سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
سوريا تكشف عن كنوزها على طريق الحرير (2): سلام على قبر «سيف الله» خالد بن الوليد، سهرة في ضيافة زنوبيا ملكة الصحراء وزيارة إلى دير القديسة «تقلا» التي يجلّها المسلمون
تدمر «الشروق»، من مبعوثنا الخاص كمال الشارني تنطلق بنا رحلة «طريق الحرير» في سوريا صباحا من اللاذقية على ساحل المتوسط إلى «تدمر»، مملكة «زنوبيا» المثيرة في قلب الصحراء السورية، هذه المملكة الغريبة التي تحيط بها الأساطير والأغاني والتي كانت ممرا إجباريا لتجار الحرير وكل ما يحلم به الأوروبيون من مصنوعات الشرق العجيب. على طريق تحفها بساتين الغلال والخضر ومشاهد البحر القريب، نستعرض أسماء المدن والقرى بحثا عن أحداث ترتبط بها، لأن هذه القرى كانت في قلب الحروب الصليبية طويلا. على يمين الطريق مدينة حمص، حيث يرقد البطل خالد بن الوليد، «سيف الله المسلول» على أعدائه. أتذكر قولته الشهيرة: «ليس في جسدي موضع شبر ليس فيه ضربة بسيف أو طعنة برمح وها أنا أموت على فراشي، فلا نامت أعين الجبناء». سلام على قبر البطل الذي بحث عن الشهادة منذ أن دخل الإسلام، فمات في فراشه، سلام على الرجل الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم «سيف الله». فجأة تتغير التضاريس، تتضاءل المساحات الخضراء وتكتسح صفرة التراب جانبي الطريق، إننا ندخل بادية الشام، صحار قاحلة قليلا ما نرى فيها عائلة من بدو العرب حول خيمة، وشاحنة قديمة تجر أثاث البيت الخفيف وخصوصا خزان الماء الذي لا يعوض بأي شيء آخر في هذه الفيافي. لكن لماذا تركت زنوبيا جنائن الساحل واختارت لنفسها مملكة في قلب القفار؟ مملكة زنوبيا تبدو أثار تدمر من بعيد هائلة ومهيبة في حضن الجبال الجرداء، تحكمها قلعة «فخر الدين المعني» الذي خصص له الرحابنة مسرحية غنائية كاملة باسم «أيام فخر الدين». نشأت تدمر منذ آلاف السنين حول واحة صغيرة وعين ماء عذب، وبلغ ما كشف عنه الباحثون أكثر من 10 كلم مربع من المباني التي تدل على عظمة هذه المملكة التي ظهرت قوتها في عام 258م بعد ميلاد المسيح في زمن الملك العربي «أذينة» ثم زوجته «زنوبيا» التي تقول النصوص القديمة إن جمالها كان يفوق الوصف حتى أن فيلسوفا من ذلك العصر قال لها يوما: «يجب أن تنسي جمالك لكي تتمكني من الحكم»، فكان لها ذلك ونجحت في الحفاظ على استقلال مملكتها في ظل الصراع بين القوتين العظميين آنذاك: الرومان والفرس. عرف اليونانيون ثم الرومان مدينة تدمر باسم «بالميريا» أي حي النخيل، وبلغ عدد سكانها أكثر من 100 ألف نسمة، فيما امتد ملك زنوبيا حتى مصر جنوبا والأناضول شمالا وبعض أجزاء فارس وكل الشام. تجعلنا الأعمدة الجبارة نتساءل عن القوى الخارقة التي رفعتها قبل ألفي عام. ويبدو معبد الإله «بل»، رب الأرباب لدى بشر ذلك العصر أحد أعظم المعابد التي خلفتها البشرية فيما يقول لنا الدليل بأسلوبه السياحي إن هذا المعبد كان يشهد يوم الثالث من أفريل كل عام موسم حج من كل الجهات ويحمل الناس إلى «بل» القرابين ويطوفون به على جمل ثم تجري دماء القرابين أنهارا من كثرتها. أما اليوم، فإن الذي يجري بين آثار تدمر هي أحدث وسائل الحضارة والرفاه في النزل ذات الخمس نجوم حول المكان. لكن ما الذي جعل هؤلاء يختارون قلب الصحراء لإقامة مثل هذه المدينة الكبيرة؟ «هكذا يحب بدو العرب»، قال لي الدليل في إجابة خاطفة قبل أن يضيف كأنه تذكر شيئا آخر: «أقاموا مدينتهم حول واحة وفي طريق القوافل بين الشرق والغرب وعرفوا ازدهارا منقطع النظير». أما في الليل، فتقدم لنا فرقة «إنانا» السورية المتخصصة في الرقص مسرحية «زنوبيا» التي تستعيد قصة ملكة الصحراء الشهيرة في مسرح صغير بين الآثار إنما ذي جمال فريد ومتميز. نقف صباحا عند قلعة «فخر الدين المعني» المعلقة بين السماء والأرض، في ذلك العصر لم يكن يقدر على هذه القلعة سوى الله، لحصانتها. كانت هذه القلعة تفرض الضرائب على تجار طريق الحرير وهم يتجهون نحو دمشق، فنسلك الطريق ذاتها إلى أن نصل قرية «معلولا» إحدى كنوز سوريا العجيبة. القديسة تقلا قرية «معلولا» هي أعجوبة حية، إنما تنتمي إلى عصر آخر بعيد، ذلك أن أهلها من المسيحيين والمسلمين ما يزالون يتكلمون اللغة الآرامية التي كان يتكلم بها المسيح عليه السلام أي اللغة الأصلية للديانة المسيحية، هذه اللغة التي اختفت سوى من هذا المكان أو بعض الأديرة النادرة في سوريا. نشأت القرية في مكان غريب في شق صخر عميق تحيط بها قصة «مار تقلا»، وكلمة مار تعني في اللغة الآرامية القديس، أي القديسة تقلا التي يقال إنها رافقت الرسول بولس أحد حواريي المسيح عليه السلام. ويقول المسيحيون الأرثوذكس الذين يعيشون هنا إن «مار تقلا» التي عاشت في بداية القرن الأول للميلاد لجأت إلى هذا المكان القفر في شق في الجبل للتعبد وهربا من اضطهاد الكفار فتجمع حولها المؤمنون في هذا المكان الذي حباه الله بعين ماء عذبة وطبيعة جذابة. ونظرا لضيق المكان فقد بنوا بيوتهم معلقة في الصخر مثل بيوت الخطاف. ندخل دير مار تقلا يوم الجمعة تحت أصداء آذان صلاة الجمعة يتردد في أصداء الوادي وكهوف الجبل دون أن يثير ذلك أي غضب لدى المسيحيين الذين يتعايشون بسلام تاريخي مع المسلمين. وفي داخل الدير نعرف المسلمين من أغطية رؤوس النساء يزرن مغارة القديسة ويترحمن عليها. قالت لي امرأة مسلمة: «نحن المسلمون نحترم المسيح عليه السلام ونحترم حواريه وأصحابه ومن آمن به، ونعتقد أن تقلا كانت امرأة صالحة ونحترمها». تحدثت طويلا مع الراهبة «رولا الأخرس» التي تبلغ من العمر 24 عاما حول التزامها بالرهبنة التي تعني أن عليها أن تنسى الزواج وأغلب متع الحياة وتهب نفسها للدير. طلبت منها أن تكلمني باللغة الآرامية فقالت لي: «اختشيبا، يبيش عفيتا»، ثم فسرتها لنا مبتسمة وهي تنصرف لواجباتها الدينية: «كيفك، يعطيك العافية». لقد كانت تتحدث باللغة التي يتحدث بها السيد المسيح عليه السلام. الجدران مغطاة بصور القديسين أسفلها أسماء المؤمنين الذين أهدوها إلى الدير، وحين وصلنا إلى بوابة الغرفة التي كانت تتعبد فيها، لا تردد الراهبة المكلفة بالمكان بتنبيهنا بصرامة: «التصوير هنا ممنوع منعا باتا من فضلكم». أدخل غرفة القديسة التي لا تزيد مساحتها عن 6 أمتار مربعة محفورة في الصخر تملأها رائحة «الزيت المقدس» وبقايا الشمع الذي لا ينطفئ في هذا المكان أبدا. نلقي نظرة أخيرة على قرية «معلولا» العجيبة، ثم نرحل نحو دمشق، بوابة التاريخ والحضارة وجوهرة الشام، حالمين بالجامع الأموي وبأسواق المدينة العريقة، وتلك مقالة أخرى.