تصور أشياء كما تحلو لنا في الحياة نسارع عادة بكتابتها تبريرا لذاك العجز أو إرضاء لنوايانا السيئة في أن نجعل من كل النهايات مصدر سعادة، أن نجعل لكلّ روايات الحياة نهايات على مقاسنا.. عادت إليها حيرتها، وكرّرت السؤال بشيء من العتاب «أهكذا شوقك؟ أهذا ما حملته إليّ بعد كل هذا الفراق، ثم.. ألم تفتقدني طوال هذا الغياب؟» أكذب إذا قلت لك إنّني افتقدتك، كيف أفتقدك وحضورك مازال يفترسني. إنّي أفتقد غيابك. أشتاق إلى رحيلك عن جسدي، وأعصابي، وكياني.. كيف أفتقدك وقد اشتقت غيابك عنّي لفرط ما سكنتني، وما قتلتني شغفا، كيف أشتهي لقاءك، ولقاءاتنا أكبر من أن تعدّ.. في كل لحظة من عمري، وعند كل شبر مني التقينا، في غفلة من قدرينا التقينا.. في الحلم مثلا! لكن لقاءنا اليوم حالة أخرى.. كيف أسمّيها؟ لا أدري لماذا وجدتني مندفعا إليك اليوم تحديدا بعد أن مرّت بي عاصفة من الشوق والشبق.. لا تعبئي بتداخل الكلمات عندي، هي هكذا دوما ذات معان متعدّدة.. اليوم اشتقتك بمفهوم ما، أنا الذي أزعم أنني أشتاق رحيلك عنّي ب.. مفهوم آخر، ثم أنت هكذا دوما، تعبرين ذاكرتي دوما عند منتصف الشوق تماما، فتنقلب «الواو» باء، تمرّين بي مع بداية الحلم، فتحوّلين «الحاء» ألفا.. ألا تكفّين عن التلاعب بي أيّتها الفاتنة، أيّتها الساكنة في كل نقطة منّي.. ردّت في ما يشبه الابتسامة «إذا كنت مصرا على أن في الأمرتلاعبا فأنت الذي علّمتنيه.. ألا تذكر ذاك في لقاءاتنا المتعددة، أو التي لا حصر لها كما تزعم!» وقبل أن يردّ، اندفعت نحوه، وهمست «دعنا من كلّ ذلك الآن، حدّثني عن الحبّ!.. فاجأه طلبها، بل أربكه، غير أنه لم يجد بدّا من تغيير وجهة الخطاب بينهما انسياقا وراء جموحها، ودون تفكير قال: الحبّ عندي كالمعرفة عند الغزالي.. نور يقذفه اللّه في الصّدر، بل في القلب! ويأتيه صوتها عبر الموج منبعثا: والحبّ عندي حالة اجيتاح، أن تسمح لمن يحبّك بأن يكتسحك، أن يفترسك، لكن دون أن يلغيك بل على العكس من ذلك هو ينتشلك من العدم، أو يُخرجك على الأقل من وضع كمون الى وضع وجود ! الحب، حالةوجود.. مارس وجودك إذن! وهنا خطرت بباله مقولة جون بول سارتر « إننا نشعر قبل الحب بأنه ليس لوجودنا أي سبب أو مبرّر وأننا زائدون عن الحاجة، أما بعد الحب، فنشعر بأن هذا الوجود قد استردّ، ومن هنا فإنّ جوهر الغبطة يكمن في هذا الشعور بأنه قد أصبح لوجودنا ما يبرّره». ... صمت لحظة كأنه يستجمع قواه، لينطلق بكلمة كثيرا ما انتحرت عند آخر حاجز عاطفي للسانه، عند آخر منعطف للبوح.. «أحبّك» قالها، بفرح طفولي! ....... أحبّك، لا كما تحبّ النّساء، بل كما تحبّ الأوطان! ولكن لا تُسرف في حبّي لئلا تفقدني، كلّ الذين أطنبوا في حبّ من أحبّوا حدّ التبذير فقدوا معشوقيهم، بل حاسّة الحبّ عندهم حتى.. لكنّني أشعر بمتعة حين أمارس معك شيئا من التطرّف! التطرّف؟ قد يكون ذا جدوى في عدّة مواضع، أما في الحب، فلا أعتقد أنه كذلك. مرّت بينهما «كمية» من الصّمت، لا يدري كم كان حجمها لفرط ما كانت اللحظات بينهما تمرّ سريعا.. اللحظات الجميلة قصيرة بطبعها، فكيف إذا كان هاجس سرقتها منّا يلاحقنا مع كل لحظة نحياها، كأنما نعيشها للمرّة الأخيرة، لا يمكن أن ننعم بلذّة تملّكها، لأن لحظة التملّك تعني بداية الفقدان.. منذ لحظات كانت تحذّره من الفقدان وتحثه على ممارسة الحبّ، كما تراه! ... وكذا كان كل شيء فيه، وفي الكون يدفعه الى ممارسة «هوايته»، منذ ساعات صباحه الأولى، كان الجوّ صحوا، والشمس كانت على مهل قادمة من هناك، من حيث البدايات، لم تكن حارقة كما هو شأن شمس تمّوز.. والسّماء زرقاء كانت، لا شيء يعكّر صفوها سوى بقايا ضباب الفجر الذي كان ينحسر مع كل خطوة تتقدّمها الشمس نحو بطن السماء، أو كلّما تأوّدت أعطاف السّماء في حنوّ تنحني لتضمّ الشمس إليها.. الطقس كان أجمل من أن يخلف «مواعيده»، وهي.. كانت أشهى من الرّغبة عنها! حضرموت، مدينة تغريك باحتضانها، كالمرأة في لحظة غنج ودلال.. تلك المنتصبة بين البحر وسور المدينة العتيقة، هي «إمرأة لرجلين».. ما كان «أبوها» امرأ سوء ولا كانت «أمّها» بغيّا، لكنّها هكذا كانت تسلم نصفها الشرقي للبحر في وداعته وهيجانه معا، ونصفها الغربي للسور في شموخه وأصالته.. على أن البحر فيها يكاد يختصر كل شيء، لذلك، كان هو مصرّا على الإبحار عند النصف الشرقي، بعد أن مكث طويلا يرقب مشهد شروق أحلامه، مشهد اللقاء المتجدد كل صباح بين السماء والشمس التي ما غربت يوما وما اختفت، لكن البحر كان «يبتلعها»، بتواطؤ كبير مع الأفق الغربي، ولا غرابة في ذلك.. فالسماء لا يمكن أن تكون هي أيضا امرأة لرجل وامرأة! لا يمكن أن تحتضن الشمس والقمر معا.. وحدها حضرموت كانت قادرة على احتضان «رجلين» أو ربما ثلاثة! كان إحساس ما يستعجله لخوض المغامرة، ويوسوس له أن قد انقضت لحظة الانبهار، و.. حضرموت، امرأة غانية كانت، تنجذب إليها بعد انبهارك الأول.. حين يشتدّ بنا الشوق لممارسة الحب نأوي الى الحبيب، نتأمّله قليلا ثم يكون الاجتياح، ونعلن كل شبر نتقدمه منطقة حرّة، منزوعة من البرود، مزروعة ألغاما غرامية.. نتجرّد من أشيائنا التي تثقلنا مع انفجار كلّ لغم ومع كل خطوة تعلن غرقنا، وتورّطنا أكثر.. الحبّ إبحار، ثم بعد الحبّ بقليل، نعود الى الانبهار الأول.. وكذا شأننا أمام البحر، نجتاحه، نواجه أمواجه بتحدّ لذيذ، نستعذب ملوحته حتى نفترسه، وغالبا ما يسبقنا هو الى ذلك! ثم، نتأمله طويلا، طويلا بدعوى تجفف أجسادنا متجاهلين أن كل لحظة نقضيها بين البحر والشمس يتبخّر فيها كل ما علق بنا من خطايا الحبّ الجميلة.. الحبّ خطيئة، لكنه أجملها، ثم إن جزاء الخطيئة ليس العقاب دوما، خاصة تلك التي تتخذ لها من الجمال صفة، لأن اللّه جميل يحبّ الجمال! هكذا مارس «خطيئته» إذن ومضى.. الخبيث، كان يجد دوما لخطاياه مبرّرات ولحماقاته مخارج! ثمّ لماذا هو يصرّ على اعتبار الحبّ «خطيئة» أو «حماقة» أليس الحبّ حالة وجود كما كانت تلقّنه منذ حين الكتابة مثلا، حالة وجود هي أيضا، حالة جموح، حالة اجتياح، وهي بالتأكيد ليست حماقة ولا ذنبا وإلا أمضينا أعمارنا حمقى مذنبين.. هي لا تختلف عن الحب في شيء سوى في «الأدوات».. جوارحنا وحواسنا جميعها نختصرها في فلم، ونستبدل الشرير بصفحة بيضاء فنستقل ببساطة من الحبّ إلى الكتابة.. ليس أجمل من أن تكتب من تحبّ.. كذا كل يجذبه الشبق الحبري كلّما هام للقياها، وكذا كان يجتاحها بياضا كلّما عاد من لقائها.. حبيبته، ليست سوى حضرموت!