أردت في بداية هذا الموضوع أن أعرِّفَ بالمفكر الجزائري الكبير، وأن أتحدث عن لقائي به في منزل العالم المصري الكبير محمود محمد شاكر، فرأيت أن ذلك يحتاج إلى موضوع خاص لذلك فضّلت تأجيل ذلك إلى فرصة أخرى، لأن الموضوع الأساسي الذي يندرج تحت عنوان هذا المقال يستغرق الحيز المخصص لهذا الركن. أريد أن أركّز اليوم على (فقرة) كتبها مالك بن نبي في كتابه «مذكرات شاهد القرن: الطالب» عن إقامته في قربص مع والدته واكتشافه لما سمّاه بمعجزة لمياه عين أقطر، فقد قال عن زيارة أسرته إلى قربص، المدينة الاستشفائية الشهيرة، والملاحظ أنه كتب اسم «قربس» بالسين منقولا عن الحروف اللاتينية التي لا فرق فيها بين السين والصاد، وذكر واقعة اكتشفت فيها أمُّه نجاعةَ هذا الماء الذي يشربه الناس لتفتيت حصى الكُلى، وهذا ما قاله عن تلك الزيارة لقربص وعن سهولة العيش فيها، وعن كيفية اكتشاف الفعل العجيب لماء عين «أقطر»: (كانت والدتي حنونا جدا، تُولِي صحتي كاملَ الاهتمام دون أن تُشعرني بذلك، فقررت ولم تقل أنه من أجلي أن تستجِمَّ بمحطة «قربس»، قرب تونس، وكانت العائلات «التبسية» تتردد عليها، لِما يُقال عن مياهها المتنوعة من صلاحية طيبة، ولسبب آخر، هو تواضع التكاليف، لأن العائلة المسلمة، تستطيع استئجار، بثمن يُحتمل، لبيت كامل يتضمن الحمّام، ومَرافق الطبخ والإسكان، بحيث تأتي العائلة بزادها، وتقضي مدة الاستجمام بأقصى ما يمكن من الاقتصاد. فذهبنا إلى «قربس»، ومعَنا كل ما نحتاجه، سوى الماء، لأن المقيمين يشترون، كل صباح، مقدارهم الكافي من ماء عين «أقطر»، وقد اتفق لي يوما أن أشاهد معجزة لهذا الماء، مشاهدة العِيان، إذ كانت والدتي تضع منه كل صباح، ما يفي بحاجتنا، في إناء كبير من النوع المسمَّى «المطلي» كان يُستخدَم لنفس الغرض ب»«تبسّة»، عدةَ سنين، بحيث تكونت في داخله طبقة كلسية لا تزول بالتنظيف العادي، ولا حتى بآلة مثل السكين. وإذا بوالدتي تُفاجأُ، كلَّ صباح، بأنّ ماء «عين أقطر» يُعَكَّرُ بمجرد ما تضعه في ذلك الإناء، فتكبُّه وتنظف الإناء لتضع فيه ماء جديدا، نشتريه، فيتعكر بدوره... ودامت هذه الظاهرة تشغل بالها عدة أيام بعد وصولنا، حتى وضعت ذات صباح، الماء كالعادة، وإذا بطبقة الكلس تنزل كلها مرة واحدة في قعر الإناء... فتحدثنا كثيرا بعد ذلك عن صلاحية ماء عين أقطر العجيب لتحليل الحصى). ولم يكتف مالك بن نبي بوصف هذا الاكتشاف بل أبدى إعجابه بالطبيعة الجبلية في قربص فقال: (واستمرت الأيام سعيدة هكذا، أمام أجمل مناظر الطبيعة، لأن «المحطة» تمتاز بأنها على سفح جبل، وعلى شاطئ البحر، بحيث يستنشق المقيمُ روائحَ النبات العطِرة والهواء المشحون، برائحة اليود. فكنتُ أتنزّه تارة في الجبل وتارة على شاطئ البحر، وأُراجع المواد (التَّكْنِيَّةَ) التي أشار إليها (مسيو سودريا)، خصوصا (الترمو ديناميك)، وأفكِّرُ أحيانا أخرى في هذا الجو الهادئ، المخيّم عليه السكون، إلا مرة في الأسبوع، في اليوم الذي تأتي فيه بعض الأُسَرِ القروية التونسية لتقضي نذورها تحت قبة شيخ هو ولي المكان، فترتفع عندئذ أصوات الزائرين وخصوصا الزائرات، ويدق الدف تحت القبة حسب تقليد متوارَث. دامت هذه الفترة السعيدة، واحدا وعشرين يوما، فأرادت والدتي أن تزيد بعض الأيام في الاستجمام، وفكّرتُ أنا بالرحيل، وذات صبيحة ودعتُ والدي وكبَّتْ والدتي بين أقدامي «ماء العود» وسافرتُ...) هذه الفقرة من كتاب مالك بن نبي «مذكرات شاهد القرن: الطالب» الذي كتبه بالفرنسية ثم ترجمه إلى العربية بنفسه ونُشر في سلسلة «مشكلات الحضارة» دار الفكر الطبعة الأولى بيروت 1970 ص93/94. وهو يقصد زاوية الشيخ الولي المعروف في قربص ب«سيدي عامر» الذي يعتقد العوام أن المرأة العاقر التي تزوره تصبح ولودا بعدما يقام لها فيه ما يشبه (السطنبالي)، (تُقرعُ) فيه الدفوف و(يعجعجُ) فيه البخور و(تُوَلولُ) فيه الزغاريد. وبصرف النظر عن نصيب ذلك الاعتقاد الشعبي من الصحة فإني أسأل الآن: أين قربص الأمس البعيد تلك التي كانت تستقطب القاصي والداني والتونسيين وأبناء شمال إفريقيا وتلتقي فيها الأجناس والأديان، والأغنياء والفقراء بأرخص الأثمان، بشهادة هذا المفكر الجزائري الكبير، وتكتظ أيام العطل بالزائرين، ويقصدها معظم الناس في فصل الشتاء خاصة طلبا للراحة و«الاستجمام» في مكانها الطبيعي الممتاز، والاستشفاء عن طريق»الاستحمام» بمياهها ذات المنافع التي أشار مالك بن نبي إلى معجزة من معجزات أحد أنواعها. وكيف انتقلت الإقامة من (سفح قربص) في منازل رخيصة الثمن إلى (عمارات) في أعلى (الجبل) ليست في متناول الجميع ولا تتلاءم مع صحة طالبي (الاستجمام) العاجزين عن الصعود وتسلق الجبال؟ ولماذا أُلْغِيَ (الاستحمام بالمياه المعدنية) التي تُقصد قربص لأجلها ليصبح (الاستحمام بماء السوناد) الذي يجده كل إنسان في منزله بعيدا عن (قربص) التي أشاد المفكر الجزائري مالك بن نبي بأحد أنواع مائها الصالح لتفتيت الحصى في الكُلى؟ هذه (همسة صاخبة) أسكبها في أذن الساهرين على السياحة والمسؤولين عن قربص بصفة خاصة لعلنا نعيدها إلى سالف عهدها ونجعلها تتفوق على نفسها. ولكُم منا وعد بالعودة للتعريف بمالك بن نبي ولتقديم بعض الفقرات الأخرى المتعلقة بتونس والتونسيين في كتابه «مذكرات شاهد القرن» فإلى اللقاء.