سبتمبر شهر ليس ككل الشهور في شرقنا العربي.. انه أيلول.. فيه أيلول الأسود (1970) ومذبحة الفلسطينيين في الأردن.. وفيه اجتياح لبنان (1982) ومجزرة الفلسطينيين في صبرا وشاتيلا بلبنان.. وفيه ضاعت أول وحدة عربية حديثة بين مصر وسوريا (1961).. وفيه فقدت الأمة الزعيم الخالد جمال عبد الناصر(1970).. وتشاء الأقدار أن تكون وفاته في ذكرى انفصال سوريا (28 سبتمبر) وبعد وقف نزيف الدم الفلسطيني فوق الأرض الأردنية.. كانت أياما عصيبة وطويلة ورهيبة..التشرذم الفلسطيني أوصل الفصائل إلى تحدي سلطة الملك حسين في عاصمة ملكه ومدنه فرد بقسوة زادت عن الحد وكانت مجازر ايلول وخسر الطرفان وخسرت القضية والأمة وذلك فصل من تاريخنا ليس حديثنا اليوم عنه (وقد تناولته الشروق في وقته).. وليس انفصال سوريا وضرب الوحدة محل حديثنا أيضا في هذا الحيز.. فوقفتنا هذه مع ذكرى الرحيل يشدنا إليها الوجدان وواجب الوفاء لرجل عشنا معه أياما وأحلاما وآلاما لا يمكن أن تنسى. عبد الناصر رحمه الله ملأ الكون وشغل الناس قرابة الثلاثة عقود. منهم، من عشيرته، من عاداه وظل على كرهه وله أسبابه وحججه، ومنهم من بكى منه في حياته فلما مات بكى عليه، ومنهم من ظل معه ووراءه حيا وميتا وقد خرجوا بالملايين يرفضون تنحيه بعد نكسة عام 1967 وخرجوا بالملايين يبكون فراقه من شرق الأرض العربية إلى غربها بل وأبعد من ذلك. لكن أعداءه من غير أبناء جلدته، وما أكثرهم، اشتركوا في شيئين اثنين: الاعتراف بقيادته وتأثيره، والتآمر على شخصه وعلى سياساته، من دون أن ندخل فيما أثاره مؤخرا محمد حسنين هيكل من اتهام السادات بدس السم إليه في قهوة.. ومن دون أن نخوض فيما انتهج هو نفسه من سيرة واختار من سبيل في طريقة الحكم ونمط المجتمع المصري الذي أراده. عبد الناصر كان واحدا من أبناء هذه الأمة التي قيدتها عروش مستكينة وعواصم استعمارية لدى اغتصاب فلسطين حيث أراد أن يغادر الجيش الملكي الذي كان ضابطا فيه للانخراط مع المتطوعين العرب نصرة لفلسطين وشعبها ومثله فعل كثيرون، وما زالت في ذهني روايات عن الشهيد الهادي شاكر وهو يجمع المتطوعين في صفاقسوتونس. لكنه أي عبد الناصرلما علم بأن الملك فاروق سيرسل قوات مصرية ذهب ضمنها وقاتل (بأسلحة فاسدة) وحوصر في الفالوجا... وبسبب ما لمسه من تهاون وتآمر وفساد أسس تنظيم الضباط الوحدويين الأحرار الذي قام بالثورة في 23 جويلية/يوليو 1952. بالنسبة الى جيلنا الذي عايشناه كان عبد الناصر رمزا ومنارة وقائد مسيرة امة.. ما بقي وسيبقى في ذاكرتنا كما هو في سجلات التاريخ انه الرجل الذي نجح بفضل ثورته التي جاءت بعد خمس سنوات من الاغتصاب في إزاحة آخر أحفاد أسرة محمد علي (فاروق) بما عرف عنها وزلزلة عرش اكبر دولة عربية ليعيدها إلى حضن أمتها والى موقعها الطبيعي في الأرض العربية بل والى الساحة الدولية من مؤتمر باندونغ عام 1955 (تونس كانت مشاركة فيه وهي على عتبة الاستقلال وتراس وفدها المرحوم صالح بن يوسف) والذي أسس لحركة عدم الانحياز إلى الإعلان بكل قوة عن وقوف مصر الثورة إلى جانب أشقائها وشعوب العالم الثالث المناهضين للاستعمار المكافحين من اجل الحرية.. وانه الرجل الذي واجه الاستعمار الانقليزي الحاقد حتى أجلاه عن ارض الكنانة (اتفاقية الجلاء أبرمت عام 1954 والجلاء تم عام 56).. وانه الزعيم الذي وقف بقوة وصلابة مع الثورة في الجزائر واليمن شماله وجنوبه وبقية الثورات في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.. وانه الرجل الذي أمم قناة السويس بعد الجلاء بأشهر قليلة ونجح في تحدي إدارتها بأيد مصرية وقهر العدوان الثلاثي الانقليزي /الفرنسي /الصهيوني (1956)... وانه رئيس الدولة الذي رفض الخضوع لشروط واشنطن ولندن وباريس فكسر احتكار السلاح واستورده من الشرق بعدما رفضوه من الغرب.. وتحدى ضغوطاتهم فبنى السد العالي.. وانه كان أول رئيس لأول وحدة عربية حديثة (بين مصر وسوريا 1958) رغم التآمر حتى إسقاطها بعد ثلاث سنوات وانه لم يرفض إعادة تجربة الوحدة مع سوريا والعراق في ظل عبد السلام عارف (1964).. سنظل نذكر أن عبد الناصر إنما تحرك في عام 1967 ضد إسرائيل نصرة لسوريا التي كانت إسرائيل تستعد للعدوان عليها مثلما أكد له الروس (أثبتت الوثائق التاريخية انه لم يطلب سحب القوات الدولية من سيناء آنذاك ولم يكن في نيته دخول حرب لم يستعد لها بل كان تحركه للردع) وبالتالي أدركنا عامها وأدرك المصريون خاصة أن الرجل كان ضحية مؤامرة ولذلك زحفت الملايين على مقره ترفض تنحيه.. ولذلك أيضا كانت وقفة الزعماء العرب في قمة الخرطوم ترفع اللاءات الثلاث (لا صلح لا تفاوض لا استسلام)وتقدم الدعم للرجل حتى تستعيد مصر بالقوة ما أخذ منها بالقوة (وكانت تلك عبارته).. ولم يهنأ للراحل بال حتى أعاد بناء الجيش وشن حرب الاستنزاف وأعد القوة التي ثأرت للنكسة في حرب أكتوبر/رمضان 1973. قبل ثلاثين سنة رحل عبد الناصر وسار في جنازته العشرات من زعماء العالم والملايين من أبناء مصر والجماهير العربية التي سارت إلى القاهرة ( ومات آخرون فسار وراءهم أنفار من بينهم ألد أعداء الأمة العربية).. مات عبد الناصر وهو لم يسترد الأرض بعد، ، لكن ما تجرأت إسرائيل وهو حي على ضم القدس(1980) أو الجولان (1981) أو احتلال جنوب لبنان (1978) أو احتلال بيروت (1982)، ولا حصل للكويت ما حصل عام 1990 ( حاول عبد الكريم قاسم في الستينات فعل ما فعله صدام لكن تحرك عبد الناصر آنذاك ومنع الغزو العراقي والتدخل الأجنبي).. سال دم عبد الناصر على ارض فلسطين عندما كان في الثلاثين من عمره حيث جرح مرتين في «حرب الاغتصاب» ومات في الثانية والخمسين بعدما قضى أياما بلياليها يوصل الليل بالنهار حتى توقف نزيف الدم العربي الفلسطيني في الأردن. «ارفع راسك يا أخي» صرخة هتف بها عبد الناصر فرفعنا الرؤوس عالية إلى أن أصبنا بالدوار عام 67 ثم رفعت منا الرؤوس ونحن نتابع ما جرى بعده بداية من النتائج «السياسية» للحرب التي خاضها الأبطال الذين أعدهم الراحل ليوم النزال وتحويل «لاءات» الخرطوم إلى لاءات لهذه اللاءات. توارى بدر الشرق قبل ثلاثة عقود ونحن، الذين شدّنا بسحره وصدقه، نعرف الآن ما هي طبيعة الظلام الذي تلبد في شرقنا الحبيب.. لكن إيماننا أن ذلك إلى حين لأن هذه الأمة ولود ولن تكون عاقرا أبدا كما لن تموت ابدا شعارات هي الحقائق نفسها ومنها «الخائفون لا يصنعون الحرية..والمترددون لن تقوى ايديهم المرتعشة على البناء».