صدرت هذه الرواية ضمن سلسلة روايات الهلال قبل مدّة، ولم تتح لي فرصة الاطّلاع عليها إلاّ حين مدّتني الكاتبة مشكورة بنسخة عند زيارتها إلى تونس قبل أشهر. أتحدّث هنا عن رواية «ريحانة» لميسون صقر، الشاعرة والفنانة التشكيلية الإماراتيّة التي ما انفكّت تخوض مغامرتها الإبداعيّة بحريةِ من يسعى دائمًا إلى المزيد من التحرّر، وبحميميّة من ينصت إلى شروخه وجراحه العميقة...حتى ذهب الظنّ بالبعض إلى أنّ أعمالها ملتصقة بسيرتها الذاتيّة، قبل أن يكتشفوا ما تنفتح عليه من حوار مع العالم بمخلوقاته وأشيائه وأحداثه ومفرداته الظاهرة والخفيّة... يصحّ ذلك في معارضها الفنيّة العديدة وفي مجالات نشاطها المتنوّع، ويصحّ في شأن دواوينها «تشكيل الأذى» و«رجل مجنون لا يحبني» و«أرملة قاطع طريق» وغيرها، كما يصحّ أيضًا في شأن روايتها «ريحانة»، هذه التي يدخلها القارئ كما يدخل متاهة، ثمّ إذا هو يكتشف أنّ لديه في شخصيّاتها، وتحديدًا في ريحانة وشمسة، أكثر من خيط أريان: ريحانة امرأة سُرقت منها حريّتها...اختُطفت من زنجبار وزرعت في عائلة في الشارقة لتعيش «عبدة»...ثم رحلت إلى القاهرة حين اضطرّت عائلة أسيادها إلى الرحيل بعد الانقلاب الذي أطاح بالحاكم...ثمّ عادت العائلة إلى الإمارات عند قيام الدولة الحديثة فعادت معها «العبدة» لتخرج من ربقة العبوديّة دون أن تشعر بأنّها «تحرّرت» حقًّا! أمّا شمسة، فهي «السيّدة» التي تظنّ أنّها «الحرّة»، لكنّ رياح التاريخ والأحداث والتحوّلات الاجتماعيّة تثبت لها أنّها في الحقيقة «عبدة» ظروفها العائليّة ووضعها الاجتماعيّ وخوفها من ثمن التحرّر وعجزها عن التمرّد على ما تسمّيه «التاريخ المقروء الجامد السلطويّ»! تعود بنا الرواية إلى ستّينات القرن العشرين وتأخذنا إلى ثمانيناته وتعبر بنا الزمن إلى ما قبل وما بعد وتخترق بنا المكان، فإذا نحن نتابع انكسار أحلام جيل وسقوط جيل آخر في شراك الاستهلاك والتفسّخ أو فريسة لنداءات التطّرف...وليس من شكّ في أنّ الكاتبة أخذت الكثير من سيرتها الذاتيّة واستمدّت من التاريخ الجمعيّ بعض مادّتها، إلاّ أنّها عرفت كيف تتجاوز حدود الرواية السيرذاتية والرواية التاريخيّة...لتمنحنا عملاً متعدّد الأبعاد متعدّد الأصوات ثريًّا بالشخصيّات النابضة مفتوحًا على وجوه التأويل. في الرواية تصوير لحياة العبيد (الحقيقيّين والمجازيّين) وعذاباتهم وإنصات لدويّ أعماقهم الدفينة...ومن خلال هذا التصوير ننصت إلى نشيد من أجل الحريّة...بل لعلّي لا أبالغ إذا قلت إنّ الرواية كلّها، شأنها في ذلك شأن جلّ الأعمال التي قرأتها لميسون صقر، ليست سوى تعبير عن عشق للحريّة، وعن شغف بممارستها، يكاد يبلغ التصوّف، لولا أنّنا هنا أمام تصوّف هدفه التحرّر لا الحلول! ولنشيد الحريّة والتحرّر في هذه الرواية نكهة إنسانيّة لا يغيب عنها الرجل إلاّ أنّ للمرأة فيها مكان الصدارة...فالشخصيّات النسائيّة هنا تقبض على زمام القول وتعبّر عن وجهة نظرها وتثأر من تغييبها السائد...وما كان لذلك أن ينجح روائيًّا لولا ما توفّر لهذه الشخصيّات (الأمّ والجدّة على سبيل المثال) من كثافة وعمق فنيّين عن طريق إحكام الكاتبة لعبتها الأسلوبيّة واشتغالها على اللغة، وكأنّها تمسك بفرشاة رسّامة، تضيف شيئًا هنا وتغيّر لونًا هناك، كي تنضاف اللوحة إلى الطبيعة ويصبح لها كيان مستقلّ، فإذا نحن أمام شخصيّات من لحم ودم... والحقّ أنّ لغة الرواية تستحقّ وقفة خاصّة...فالسرد في أرضيّته الأساسيّة معتمد على الفصحى، إلاّ أنّ هذه الفصحى معشّقة باللهجة الخليجيّة واللهجة المصريّة بمقدار محسوب لا إفراط فيه ولا استسهال، تنزيلاً للحوار في بيئته الطبيعيّة...فإذا نحن أمام لغة جميلة بليغة متعدّدة الأبعاد، متنوّعة السجلاّت، نجحت الكاتبة في أن تصهرها في سبيكة متناغمة سلسة، تستجيب لمقتضيات الخيار الجماليّ وتخدم مصداقيّة الشخصيّات ولا تعيق القراءة. وبعد، فإذا كان القارئ يبحث في الروايات عمّا يفاجئه ويستفزّ عقله ومخيّلته، ويقوده إلى مغامرة جماليّة مخصبة، ويأخذه إلى عوالم ومناخات غير مألوفة، ويبحر به في أسئلة الماضي والحاضر والمستقبل ليبحر به في أعماق نفسه، ويقدّم له أنموذجًا للكتابة لا بما هي مديح للحريّة بل بما هي فعل تحرّر، فليحرص على أن يقرأ هذه الرواية: رواية «ريحانة» لميسون صقر.