في تاريخ الأمم أيام لا يمكن ان تمحى من الذاكرة... وفي هذه الأيام أحداث يجرم من يحاول طمسها أمام الأجيال التي تصنع المستقبل وتجد في تاريخها ذخرا للدرس والإلهام والعبرة 28 سبتمبر.. لهذا اليوم في الذاكرة العربية محطات لا تمحوها صروف الدهر لأنها حفرت في الوجدان منها إطلاق الشهيد ياسر عرفات لانتفاضة الأقصى (2000).. ومنها فرار الصهاينة من بيروت التي احتلوها وهم يصرخون في مكبرات الصوت «لا تطلقوا النار علينا فنحن منسحبون» (28 سبتمبر 1982).. ومنها ما حدث عام 1961 حيث كانت جريمة انفصال سوريا عن مصر وفصم عرى وحدة لم تعمر أكثر من ثلاث سنوات.. كانت الجمهورية العربية المتحدة التي قامت عام 58 بارقة أمل لنا في ذلك الوقت لوحدة عربية كبرى.. كانت ردّا او جزءا من ردّ هذه الأمة على اغتصاب فلسطين قبل ذلك بعشر سنوات وعلى العدوان الثلاثي الفرنسي الانقليزي الصهيوني على مصر عام 56 وعلى التدخل العسكري المباشر في لبنان وعلى حلفي بغداد والمركزي اللذين قاما لتهديد كيان الوطن الكبير.. ومرّت تسع سنوات على الانفصال حصلت فيها أحداث جسام.. الثورة الفلسطينية الحديثة انطلقت عاصفتها في الأول مع جانفي 1965 تثخن في الكيان الغاصب.. واسرائيل شنت عدوانها في جوان 67 فاحتلت ما تبقى من فلسطين وسيناء المصرية والجولان السورية.. انها النكسة التي تحمل جمال عبد الناصر مسؤوليتها بشجاعة الرجال فاستقال لكن الجماهير الرافضة للتنحي والهزيمة تدفقت يومي 9 و10 جوان تملأ الشوارع والساحات ترفض التنحي وتهتف (حنحارب) حتى عاد عبد الناصر الى موقعه وبدا يعد العدة للثأر.. وكانت حرب الاستنزاف.. ولكن.. سبتمبر 1970 حدثت المأساة في الاردن.. الملك حسين حرك قواته المسلحة لإنهاء الوجود الفدائي الفلسطيني من الارض الاردنية مما يعني إغلاق اطول جبهة مواجهة مع العدو (اكثر من 600 كيلومتر).. وتحرّك عبد الناصر ليوقف النزيف وينقذ العمل الفدائي الذي وصفه بأنه انبل ظاهرة عربية في القرن العشرين.. دعا الى قمة عربية عاجلة في القاهرة وكانت أياما مضنية نجحت في وقف شلال الدم العربي على جبال عمان وفي شوارعها ومخيماتها.. وكان السيد الباهي الأدغم على رأس الوفد الذي انتقل الى العاصمة الاردنية لمتابعة تنفيذ المقررات ومنها اخرج الشهيد ياسر عرفات الذي كان محاصرا ومهددا في حياته.. وكان الفلسطينيون يعدون لاغتيال الملك حسين في المطار لدى عودته من القاهرة لكن عبد الناصر استطاع اقناعهم بالعدول عن ذلك.. كانت أياما مضنية لعبد الناصر الذي كان قد تعرض لأزمة قلبية قبل ذلك بعشر سنوات (1958) وتفاقم مرض السكري في جسده.. لكنه رفض التزام نصائح الاطباء بالركون الى الراحة التامة وتجنب الوقوف الطويل وأصر على ان يودع بنفسه القادة العرب وكان آخرهم أمير دولة الكويت... ودعه ضحى يوم 28 سبتمبر 1970 والألم يعتصره.. وما كاد يعود الى منزله بمنشية البكري حتى كانت الجلطة الثانية والنهائية... كان ذلك اليوم هو ايضا يوم 27 رجب. ونفذ قدر الله وعرجت روح عبد الناصر الى باريها في مساء اليوم نفسه... .كانت ساعات رهيبة عقبتها أيام رهيبة في الوطن العربي وفي العالم كله... بكته الجماهير بحرقة في كل مكان ونزلت الى الشوارع. ملتاعة في كل العواصم.. وانتشر نشيد واحد رددته الجماهير (يا جمال يا حبيب الملايين) ثلاثون رئيس دولة شاركوا في جنازة لم تشهد لها القاهرة مثيلا.. الرئيس القبرصي كادت الجموع تجرفه.. مائة وفد رسمي برئاسة رؤساء حكومات ووزراء خارجية جاؤوا من كل أنحاء الارض ورؤساء احزاب ومنظمات... حالات اغماء وإصابات ووفيات وحالات انتحار في مصر والوطن العربي.. الرئيس الأمريكي نيكسون الغى مناورات كان سيجريها الأسطول السادس في البحر المتوسط وقال «كان ناصر قائدا عاطفيا قادرا على الرؤية داخل قلوب شعبه وقد سبب موته نار الأسى» حاكم الشارقة أصيب بانهيار أثناء توجهه لتشييع الجنازة.. المذيعون والمذيعات العرب في جل المحطات بكوا وهم يذيعون النبأ.. الكاتب الأمريكي (سالسبرجر) اختار عنوان (آخر العمالقة) لكتاب ألفه عن عبد الناصر.. فقط مناحيم بيغن رئيس الحكومة الصهيوني (الذي كان بين قلة شيعت أنور السادات فيما بعد) شمت / وشماتته شهادة للراحل الكبير / حيث قال: «ان عبد الناصر كان أخطر اعداء اسرائيل. إن وفاة عبد الناصر تعني وفاة عدو مر... انه كان اخطر عدو لاسرائيل ولهذا السبب لا نستطيع ان نشارك في حديث النفاق الذي يملأ العالم كله عن ناصر وقدرته وحكمته وزعامته».. وهذا غيض من فيض رحل عبد الناصر يوم 28 سبتمبر 1970 .. لم يزد عمره عن اثنين وخمسين عاما لكنها كانت فترة عزة وكرامة وحرية ومقاومة.. كان رمزا لحقبة.. رحل لكنه بقي في الوجدان وفي الذاكرة.. رحل أبو خالد وبقيت أعماله وشعاراته خالدة... ألم تكن مقولته (ما أخذ بالقوة لا يستردّ بغير القوة) مكتوبة على الجدار الذي قتل الصهاينة تحته الصبي محمد الدرة؟ أنشد نزار قباني في رحيل ناصر: «نزلت علينا كتابا جميلا.. ولكننا لا نجيد القراءة.. وسافرت فينا لأرض البراءة..ولكننا ما قبلنا الرحيلا..» غاب عبد الناصر لكن القادة الكبار لا يغيبون عن الوجدان.. ولا تضيع الذاكرة الشهداء والأبطال.. فتحية له في ذكراه.. وسلام عليه في محياه وفي مماته.