لا يكاد المار من شارع باب الجديد بالعاصمة يصل إلى القوس الأثري ويعبره حتى يجد أمامه سوقا يضمّ عديد الدكاكين المختصة في الحدادة تعود إلى تاريخ قديم يشهد بعراقة هذه المهنة التي عرفتها بلادنا في أوائل القرن التاسع عشر. تحدّث عمّ «علي» وهو من أشهر الحرفيين ويبلغ عمره حاليا سبعين سنة عن سوق الحديد وعن دكاكينه الضيقة التي كانت تابعة في ما مضى إلى بعض جمعيات الأوقاف وتمّ التفويت فيها إلى شاغليها في أوائل الستينات والتاريخ العريق لهذه المهنة التي ورثها عن والده وكان متحسّرا على الأيام الخوالي التي عرفت فيها مهنة الحدادة ازدهارا كبيرا في حين أنّ اليوم يشهد الحدادون أتعس فترة فالشباب يعزف عن تعلّم فنون الحدادة ويعتبرها شاقة وملوّثة وذات أخطار كثيرة تتمثّل أساسا في الحرارة المرتفعة جدا التي يعاني منها الحداد في الصيف وفي الشتاء وفي بعض المواد الكيمياوية التي تضاف إلى النّار لتزيدها لهيبا لأنّ بعض أنواع الحديد وهي كثيرة تتطلّب نوعا خاصا من النّار تساهم مادة البخاّرة مثلا في الحصول عليها. وقد أضاف عمّ علي بأنّ هذا السوق كان له فرع آخر يقع في باب سويقة وكان للسوقين أمين واحد وهو «الحاج العربي شويخة» الذي يعتبر من رواد الحدادة في تونس ونقلها إلى الأجيال المعاصرة , وقد كان النّاس يقصدون السوق لصناعة بعض مستلزمات الدواب والخيول كما أنّ بعض الحرفاء وخاصة منهم عديد المؤسسات العاملة في مجال التراث لا تتعامل سوى مع هذا السّوق ويأتون إلى باب الجديد لصناعة باب أو شباك بالطريقة اليدوية التقليدية ولا تغريهم الأسعار الرخيصة الموجودة في بعض الأسواق القريبة من العاصمة لأنّ هذه السّلع ليست ذات جودة عالية وخلال سنة واحدة يمكن أن يخسر الحريف الباب الذي اشتراه والأموال التي دفعها في حين أنّ الحديد اليدوي يعمّر لعقود كثيرة وهو لذلك باهظ الثمن. وقد اشتكى أحد العاملين بسوق الحديد من الوضع الراهن واتجاه هذه المهنة إلى الكساد رغم عراقتها وتوجّه إلى السّلط والأطراف المتدخلة في مجالات الصناعات اليدوية والتقليدية ببعض الاقتراحات للنهوض بهذه المهنة مثل تكوين جمعية تعنى بفنّ الحدادة وتدريس هذه المهنة بالمدارس الإعدادية ومراكز التكوين المهني.