صفاقس: فتح محاضر عدلية ضدّ أشخاص شاركوا في أحداث عنف بمنطقتي العامرة وجبنيانة (مصدر قضائي)    اختتام أشغال الدورة 25 للجنة العسكرية المشتركة لتونس وإيطاليا    هيئة الانتخابات:" التحديد الرسمي لموعد الانتخابات الرئاسية يكون بصدور امر لدعوة الناخبين"    جلسة عمل وزارية حول عودة التونسيين بالخارج    وزيرة الاقتصاد: الحكومة على اتم الاستعداد لمساندة ودعم قطاع صناعة مكونات الطائرات في تونس    الإقامات السياحية البديلة تمثل 9 بالمائة من معدل إختراق السوق وفق دراسة حديثة    مصر.. موقف صادم في الجامعة الأمريكية بالقاهرة    البطولة الافريقية للاندية البطلة للكرة الطائرة - مولدية بوسالم تنهزم امام الاهلي المصري 0-3 في الدور النهائي    رابطة الأبطال الافريقية - الترجي الرياضي يتحول الى بريتوريا للقاء صان داونز    الناشرون يدعون إلى التمديد في فترة معرض الكتاب ويطالبون بتكثيف الحملات الدعائية لاستقطاب الزوار    وزارة المرأة تنظم ندوة علميّة حول دور الكتاب في فك العزلة عن المسن    فيلم "إلى ابني" لظافر العابدين يتوج بجائزتين في مهرجان "هوليوود للفيلم العربي"    الاتحاد الجزائري يصدر بيانا رسميا بشأن مباراة نهضة بركان    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    الألعاب الأولمبية في باريس: برنامج ترويجي للسياحة بمناسبة المشاركة التونسية    فازا ب «الدربي وال«سكوديتو» انتر بطل مبكّرا وإنزاغي يتخطى مورينيو    المهدية .. للمُطالبة بتفعيل أمر إحداث محكمة استئناف ..المُحامون يُضربون عن العمل ويُقرّرون يوم غضب    أولا وأخيرا .. الله الله الله الله    بنزرت .. شملت مندوبية السياحة والبلديات ..استعدادات كبيرة للموسم السياحي الصيفي    فيروسات ، جوع وتصحّر .. كيف سنواجه بيئتنا «المريضة»؟    رمادة: حجز كميات من السجائر المهربة إثر كمين    نابل: السيطرة على حريق بشاحنة محملة بأطنان من مواد التنظيف    توزر.. يوم مفتوح احتفاء باليوم العالمي للكتاب    الليلة: أمطار متفرقة والحرارة تتراجع إلى 8 درجات    حنان قداس.. قرار منع التداول الإعلامي في قضية التآمر مازال ساريا    التضامن.. الإحتفاظ بشخص من أجل " خيانة مؤتمن "    النادي الصفاقسي : تربّص تحضيري بالحمامات استعدادا للقاء الترجّي الرياضي    أي تداعيات لاستقالة المبعوث الأممي على المشهد الليبي ؟    إكتشاف مُرعب.. بكتيريا جديدة قادرة على محو البشرية جمعاء!    ليبيا: ضبط 4 أشخاص حاولوا التسلل إلى تونس    عاجل/ إنتشال 7 جثث من شواطئ مختلفة في قابس    عاجل/ تلميذ يعتدي على زميلته بآلة حادة داخل القسم    يراكم السموم ويؤثر على القلب: تحذيرات من الباراسيتامول    طبرقة: فلاحو المنطقة السقوية طبرقة يوجهون نداء استغاثة    عاجل : الإفراج عن لاعب الاتحاد الرياضي المنستيري لكرة القدم عامر بلغيث    سيدي بوزيد: وفاة شخص واصابة 8 أشخاص في حادثي مرور    إنطلاق فعاليات الاجتماع ال4 لوزراء الشباب والرياضة لتجمع دول الساحل والصحراء    طلاق بالتراضي بين النادي الصفاقسي واللاعب الايفواري ستيفان قانالي    عاجل : مبروك كرشيد يخرج بهذا التصريح بعد مغادرته تونس    الجامعة تنجح في تأهيل لاعبة مزدوجة الجنسية لتقمص زي المنتخب الوطني لكرة اليد    جربة: إحتراق ''حافلة'' تابعة لجمعية لينا بن مهنّى    جندوبة: السيطرة على إصابات بمرض الجرب في صفوف تلاميذ    وزير الدفاع الايطالي في تونس    مصر: غرق حفيد داعية إسلامي مشهور في نهر النيل    جرايات في حدود 950 مليون دينار تُصرف شهريا.. مدير الضمان الإجتماعي يوضح    تونس : 94 سائحًا أمريكيًّا وبريطانيًّا يصلون الى ميناء سوسة اليوم    المرصد التونسي للمناخ يكشف تفاصيل التقلّبات الجوّية    بعد الاعتزال : لطفي العبدلي يعلن عودته لمهرجان قرطاج    نابل: الاحتفاظ بعنصر تكفيري مفتش عنه    بسبب فضيحة جنسية: استقالة هذا الاعلامي المشهور..!!    فظيع/ جريمة قتل تلميذ على يد زميله: تفاصيل ومعطيات صادمة..    وزارة الخارجية تنظم رحلة ترويجية لمنطقة الشمال الغربي لفائدة رؤساء بعثات دبلوماسية بتونس..    عاجل : وفيات في سقوط طائرتي هليكوبتر للبحرية الماليزية    جمعية منتجي بيض الاستهلاك تحذّر من بيض مهرّب قد يحمل انفلونزا الطيور    حادثة سقوط السور في القيروان: هذا ما قرره القضاء في حق المقاول والمهندس    بعد الجرائم المتكررة في حقه ...إذا سقطت هيبة المعلم، سقطت هيبة التعليم !    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشيخ محمد الصادق بسيّس ناقداً ومحققاً
بقلم: الدكتور المنجي الكعبي
نشر في الشعب يوم 12 - 06 - 2010

ألقى الدكتور المنجي الكعبي أخيراً محاضرة قيمة في الذكرى الثلاثينية لوفاة الأديب الشيخ محمد الصادق بسيس، التي انتظمت يوم الاربعاء 26 ماي 2010 ، بالمركز الثقافي لمدينة تونس، تحت إشراف جمعية قدماء الصادقية ومشاركة المعهد العالي لأصول الدين بجامعة الزيتونة، وحضرها جمع غفير من الأساتذة والأدباء والمثقفين ومن أصدقاء الفقيد وأسرته وذلك ضمن برنامج حافل بعدد من المتدخلين ترأس جلسته الأستاذ الدكتور محمد بوزغيبة.
وتناولت محاضرة الدكتور الكعبي جانب النقد وتحقيق التراث في حياة الشيخ بسيس العلمية والاصلاحية والأدبية.
والأستاذ الشيخ بسيس المتوفى سنة 1978 كان كاتباً وخطيباً ومصلحاً من أيامه شبابه الأولى، حيث ترأس جمعية الدفاع عن فلسطين العربية بتونس في عام 1936 وبلغ من تفانيه في جمع المعونات وتوجيهها للجنة العليا لتحرير فلسطين، أن لقب بالشيخ الفلسطيني، وفي أحداث 9 أفريل 1938 تم اعتقاله، وأثارت محاكمته بتهمة مساعدة الفلسطيين على حرب اليهود في فلسطين، موجة من التضامن معه والمطالبه بإطلاق سراحه في كثير من الأقطار العربية، خاصة الجزائر ودمشق واليمن ولبنان.
ومن أعماله مقالات كثيرة منشورة في الصحف والمجلات. ومؤلفه عن حياة الشيخ محمد بن عثمان السنوسي وآثاره ونشره كذلك لكتاب الشيخ السنوسي. »خلاصة النازلة التونسية«. ومن أصدقائه النضال في حياته الرشيد إدريس ومحمد المرزوقي والباهي الأدعم. وتتلمذ في الأدب الشيخ محمد العربي الكبادي الأديب الكبير، ومن أعلام عصره الذي بكى لوفاتهم بقلمه ودموعه الشيخ محمد العزيز جعيط والشيخ الفاضل بن عاشور، والعلامة حسن حسني عبد الوهاب ومحمد المنصف المسنستيري.
وكشف الدكتور الكعبي في آخر محاضرته عن وثيقة مهمة، عبارة عن كنش دون فيه الشيخ الصادق شيئاً من مذكراته عن مرحلة تكوينه الأدبي وعنوانه »بتجربته شخصية في معاناة الأدب«. وكان سلمها له أخوه الشيخ الطيبب بسيس، بعد أربعينية المرحوم التي انتظمت بالجزائر وشارك فيها الدكتور الكعبي بكلمة عنوانه »مصلح من بقية القوم«. ووعد الدكتور الكعبي بنشر تلك الوثيقة ضمن »الأعمال الكاملة للشيخ الصادق بسيس« الذي دعا الى تظافر الجهود لإخراجه وفاء لذكرى عالم مناضل مصلح بالقلم والخطاب من علماء الزيتونة على أمتداد أربعة عقود من حياته.
كانت لي مناسبة سابقة، وقفت فيها مثل اليوم خاشعاً لروح فقيدنا العزيز الشيخ محمدالصادق بسيس، ضارعاً إلى الله تعالى بالرحمة السابغة له والجزاء الأوفى على ما قدمه منخيرالعلم وصالح العمل للأمة
كان ذلك في أربعينيته التي تبادر الأخوة الجزائريون - جازاهم الله خيراً- بتنظيمها بالمركز الثقافي الاسلامي بالجزائر العاصمة، في العشرين من نوفمبر سنة 1978 وفاء لفضله وعلمه ومقاسمة لإخوانهم التونسيين في المصاب بفقده. وكانت كلمتي فيها بعنوان »مصلح من بقية القوم«، أمام جمهور غفير من العلماء وأصدقاء الفقيد.
واليوم أجدني أقف بنفس الشعور، للحديث عن جوانب من حياته، في مجالي النقد وتحقيق لتراث، بمناسبة هذا الحفل لإحياء لذكرى مرور اثنين وثلاثين عاماً عن وفاته، رحمه الله.
وهناك قرابة لا محالة بين النقد والتحقيق، إذ لا يخلو أحدهما من الآخر، وإن كان لكل قواعد وأصول. فالأمانة العلمية في تأريخ النصوص تختلف عن الحرية في نقد المواقف والأفكار التي تحملها تلك النصوص. وإذا كان الناقد مصلحاً أساساً، بالمعنى الاصطلاحي للإصلاح، كما في حالة الشيخ محمد الصادق بسيس، لزمنا أن نؤاخي بين مذهبه في الإصلاح وبين مذهبه في النقد والتحقيق، ونقدّر التناسب والتداخل بين مواقفه وأفكاره العملية وبين معاركه القلمية، مناصراً لقضية، أو متصدياً لمظلمة، أو متحدياً لسلطة غاشمة.
ولتكوين فكرة دقيقة عن جهوده في مجالي النقد والتحقيق كنا نحتاج الى الوقوف على كتاباته المختلفة والكثيرة، بين مقالات ومؤلفات للإلمام بها أولاً، ولرصد تطورها كما وكيفاً ثانياً، لرسم صورة واضحة للخيط الرابط، والذي قد يكون يشملها جميعاً بنوع من المنطق الموحد لدى صاحبها، والصبغة العقلانية والبعد الوجداني والعمق الإيماني.
لكن هذه الكتابات للشيخ بسيس ليست كلها بمتناول اليد اليوم، فضلاً على كونها في معظمها مقالات مفرقة في صحف لم تجمع بعد في كتاب؛ أما مؤلفاته فلا يعدو ما ظهر منها مطبوعاً ثلاثة كتب من عشرة أوتزيد.
ورغم الوعد الذي قطعته على نفسها بعض الجهات الرسمية الثقافية إثر وفاته، بالمسارعة إلى نشر تراثه قبل أن يضيع ويتشتت ويصبح كبيض الأنوق! لم يظهر سوى القليل من مقالاته، في شكل مختارات بعناية صديقنا الأديب الناقد الأستاذ أبو زيان السعدي ملحقة بدراسته القيمة، في الكتاب الصادر عن مركز الاتصال الثقافي سنة 2002 أي بعد قرابة ربع قرن من رحليه.
وكثير من كتابنا وأدبائنا في الفترة التي عاصرها الشيخ الصادق بسيس كان يعوزهم نشر أعمالهم. فلم يكن لديهم ما كان بالمشرق موجوداً من مكتبات تجارية ودور نشر وتوزيع عديدة ومتنافسة، توفر للمؤلفين الحقوق والوقت للانصراف الى المزيد من الكتابة والجد. ولذلك، لم يكن في تونس أمثال العقاد وطه حسين والمنفلوطي، في كثرة مؤلفاتهم المنشورة، بعكس الوضع في زمن المخطوطات حيث الكل كان مثل الكل.
وقد كنا في حرج من الوقت، لإعداد كلمتنا في أربعينية المرحوم، لولا مقالات قليلة بقلمه نحتفظ بها من السبعينات من القرن الماضي ولولا المقدمة التي كتبها في تحقيقه للنازلة التونسية، الذي كانت لدينا نسخة منه، والذي يبدو الآن أن طبعته نفدت، ويتحرق بعض الباحثين فيما رأيت على الإنترنت على وجود صورة منها.
ومهما يكن من أمر النشر والتوزيع، المعرقل لشهرة ورواج كتابنا في الداخل والخارج، فالمؤمل أن تخرج هذه الاحتفالية الثلاثينية الأولى لذكراه، بتوصية أكيدة وداعمة لنشر مؤلفات الشيخ بسيس، لعل السبيل تكون مهيئة أكثر للدراسين والباحثين في حياته وسيرته وأعماله.
ويمكن مبدئياً التعويل على كم من المراجع، وهو قليل في الحقيقة، لاستيعاب بعض المعطيات الأولية عن نشاطه النقدي وجهوده في ميدان التحقيق. وإن كانت تلك المراجع لا تخلو من نقص وأخطاء، وربما يفيد أصحابها أو ناشروها من الدراسات اللاحقة في تكلميها وتصحيحها.
وفي مجال البحث عن النقد في كتابات الأستاذ بسيس لا نكاد نستثني مقالاً من مقالاته أو عملاً من أعماله يخلو من نقد، أو ليس كله نقد مبطن وجلي. ذلك أنه كان لا يتناول موضوعاً للكتابة إلا إذا أحسّ أن ملكته النقدية قد استوعبت جوانبه، وأعدت عدّتها للإدلاء فيه برأيها النقدي أو عرضته على محك مبادئها الإصلاحية في الدين والسياسة والاجتماع والفكر.
وتصنيف مقالاته، بحسب ظهورها، هو الذي يمكننا كما أشرنا سابقاً من تتبع الخيط الرابط لمعالجاته النقدية للموضوعات المشتركة التي تتناولها تلك المقالات.
وبانتظار ذلك، وهي مهمة موكولة للباحثين الذين سيتوفرون على نشرها مجموعة في مجلدات، على نحو »الأعمال الكاملة للشيخ محمد الصادق بسيس«، يمكننا أن نصنف المقالات خاصة التي وقفنا على نقد فيها، إلى ثلاثة أصناف: مقالات تتناول معارك نقدية إذا صح التعبير، ومقالات توجيهية، ومقالات ذات طابع سجالي. أما من حيث موضوعات هذه المقالات، فهي وإن بدت بحسب عناوينها تراجم لأشخاص، وذكريات عنهم وتقييم لأعمالهم، أو انطباعات اجتماعية، أو رؤي فكرية وإصلاحية معينة، فالرابط بينها جميعاً هو انطلاقها من منطلقات ثابتة وواضحة لا تزعزها عقيدة، هي الاسلام والأمة واللغة والحرية والشعب، وهي المشخصات القومية كما يعبر عنها، والتي كان يدافع عنها الشيخ بسيس دفاع الأبطال إذا لم نقل دفاع الأنبياء. وزاده وسلاحه الوحيد في هذه المعمعة هو قلمه ولسانه وجنانه. ومن أجل تلك القيم الخالدة في اعتقاده كان لا يتأخر عن افتدائها بروحه، أما ما عداها فاستخدامه لذلك السلاح السلمي - القلم واللسان- لاستنهاض الهمم والعزائم الخامدة أو الخاملة والنفوس الخائفة في أوساط الشعب. والشباب منه خاصة. ذلك الذي كان يدعوه دوماً للاستثمار في الحرية والنضال والتضحية من أجل استعادة تلك المقومات إذا اغتصبها مغتصب أو هددها معتد.
فلم يكن يهاود في تصحيح مخالف يتقمص الحداثة للطعن في تراث الأمة أو مشخصات القومية، ولم يكن يتردد في كشف المندسين وراء الشعارات البراقة لإخضاع المسلمين وتدنيس مقدساتهم والدوس على كرامتهم باستعمار أو نحوه، مستغلين حالة الجهل أو الفقر أو التخلف في بعض طبقاتها. ونراه في سائر مقالاته ومواقفه لا تليه له قناة أمامالأعداء والمناوئين، ولا يعبأ بمن يرميه بالرجعية والجمود والتحجر والسلفية، ونحو ذلك من الملامز والطعون.
ولدينا نصيب من مقالاته السجالية، في التصدّي للكاتب المصري خالد محمد خالد، المنتقض على أزهريته، في الخمسينات من القرن الماضي، والمتذرع بالحداثة والتطور لمهاجمة علماء الدين، الذين وسمهم بالتخلف والرجعية، واعتبرهم من أعداء التقدم والاجتهاد.
وبالرغم من احتفاء الناس بكتاب »من هنا نبدأ.. »شرقاً وغرباً«، لم يترفق الشيخ بسيس بمحمد خالد في نقض آرائه ودعاويه على الاسلام والمسلمين في ذلك الكتاب. ولا نعلم إن كان الشيخ بسيس أدرك قبل وفاته بأن محمد خالد، وقد هاله تهليل الغرب لأفكاره الجريئة في كتابه والمتطرفة أحياناً، ربما سذاجة فيه من الأول، قد انتقض فيما بعد على أفكارهتلك، وذهب بكل وته يصححها بقية عمره فهل تكون نقدات الشيخ بسيس قد أعادت إليه شيئاً من وعيه المفقود؟
والغريب أن يلتحم بهذا النقد الأستاذ محجوب بن ميلاد، وكان يتزعم كوكبة المدرسيين المناوئين للتيار السلفي الزيتوني في الدولة التونسية المستقلة حديثاً. وسنترك للباحثين المحايدين، استخلاص الجوانب السلبية من طرف أو آخر في تلك المنازلة عبر مقالات الرجلين في الصحف وفي الإذاعة. ويشهد بعض المعاصرين النزهاء أن الشيخ بسيس لم يخرج عن طوره وهدوئه وبقي على قوة جأشه وصلابة مواقفه، في تلك الظروف التي كانت فيها ريح المراكب تجري بدعوة التغريب والقطيعة مع الماضي.
وكان الشيخ بسيس شديداً كذلك ودون تسقّط في ردّه على كاتب آخر تونسي من كتاب الحداثة والتجريب في الأدب، هو الروائي المسرحي عز الدين المدني. وترك نشر قصته »الإنسان الصفر« في مجلة قريبة من دوائر السلطة، أكبر استياء في نفسه لما رآه فيها من مساس بالقرآن الكريم، وتلاعب بآياته ومفرداته في سياق غير لائق بعقيدة أهل البلاد وحرمة الكتاب في نفوسهم. وكأنه لا يغتفر للأديب، أي أديب، حريته في تناول ما يناول من مواضيع، لأن الحرية في نظر الشيخ بسيس، الأديب هو نفسه، غير مطلقة وتحكمها في جميع الأحوال المسؤولية.
وقد كان رحمه الله ممن لا يتهاونون بالحرية بدون مسؤولية، لما فيها من إضرار الفرد بالجماعة ولم يكن العكس وارداً في تقديره، لاعتقاده بأن الأمة تجتمع على ضلالة
ويذكرني هذا في واقعة لاحقة، تتمثل في كتيب لبعض الأساتذة الجامعيين في تونس، يحلل فيه قصة الكاتب سلمان رشدي المهدور دمه بفتوى دينية، وتأفف هذا الأستاذ يوماً في ندوة جمعته بأستاذ فرنسي زميل له، خلال ندوة في بعض المراكز البحثية عندنا، تأفف من حجز الرقابة لكتابه، فقال له الأستاذ الفرنسي: أما وقد قلت في كلامك إن السلطة قد أفرجت عنه أخيراً، فلا بأس، ولكني أحب أن أقول لك إنه ما كان ينبغي عليك أن تهتم بتمجيد قصة تافهة، ولا يملك صاحبها من اسم الكاتب إلا ما أسبغته عليه بعض دور النشر!
وكذلك بعض »تجاريب« الكاتب عز الدين المدني، لولا باب النشر المفتوح له عن طريق مجلة صاحبها موجود في السلطة آنذاك، ما كانت لتحظى باهتمام الشيخ بسيس الأديب المؤمن صاحب القلم الأصيل في الكتابة والنقد.
وثالثة الأثافي الأستاذ الحمزاوي، الذي رمى الشيخ بسيس في كيانه اللغوي، بمقاله المثير عن حجية اللهجات العامية في عصرنا إلى جانب الفصحى أو كضرائر لها، وهي دعوة "»العرعامية«، التي كان يروج لها الأستاذ محمد رشاد الحمزاوي، الجامعي المعروف بابتداعاته العامية في القصة والرواية. فكان ذلك المقال مناسبة لانتضاء الشيخ بسيس قلمه لتجريد الكاتب من كل حجية، خاصة أن الحمزاوي زعم في مقاله أن القرآن أخذ من لهجات العرب في عصره دون تحرج، ويسأل: لم لا نسمح لعربيتنا اليوم باستيعاب لهجاتنا العامية دون حرج؟ فرأى الشيخ تضليلاً واسعاً في المقال ودعاوى مخالفة لحقيقة العقيدة وتطور اللغة، واتهمه بالمغالطة عن قصد أو جهلاً، ورد عليه بعلم واسع ودليل ناصع من كلام المفسرين وعلماء القراءات؛ داعياً إياه لعدم الخلط بين التاريخي والمقدس في الأفكار والمفاهيم، وبين المنطق الساذج والواقع اللغوي الحضاري
وجاءت الأحداث، بعد وقت ربما من وفاة الشيخ، لتكنس المفاهيم المضللة التي يتخذها بعض دعاة العامية في تونس، لتحريف الأمة عن لغتها، إحدى مشخصاتها والضامن لوحدتها وتكاملها. فقد تمكنت لغتنا في عصر تقنيات الاتصالات والمواصلات الإلكترونية من تجاوز محنتها بدعاوى تغيير حروفها إلى اللاتينية وإسقاط إعرابها، فإذا هي اليوم لغة رسمية في المحافل الدولية، وإذا هي قد استوعبتها البرمجيات الإلكترونية والتطبيقات الأكثر تطوراً على الحاسب الآلي وعبر الإنترنت وفي المطابع بيسر ونجاح.
ولولا النقد المنهجي والعلمي الذي نشره الشيخ بسيس رداً على الحمزاوي ومن خلاله على أمثاله من دعاة الكمالية في تونس بعد الاستقلال، ضمن حملة التعريب التي قادتها كثير من الأقلام، لما صمدت لغتنا لرواسب الاستعمار وتحدت الأقلام المنتفذة في الدولة الفتية والتي كانت تنضح بالفرنسة صباح مساء.
وكانت مرحلة حرجة واجهها الشيخ بقلمه، وتحسّب لها، إيماناً منه بضرورة تواصل النضال والتمسك بالثوابت بعد مرحلة التحرير، لأعتقاده بأن المواجهة بعدها أشد، خاصة مرحلة مواجهة التحرير اللغوي، والتحرير الثقافي. فقد كان يذكر أن »المكتوبات الادارية« كما يسميها - كانت بالعربية كلّها قبل الحماية، فتعطلت قليلاً ثم تطورت للتقاسم ثم الهيمنة بعد انتصاب الحماية لفائدة الفرنسية.
ولم يكن له لسان واعتزاز، بغير العربية فلم يتحدث يوماً في مقالاته أنه تعلم الفرنسية لتكون أداة تواصله الثقافي مع أحد من غير أبناء جلدته، في تونس أو فرنسا أيام إقامته بها للعلاج، ولم تكن مراجعه الأجنبية التي يشير إليها في كتاباته إلا مترجمة الى لغته العربية.
وكانت لا تأخذه في الحق لومة لائم، ولا يميز بين مخالفيه، من يلبس منهم »الكبوس« العربي مثله أو يلبس الطويل ويكشف رأسه. وقد واجه يوماً مواجهة صعبة قرينه في النضال السياسي وفي التعريب الأستاذ محمد العروسي المطوي، الذي عبر يوماً عن قلقه وانزعاجه من استمرار الحوار في التعريب وطالب بالجبرية، وخالفه الأستاذ بسيس الرأي، داعياً بعكسه إلى بقاء باب الحوار مفتوحاً وإلى قيام مجمع لغوي في تونس لحماية العربية والسهر على شؤونها، دون الاكتفاء بالمجامع القائمة في دمشق والقاهرة وبغداد، شرط التوحيد والتنسيق والمتابعة بين جميعها، مؤكداً بأن الحسم من طرف واحد لغلق باب الحوار اللغوي لأسباب اعتقادية أو عاطفية، لا يمنح الفرصة لنضج الأفكار والتلاقح بينها، بعد ليل طويل خلفه الاستعمار، من التشتت والتدابر بين طوائف الأمة الواحدة وأفرادها.
أما نقده الاجتماعي، فيمكن أن نلمسه في المقالات الأخرى المصنفة في باب الانطباعات والتوجيه. حين نجده يقارن بين أساليب التمدن والحضارة في الأمم المتقدمة كفرنسا التي زارها مستشفياً، والمتخلفة كسائر بلاد الشرق العربية والاسلامية. فتراه حيناً من خلال بث أشواقه للبحر، هرباً من قيظ المدينة في الصيف، يناجي طهارة الطبيعية، ويذرع الى الخالق أن يديم طهارة البحر، وينجيه من خطر التلوث بالنفط أو النفايات الذرية.
وفي مقال آخر، يغازل جمال الكون وبراءة الطفولة، فيهرع إلى الأولياء والأباء لتعليم أبنائهم حب الطبيعة، والحدائق والنوافير والزهور. ويدعو إلى ما يسميه الثقافة الزهرية في التربية الاجتماعية للأفراد والجماعات.
ورأس التربية الاجتماعية عنده هي الأخلاق، والأخلاق الإسلامية خاصة، وتراه يستعيد عهد الناس بها في المجتمعات الإسلامية، ويذكر ببعض المبادئ العامة التي يستوحي منها المسلم حرمة المسكن والجار والطريق، مثل قوله: »إن دين هذه الأمة الإسلام، وهو منبع الأخلاق الطيبة، وهو المرشد إلى فضائل الخير والحق والعدل والقوة وسائر شعب الإيمان، من شهادة التوحيد إلى إماطة الأذى عن الطريق« ويؤكد أنه »لا نجاح لمشروع في الميادين السياسية والتجارية والفلاحية والرياضية والعلمية إلا بخلق كريم«.
وربما لامس في مقاله بعنوان »الجوهر الدائم« بعض أنانيات الأشخاص، وذلك حين عرض لمواقف محددة في حياة بعض الكتاب، كنجيب محفوظ، الذي أخذ الناس عليه انصرافه عن الزواج، فرد بإنه يخشى أن تجد الزوجة الحبيبة ببيته ضرائر لا ضرة وحده، هن كتبه الكثيرة، والتي يشغل نهاره وليله بها.. وأنى له تدليل زوجه بمثل حالته تلك. وربط الكاتب موقف نجيب محفوظ بموقف أحد رفاقه في أسرة العمل الثقافي الذي يشارك بالتحرير فيه، والذي توزر في ذلك الحين، وهو الأستاذ فرحات الدشرواي، وأنه ربما تلهيه الوزارة عن الكتاب والأدب وعن أخلاق الجامعيين ومبادئ أصحاب الرسالات في العلم والاصلاح والبحث والتحقيق. وأنه قد يجد في الوزارة ملهاة عن كل ذلك دون أن يجد نفسه مسلوب الأدب عندما يغادر لاستئناف حياته هادئاً مع كتبه وأقلامه؛ أو يغريه البقاء في الكرسي إلى إطالة المقام دون استماع الى ملام، فيفقد نكهة الكتاب وصحبة الكتّاب.
ومع ذلك فهو يقدم لكلامه عن الدشراوي، ببعض الإشارات اللطيفة، فيقول: »لم أشفق على صاحبنا الدكتور فرحات الدشرواي ، لا لأني عاشرته أو خالطته، فأنا إلى الآن من سوء الحظ ما عرفته، إلا بآثاره وصورته. وأظنه كذلك لم يعرفني إلا وأنا أعبد الله بقلمي في زاويتي، التي شاءت طرافة الأخ صلاح الدين بن حميدة أن يجعلها عنواناً قاراً لمقالاتي، كأنه علم أني أدرس التصوف بكلية الشريعة وأصول الدين، فوضعني في زاوية صوفية، لا زاوية هندسية! ولكني بحمد الله جعلت من زاويتي رباطاً في سبيل العلم«. ولا يتردد بعد قليل في التلميح له بخشيته عليه »لأنه من مثقفينا القلائل، الذين يؤدون زكاة المعرفة لأمتهم باستمرار وسماح، وليس هو من الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله، وأنا رجل أحب الذي يزكي إيثاراً وأكره الذي يكنز شحاً«.
ويكاد سوء ظن الشيخ برجال الجامعة عاماً، وفي ذلك يقول في المقال نفسه »الجوهر الدائم«: »ورأينا في حياتنا من ولي الوزارة من الأدباء والعلماء فمنهم من صدق ما عاهد عليه الأدب، فاتخذ من سلطانه نصيراً لمثاليته، ومنهم من فتنته السلطة الموقوتة فتنكر لفكره وهو مخمور، فلما أفاق ببرودة الفصل عنها خسر الأدب والوزارة معاً خسراناً مبيناً«.
ومن مظاهر النقد الاجتماعي الذي يتناول سلوكيات بعض أصحاب المناصب العلمية والسياسة، نقده لبعض أعضاء المجمع العلمي بدمشق، خاصة الدكتور سامي الدهان، على تقصيره في الكتيب الذي أعده عن حياة محمد كرد علي رئيس المجمع وتراثه إثر وفاته. وكان الشيخ رأى من إعجابه بكرد علي في نضاله الفكري والعلمي وخدمته للتراث وللعربية وكثرة مؤلفاته، أن يعقد له المجمع أربعينية عظيمة تليق بقدره وتتسع لكل أحبائه ومقدّريه، فبعث رسالة في الموضوع من إقامته في فرنسا1، وهو يتحرق، فإذا الردّ يكون مخيباً للآمال وتذوب الفكرة في انتظار عودة مردم بك، الرئيس الجديد للمجمع، من زيارته الى بغداد، فيبتئس الشيخ، وينظر في الكتيب المصاحب للدهان الذي قد يغنيه عن شذى الأربعينية. فوضع همه في الدهان، ورماه بالتقصير في تصوير حياة الفقيد، دون الإلمام الجيد بمآثره وآثاره في ذلك الكتيب البائس.
ويذكّره بأن مذكرات كرد علي، على طولها في أربعة مجلدات، كانت تتطلب منه استخلاص عشرات الصفحات المفيدة منها، بما سوى النفاق والمجاملة والتقريظ الذي تعود به الشرق في كتاباته ومعاملاته. ويستطرد الشيخ بالمناسبة للحمل على كرد علي نفسه لملء مذكراته بغير قليل من النقد القادح الجارح لكثير من معاصريه، ولا يغتفر له أسلوبه العاطفي المتأثر بعاطفة الحب والبغض غالباً والتفاخر.. ويلخص الى القول - وفيه تعريض بالدهان: »إن للنقد نوراً وناراً، فأما النور فيبرز القيم والخصائص والروائع، وأما النار فتأكل الزيوت والقشور والأدهان«.
ومن قبيل النقد السياسي غير المقنع، في مقالات الشيخ ذات الطابع التاريخي للشخصيات التي أحبها وعاشرها، وتتلمذ على يدها أو تخرج من جامعتها العلمية والنضالية، كالشيخ العربي الكبادي والشيخ عبد العزيز جعيط، أو تلك التي عني بتراثها ونشر مخطوطاتها كالشيخ السنوسي، تعليقه على الحوار الذي عقده السنوسي بينه وبين خير الدين بعد تركه الوزارة. فقد أنحى السنوسي باللوم على خير الدين وساءله مرات لماذا لم يضع موضع التطبيق أفكاره الإصلاحية في دولته حين تولى الوزارة بعد عزلته لتأليف كتابه »أقوم المسالك«. ونعرف أن خير الدين كان يتهرب من الجواب المباشر، وهو قلة النصير في حاشية الباي والوزير واستخذاء العلماء، وضغط قناصل الدول وجهل الدهماء بحقوقها وواجباتها. ولا يرى الشيخ بسيس خير الدين إلا معذوراً والسنوسي إلا ملوماً على إحراجه وعدم انحراجه هو نفسه فيما بعد - أي السنوسي - من ملابسة سلطة الحماية بعد انتصابها.
حتى إنه يقول في معرض الانتصاف لخير الدين من شماتة الخصوم به بعد سقوطه : »وهذه غفلة من السنوسي عن دور قناصل الدول الأجنبية في إسقاطه !«.
وهذا الحوار قرأه الشيخ بسيس في الرحلة الحجازية للشيخ السنوسي وذكر أنه »عازم على نشرها محققة مخدومة إن شاء الله «.
وفي السياق النقدي نفسه، يكاد الشيخ بسيس ينكر على ابن أبي الضياف سخطه على الحكم المطلق، وهو الذي صانعه مدة، لولا كلمة حكيمة خطها في مقدمة إتحافه وكأنه يعزي نفسه، وهي أن »شدة الملك القهري تفضي إلى نقص في الكمالات الإنسانية، من الشجاعة وإباء الضيم، والمرافعة على المروءة والشرف، وحب الوطن والغيرة عليه، حتى صار بعض أهل الجهات من المسلمين عبيد حياته، ليس لهم من مسقط رؤوسهم وبلادهم ومنبت آبائهم وأجدادهم إلاّ عطاء الدرهم والدينار على مذلة وحقار والربط على الخسف ربط الحمار، حتى زهدوا في حب الوطن والدار وانسخلوا من أخلاق الأحرار«.
وفي مجال النقد السياسي نقرأ تلميحاته إلى مآل قلم سياسي يجله، ويتحسر على وفاة صاحبه فيقول: »عاش الفقيد محمد المنصف المستيري صاحبَ موهبة في التعبير، حبسها على الأمة التونسية إلى أن أصيب قلمه بالحرمان!«.
وكذلك تفجعه على غياب الشيخ الفاضل ابن عاشور من الساحة، ويصفه ب »الغيور على الإسلام والذائد عن الأم الفصحى، وقد كثر المستهترون بالاسلام والعاقون للعربية الفصحى«. وجاء ذلك في الكلمة التي ألقاها في جنازته ونشرها مع الإشارة في مقدمتها إلى أنه لم يرد أن يدخل عليها أدنى تنقيح أو زيادة أو نقصان.
وربما تساءلنا عن حصانته من عين الرقابة، إن لم يكن نشره لمقالاته المحملة بأنفاث نفسه السياسية، مشمولة بحصانة الحزب الحاكم في جريدته، أو هو قلة المبالاة بنشرها في ملحق ثقافي محدود التأثير في الرأي العام السياسي، المتوجه أكثر للقراءة في الصحف الفرنسية.
وربما هزت مقالاته الساحة السياسية والفكرية أكثر في زمن الحماية منها بعد قيام دولة الاستقلال، حين فترت الأقلام وتقلصت الألسنة، وأصبح وكأن لا نضال بعد النضال ضد الاستعمار.
وربما صب الشيخ بسيس جام غضبه على الأقلام الأدبية والفكرية أكثر من أية أقلام أخرى لا يراها صارخة في الساحة، فيدعو في سنة 1969إلى التغيير، مبيناً: »بإن التغيير في الأمة أي أمة، لا بد أن يحدث كصدى لتأثير عقل يفكر وقلم يعبر، عقل يفكر في الإصلاح وقلم يعبر عنه، وكم نعثر على النماذج والأماثيل في حياة هذه الأمم التي ننعتها بالحية، فإنّها ما أصبحت حية إلا بأفكار المصلحين وأقلام الكتاب الأحرار«.
وهنا يرمز ولا شك إلى المصطلحين والكتاب الأحرار الذين تأثر بسيرتهم، ونهج نهجهم، في العمل السياسي والاجتماعي والفكري والأدبي والصحافي.. وهم طائفة كبيرة نجد احتفاءهم بهم غالباً في مقالاته ومراسلاته وكتاباته وتحقيقاته، أمثال الشيخ الثعالبي من تونس وقادة الإصلاح قبله، أمثال خير الدين التونسي وسالم بوحاجب وابن أبي الضياف والسنوسي وقابادو ومحمد بيرم. وفي الشرق أمير البيان شكيب أرسلان والسيد جمال الدين الأفغاني، والشيخين محمد عبده ومحمد رشيد رضا وعبد الرحمن الكواكبي، وفي المحدثين أمثال محمد لطفي السيد والدكتور طه حسين ومحمود عباس العقاد وأحمدحسنلزيات.
أما أخص الأدباء والعلماء، القريبين أكثر الى نفسه وتفكيره وتجربته، فهم طائفة من التونسين يتقدمهم الشيخ محمد العربي الكبادي والشيخ محمد عبد العزيز جعيط والأستاذ حسن عبد الوهاب والشيخ محمد الفاضل ابن عاشور.
وكانت قراءاته في تراث هؤلاء، المنشور بعضه والمخطوط بعضه، قراءة محقق مدقق، ليخرج بفكرة صحيحة عن توجهاتهم الفكرية وأسرار تكوينهم العلمي والمعرفي والعملي، في ميادين الخطابة والصحافة والنضال. غير معوّل على ما يحكيه المؤرخون عادة من سيرهم، اجتزاء أو توهماً أو تحريفاً.
والمحقق ناقد بطبعه، ولسنا نتحدث عن التحقيق الذي هو نسخ وأقل من نسخ، بل مسخ لآثار السابقين، حين يسوده الفهم القاصر عن لغة أصحاب تلك الآثار وأساليبهم والجهل بعصرهم في أبعاده السياسية والاعتقادية والفكرية وغيرها.
فوقوف الشيخ بسيس بنفسه على مخطوطات الوزير خير الدين مثلاً، جعلته يتأكد من أن الرجل لم يكن لائكياً كما يدّعي بعض المؤرخين ليقول لك بثقة القارئ الحصيف لأفكار الرجل »وأنك لن تشم في كتابه رائحة الإنكار للإسلام، بل إنه قطب الإصلاح ومصدر الإشعاع الذي يضيء أمام الحركة دروب التحرر والتحضر. ولكن خير الدين عندما اعتزل عزلته في بيته ليؤلف كتابه الذي أقامه على التعريف بحسنات الحضارة والتمهيد للحكم الشوري ومناقشة عالم الدين الجاهل بالدنيا وعالم الدنيا الجاهل بالدين إلى الجمع بين المعرفتين، كان وهو يقرر هذا في كتابه وأمثاله من أفكاره في نظري قد تجاوز في تفكيره الإصلاحي المفكرين من جيله شرقاً وغرباً، وسبق زمانه بأجيال، والزمان كفيل بعد انتشار المعرفة في الأمة لتأخذ بأفكاره، فلما تولى الوزارة الكبرى اصطدم بالنفسية الاستبدادية العريقة في الصادق باي، وبجهل الشعب المطبق لحقوقه وواجباته، وباستخذاء أعيان الأمة وبعدم إدراك إخوانه لمراميه البعيدة في الإصلاح. ومن هنا قام بينه وبين أقطاب حزبه خلاف، فحواه كيف يصبح خير الدين وزيراً ولا يقيد استبداد الصادق باي بمجلس شورى..«.
وتوفره على تحقيق مخطوط "الرحلة الحجازية" للسنوسي جعله يكشف فيه عن حوار سياسي مهم يصوّر تفاعلات التيارات السياسية لتلك الفترة، التي أخفى إيجابياتها الاستعمار وكتاباتُه المتحاملة، والتي أفرخت في كثير من عقول التونسيين أباطيل عن شخصيات تلك الفترة وعن ضعف الحقبة التي تلتها في مقاومة الحماية.وما تحقيقه لكتاب السنوسي النازلة التونسية أو خلاصة النازلة التونسية، إلا نموذج على امتلاكه ناصية تحقيق الكتب التراثية وعلى حسه النقدي لردّ الاعتبار تصحيح المواقف.
ونلمس أمانته في النقل والتدقيق اللغوي والأسلوبي والمعنوي، بما أخذه على نفسه حين علم بنسخة ثانية لمخطوط "النازلة التونسية" في يد المناضل الكبير، بقلمه ومركزه الاجتماعي، كما يصفه، الصحافي القدير محمد المنصف المستيري. فقصده للمقابلة بين النسختين، يقول: »وحينما كنت منصرفاً إلى تحقيق كتاب »خلاصة النازلة التونسية« للشيخ الكاتب محمد بن عثمان السنوسي، وقتئذ بلغني أن الفقيد يملك نسخة من هذا الكتاب فرأيت من فروض التحقيق أن أقابل نسختي بنسخته..« وأثنى في مقاله الذي يؤبنه به فيقول: »وكنت مع صديق لي نتداول القراءة للمقابلة .. وهو يستمع إلينا في انتباه وتروّ حتى إذا لزم الوقوف لإصلاح خطإ، أو توجيه تعبير غامض سمعنا منه الملاحظات السديدة، وليدة التجربة والخبرة والمران الطويل بأساليب التعبير مع النقد الحكيم الذكي والاطلاع الرحيب على تراجم الأعلام وأنساب العائلات والمعرفة بخفايا الحركة الوطنية وتواريخ أبطالها، ودقائق أسرار النهضة التونسية من عهد أحمد باي إلى الآن، ما يعزّ نظيره في جيله من خريجي الزيتونة«.
أقول: وقلما نجد هذه العناية وهذا العرفان يردده محقق في مقدمة تحقيقه، وإنه لدرس يندر سماعه على مدارج الجامعة، وإلا من أمثاله من كبار المحققين. ولو طال به العمر وأسعفته وسائل النشر، لرأينا تلك المخطوطات الدفينة التي استخرجها لأسلافنا وعقد العزم على إخراجها محققة مخدومة منشورة، بحسب تعبيره، ولضاهى كبار المحققين في الشرق، الذين كان يعجب بهم ويتأثر أعمالهم، من أمثال أحمد تيمور وأحمد زكي وعبد السلام هارون والدكتورة عائشة عبد الرحمن وأحمد صقر وفؤاد سيد.
هل نقول : » لا يعرف الفضل من الناس إلا ذووه « كما عبر مرة.
ومن الآثار التي كان يعتزم تحقيقها ونشرها - رحمه الله - عدا »الرحلة الحجازية« التي نشرت بعد وفاته بغير قلمه وتقديمه، مؤلفات تترددت في مقالاته كمصادر مخطوطة لجيل المصلحين اطلع عليها، أو مؤلفات لمعاصرين من الكتاب الصلحين الذين عايشهم وبقيت مؤلفاتهم بعد انتقال أصحابها إلى الدينا الآخرى دون نشر وتعلقت همته وفاء لهم بنشرها، كأعمال الكبادي والمنصف المستيري. وقبل ذلك كان اعتنى بكتاب »سبك المقال لفك العقال« لابن الطواح (المتوفى بعد 718 ه) وهو كتاب في تعريف صاحبه بنفسه، أشبه بتعريف ابن خلدون بنفسه، وكان ابن الطواح هو وقرينه عاشق النبي من أعلام تونس في القرن السابع وأوائل القرن الثامن، وتلميذاً للتجاني صاحب الرحلة. والكتاب نشر على يد غيره بعد وفاته. حققه الدكتور محمد مسعود جبران من ليبيا. وبالنظر في الملاحظات المهمة على هذا التحقيق، تحت أقلام بعض النقاد، قد يكون من الأصلح نشر التحقيق التونسي الأسبق للكتاب بقلم الشيخ الصادق بسيس.
فقد كان الشيخ بسيس كما عودنا في مقدمة تحقيقه للنازلة التونسية لا يبخل بالاستفاضة في حياة المؤلف وظروف تأليف كتابه ونقد أفكاره ومواقفه أو عرضها على محك الواقع في عصره وسبيل الانتفاع منه في عصرنا. وكذلك فعل أيضاً في كتابه الثاني »رياض الصالحين«، للمحدث الدمشقي أبي زكريا النووي المتوفى سنة 676 ه الذي ظهر بتحقيقه بعد وفاته، عن المكتبة العتيقة بتونس ودار التراث بالقاهرة سنة 1979.
وكدأب المحققين الأثبات لا يأل الشيخ بسيس جهدآ في تخريج الأحاديث والترجمة للأعلام، وشرح الألفاظ الصعبة والفهرسة للكتاب، مصدراً التحقيق بمقدمة ضافية عن حياته المؤلف وآثاره وأهمية كتابه والهدف من إحيائه ونشره.
ومقدمات كتبه المحققة، فيما رأينا منها على الأقل، تجري على منوال أسلوبه في مقالاته من حيث اللغة الصافية والتصرف الطريف الجميل في اشتقاق الكلمات وتوليدها على نحو نادر وجوده عند غيره، في أسلوب محكم جزل ممتنع، إذا لم نقل معجز لاقتباسه من القرآن الكريم وإعجازه البياني.
ونراه في مجال التراث يصف ببلاغة نادرة مكتبة الأستاذ حسن عبد الوهاب، وما تحويه من عظيم المخطوطات، والتي وقفها على دار الكتب الوطنية التونسية، ويدعو الباحثين التونسيين وغيرهم إلى تحقيق الغاية من وقفها، بتحقيق ونشر ما فيها من أعلاق وذخائر.
وكم كان يبهجه أن ينسب نفسه للمؤسسات العلمية والبحثية التي كان لها اسم رسمي وشعار، من خلال تجربته ككاتب عام لبيت الحكمة في تونس. وما هي في الواقع إلا مكتبة الأستاذ حسن عبد الوهاب في بيته، إحياء لبيت الحكمة القيرواني الأغلبي، وتجمع من الأعضاء حوله أمثال الشيخ محمد العربي الكبادي والفاضل ابن عاشور ومحمد الصالح المهيدي.
وبقي حنينه للمجمع العلمي الأول بتونس قبل الحرب العالمية الأولى، والذي ظل ينقب ويحقق عن تاريخه وأعضائه، الى أن اكتشف أن آخر من عاصرهم من أعضائه الشيخ زين العابدين السنوسي والشيخ المكي بن حسين والأستاذ عثمان الكعاك. وأهمية هذه المؤسسات العلمية في تقديره أنها أساسية في »جمع الشمل المشتت والعقد المنثور من أهل العلم «.
والمخطوطات التي كانت في دائرة اهتمامه كرجل إصلاح ونضال سياسي واجتماعي وعلمي، وظهرت، لم تخل، رغم وجود لجان أو أسماء أكاديمية في غلافها من أخطاء مفهومية وتاريخية، ربما عالجها هو في بعض مقالاته اللاحقه بالتصحيح والنقد، كما ذكرنا عن رأيه في بطلان لائكية خير الدين، أو ربما ساند من عالجها بالنقد والتصحيح، ككتاب إتحاف أهل الزمان بأخبارملوك تونس وعهد الأمان لابن أبي الضياف وكذلك كتاب »أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك« فإنه لو كان عضواً في تلك اللجان أو تم الرجوع إليه في حلّ مشكلاتها، لما ظهرت فيها تلك الأخطاء، والتي ربما لاحظها أكثر من دارس مثله، والتي بقيت على حالها في طبعات الكتابين المتكررة إلى اليوم.
ولا نذكر هنا غير مثالين اثنين، ليتبين لنا من خلاهما أن حسن ظن الشيخ بالزعماء المصلحين كان يجعله يتوقف عن تهمتهم بالنفاق أو الخشية من أهل السلطان في مواقفهم، كما فعل بعكسه بعضهم حين اتهم ابن أبي الضياف بالتناقض في تحبيذه للنظام الجمهوري في موضع وفي موضع آخر يقرر بأنه نظام مناف للشريعة. فقد فعلت اللجنة المتولية لتحقيق الكتاب في تعليق لها على الموضوع. فقالت بأن ذلك مردّه إما تقية أو خوف ابن أبي الضياف من افتضاح عقيدته في فساد الحكم المطلق لدى باي الزمان، ما جعله - أي ابن أبي الضياف - يتنكر لقوله السالف في التنويه بالحكم الجمهوري للولايات المتحدة الامريكية في ذلك الوقت. والحقيقة أن المؤلف ابن أبي الضياف، في الموضع الأول، يصف حقيقة النظام النظام الجمهوري لذاته لدى شعوب مخلتفة الطوائف والأديان والأعراق، ويقيمه في الموضع الثاني كمسلم، يؤمن بالشريعة الاسلامية مصدراً للقوانين الشرعية، أو مراعية للشريعة إن كانت وضعية، أو الشرائع كما في حالة الدستور الامريكي الذي تحدث عنه .
والمثال الآخر، هو ورود تعليق في هامش »أقوم المسالك« لمحقق الكتاب وهو الدكتور المنصف الشنوفي يقرر فيه نزعة الوزير خير الدين نحو الديكتاتورية من خلال التنويه بهذا النظام في تعريفه بنظم الحكم المختلفة في كتابه.
ويبدو أن محقق كتاب خير الدين وهَم في هذا الموضع أو لسبق تقدير خاطئ لديه. لأن خير الدين في ذلك الفصل كان بصدد وصف النظم في ذاتها ولم يكن يصدر عن تفضيل لأحدها لتطبيقه على الحالة التونسية .. ولا الانتظار منه التنديد بالنظام الديكتاتوري لمجرد الخوف من اتهامه بالنزوع إليه. وإلا فالديكتاتورية نظام صالح في ذاته كبقية النظم، إذا توفرت شروطه، وهي قيام الفتنة الداخلية المسببة للانقسام والاقتتال، والعهدة المؤقتة للدكتاتور من طرف الهيئة المنتخبة له باستعادة الأمن والاستقرار للدولة، بما يفضي إلى التخلي عن الدكتاتورية والعود إلى النظام الشوري بعد عودة الأمن.
ولم أدرك يوماً هذه الحقائق في شخصية الأستاذ بسيس، لأني لم أكن أعرف انكبابه على آثار جماعة الإصلاحات الخيرية (نسبة الى خير الدين) إلا بعد لقائي به في صيف 1973 أي قبل صدور كتابه »النازلة التونسية« سنة 1976. فقد كنت، في سنوات عطائه الفكري والقلمي، في الستينات من القرن، خارج الحدود للدراسة بالعراق ثم مصر فباريس، وبعودتي في 71 استغرقتني الحياة الجامعية ثم النيابية، وقبل الستينات، في فترة الثانوي، كانت تستهوينا أكثر نحن التلاميذ مطالعة الكتب على المقالات في الجرائد، فلم أكد أشعر أني قرأت له مقالاً إلا في أخريات حياته.
ولم أكتشفه حقاً إلا حين استوقفني يوماً في لقاء عابر بالطريق، وهو يتأبط كتباً كعادته خارجاً من المكتبة الوطنية أو عائداً إليها، ليقول لي رأيه في مقال لي قرأه أيامها في "العمل" عن شخصية الوزير مصطفى بن اسماعيل، لا أقول »أعجبه«، كما قال هو يوماً عن رأى أستاذه الكبادي ببيتين من الشعر، صنعهما أمامه مطارحة، ولم يكن كتب شعراً من قبل، فقال يحكي رأي أستاذه »فأعجب بهما«؛ ولكني أقول لإعجابي باتفاق رأيه في شخصية مصطفى بن اسماعيل مع رأيي، وبما هو قريب من تصويري لشخصية هذا الوزير في المقال المنشور. حتى أنه قال لي : لم أر لأحد مثل رأيك في ابن اسماعيل وكنت محقاً وكان ذلك المقال في الحقيقة هو الدراسة التي قدمتها في مؤتمر المؤرخين التونسيين في الحمامات في صيف ذلك العام.(1973)
وكان ذلك اللقاء هو الأول بيني وبينه، وكنت قبلاً هيّاباً له لمقامه في نفسي من العلم والفضل والخلق. واكتشف تواضعه وسعة اطلاعه على ما تكتبه مختلف الأقلام فيما يشغل باله آنذاك عن فترة الإصلاحات الخيرية كما يسميها.
وكنت في تلك الدراسة قد قلت إن ابن اسماعيل لم يكن بدعاً من وزراء ذلك العصر في مكايده وألاعيبه السياسية للظفر بالولاية الكبرى على تونس، مثله محمد علي في مصر، وحتى خير الدين التونسي الذي خلفه ابن اسماعيل في الوزارة. وكأنّما كان الشيخ بسيس مطمئناً مثلي إلى أن تلك الوثيقة، التي قد يكون قرأها قبل مخطوطة، في بعض ما قرأ من مدونات تلك الفترة، خاصة في وثائق الشيخ السنوسي، لم تكن غير وثيقة كيدية لبعض خصوم ابن اسماعيل ومناوئيه.
ومن تحقيقاته القيمة نشره لرسالتين هامتين من تاريخه النضالي، إحداهما وردته من مفتي فلسطين الشيخ محمد أمين الحسيني، رئيس اللجنة العربية العليا لفلسطين آنذاك، والذي يسميه »العالم العامل الشيخ أمين الحسيني«؛ والثانية من المناضل العربي الكبير محمد علي الطاهر صاحب جريدتي الشورى والشباب بمصر، والتي كانتا منبراً عامة لحركات التحرير مشرقاً وفي ومغرباً. فقد قدّم للرسالتين، في مقال له بعنوان »فجيعة العالم الإسلامي بفقد أمين الحسيني ومحمد علي الطاهر« (الصباح، 6 سبتمبر1974) تقديماً مناسباً وذكر دواعي نشره للرسالتين، بأنها »خدمة للحقيقة والتاريخ وتنمية لروح الأخوة والتناصر بين الأمة التونسية وشعب فلسطين الذي يقاسي اليوم قنابل الأعداء وغدر الجار الغريب!«. ولم يفته التعليق في رسالة الحسيني للتدقيق في بعض المواضع، ومنها ظروف امتناعه عن نشر تلك الرسالة في حينها نزولاً عند رغبة صاحبها، يقول: »لعل السيد (الحسيني) يشير إلى ظروف فلسطينية أو للحدث الوطني 9 أفريل1938، وكنت من سجنائه وقتئذ«.
وتلك منه لعمري أمانة تاريخية في توثيق الأحداث. وربما احتاجت تلك الرسالة في صورة نشرها من جديد فى أعماله الكاملة إلى تعليق إضافي لبعد تلك الظروف التي يشير الشيخ بسيس إليها اختصاراً، خاصة دوره النضالي في ترأس »لجنة الدفاع عن فلسطين العربية بتونس«، حتى لقب لتفانيه بالعمل من أجلها بالشيخ الفلسطيني وهي اللجنة التي كانت تتخذ مقرها بجمعية قدماء الصادقية، 13نهج دار الجلد، بتونس.
ولا نعتقد أننا قد أحطنا في هذه الكلمات بجهود أديبنا العلامة المصلح الشيخ محمد الصادق بسيس في ميداني النقد الأدبي والتحقيق العلمي لتراثنا المخطوط، فالمجال واسع للباحثين، حين تنشر أعماله كاملة. ولكننا عطفاً على كلمتنا في حفل تأبينه بالجزائر، التي أشرنا إليها، نجد لزاماً علينا، وفاء وعرفاناً، الإشارة في هذه المناسبة إلى وثيقة هامة جاءتني في رسالة مصاحبة من أخيه الشيخ المرحوم الطيب بسيس، وهي عبارة عن كلمة كان حررها الشيخ الصادق بسيس بعنوان »تجربة شخصية في معاناة الأدب« ويقول لي فيها الشيخ الطيب »وقد استهواني هذا العنوان، لما فيه من الطابع الشخصي الذي يكشف عن شخصية الكاتب، وأعتقد أنه لا يتذوق هذه التجربة إلا من عانى مثلها، لذلك أردت أن أعرضها عليكم علكم تجدون فيها زاوية للحديث عنها كما يروق لذوقكم«.
وكان الشيخ الطيب فيما أتذكر وجه لي بهذه الرسالة بعد وقوفه على كلمتي التأبينية في أربعينية المرحوم بالجزائر، وكأنه كان يقدر بحسب تاريخ رسالته أن تكون تلك الكلمة بين يدي قبل الحفل الذي كان مزمعاً إقامته بتونس، بدار الثقافة ابن خلدون ومشاركتي فيه، لإحياء ذكرى المرحوم، لعلها تكون مدداً جديداً لي للحديث في سيرته وآثاره.
ولم أرد أن تمرّ هذه المناسبة الثانية لإحياء ذكراه دون أن أكشف عن هذه الوثيقة لدي، لعل أحداً لا يعلم بها أو تكون له بين يديه نسخة أخرى مبيضة منها. فينتفع بها الدارسون لحياته وتراثه في المستقبل.
وخير تقدير لهذا الحفل الذي نحييه في ذكرى أديبنا الكبير الصادق بسيس والمناضل الصامد كلمة قالها في حياته في مناسبة مماثلة، ونستحضرها للعبرة وهي:
»إن الانسان عندما يكتب عن شخصية عامة من أعلام الفكر أو العلم أو الأدب فإنه يرمي إلى إنصافهم وتكريمهم وتجلية مكانتهم، لينصبهم قدوى مثلى، تطميحاً لأصحاب الهمم والمثل، وإلا فما يجدي الفقيد هذا التمجيد والتطويب وقد انقطعت الأسباب بينه وبين الحياة والأحياء، وربما نفعه التشجيع والتكريم وهو حي يتأثر بالكلمة الطيبة والانصاف المثير المحمس. وهذا ما رأينا الأمم الناهضة تصنعه لرجالها النوابغ. فإنهم يكرمونهم وهم أحياء بالألقاب والجوائز والأوسمة، و يسهلون لهم سبل عيشهم ووسائل البحث والتبريز والتخصص. فلتكن هذه الكلمة وفاء له واعترافاً بفضله وإغراء جميلاً لمن بعده، وهنيئاً له بحياته التي قضاها وهو يبث العلم في صدور الرجال قرابة نصف قرن بإخلاص ونظام وتعمق. ذلك العمل الذي يثاب عليه صاحبه ما تسلسل عليه في عقول الأجيال أبد الدهر، متبوعاً بالدعاء له والثناء عليه، وذلك لسان الصدق الذي طلبه إبراهيم الخليل? من ربه الكريم (جريدة العمل 16 جانفي 1970):
تونس في 12 جمادى الثانية 1431 ه
الموافق ل 26 ماي 2010


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.