(1) أكاد أقول... هنا والآن , انتبهوا لهذا المخرج المسرحي السّوري الذي اسمه عبد المنعم عمايري والذي أرصد شخصيا أعماله منذ عشر سنوات حين رأيت عمله أوّل مرّة «صدى» في احدى دورات أيام قرطاج المسرحية , كان ذلك الشاب لم يتخط العقد الثالث من عمره , كان عمله رغم ذلك الجهد المحمول على التمرين الأسلوبي اشعاعات منفلتة يصعب الامساك بها , اشعاعات منفلتة تبشر بأن لغة مسرحية في طريقها الى التشكل غير أنها لا تزال تبحث عن مفرداتها لتنحت أبجديتها الخاصة ولسانها الفصيح... أذكر أن متلقي العرض في ذلك الوقت قد رأوا في عمله ذلك عملا هاويا لا يكاد يخرج من أسلوب التمرين المدرسي , وقد يكون ذلك الرأي الذي تردّد في ذلك الوقت في تونس صحيحا الى درجة ما , خاصة وأن سياقات المهرجان المزدحمة والمكتظة - كمهرجان أيام قرطاج المسرحية – بالبارونات والعرّابين في مسارحنا العربية لا تترك لك المجال للتثبت في اختبار هذه الاشعاعات التي تخترق حواسك وأنت تأجل الحكم عليها وتعلقها على حبل الوهج الشبابي الهاوي في انتظار ما قد يؤكد ذلك الحدس أوينفيه بعد انقشاع الضجيج والفوريا التي تصطحب متابعتنا للأعمال والعروض المسرحية. (2) لكن هذا الاحساس الأول ... وأكاد أقول هذا الحدس بدأ يتأكد كل مرّة حين توغّل عبد المنعم عمايري في نحت مسيرته الاخراجية التأليفية وقد نجح في افتكاك الاعجاب وشحذ الانتباه اليه , كانت أعماله التي عرضها في تونس شكلت رغم صعوبة الساحة المسرحية حالة خاصة قابلها النقد المسرحي بالاستحسان وقابلها البعض بالتجاهل الفاضح والبعض الآخر رددوا مقولة أن العمايري يحاكي أساليب الاخراج المسرحي التونسي في مثال فاضل الجعايبي وتوفيق الجبالي وعز الدين قنون... والعمايري في قرارة نفسه لا ينكر تأثره الشديد بالمسرح التونسي المعاصر , ولم يقف عند عتبة الاعجاب والانبهار الساذج بل استطاع استيعاب الأدوات والمناهج الكامنة في الممارسة الابداعية المسرحية في تونس , والتي لا يمكن بالضرورة أن يراه من هوفي الداخل بشكل واضح. (3) هكذا ردّدوا هذه المقولة درءا لهذا العنف المخملي الذي يمارسه العمايري على المتلقي التونسي , وأذكر أن ترديد هذه المقولة لم تكن مرفوقة بأيّ تحليل أوتبرير بقدر ما عبرت عن فوبيا مسرحية داخل المدار التونسي التي ربما تستكثر على نفسها ميلاد مبدع مسرحي خارج من مدار تعاليمها , لكنها في نفس الوقت خدمت عمايري على الأقل أن ما يقدمه ينخرط في سياق الوهج الحداثي والتجديدي الذي يمثله المسرح التونسي الطليعي في الخريطة العربية , لكنه لم تثنيه المقولة ذاتها على النظر والاجتهاد في اجتراح أسلوبه الخاص الذي يشبه أحد , ولم يكن ذلك الاشعاع النووي منضبا ولا مخصبا بل كان اشعاع محضا يعبر عن تراكم شاسع ومركّب لميلاد مسرح جديد , مسرح سوري جديد آن الأوان لظهوره على خلفية التقاليد المسرحية العريقة في سوريا منذ أبي خليل القباني ومرورا بأسعد فضّة وسعد الله ونّوس وفواز السّاجر والماغوط وعدوان وصولا الى عمايري وجيله المضارع. (4) والعمايري الذي يحوله كل مرّة التلفزيون الى رهينة ويمنعه من المسرح الاّ أنّه يجد رغم ذلك الطريق الخلفي للخشبة وعزلتها السّحرية فيبدأ منذ البداية الأولى أوكأنه يبدأ من البداية الأولى وقد اكتض في مهجته ذلك الاشعاع ليعيد توزيعه حتى من باب التمرين المدرسي , وهوما لمسته بشكل قاطع وثقيل لا يدعوللشك في سياق عمله الأخير من تأليفه واخراجه « سليكون» والذي قدمه في اطار مشروع تخرج طلبة السنة الرابعة بالمعهد العالي للفنون المسرحية بدمشق , وقد اختار مشروع التخرج ليؤكد أن المسرح السوري الجديد سيأتي من مقاعد الدّراسة والتجريب وتحويل كل تلك الخبرات التي تم شحذها وشحنها لمخاطبة الميثولوجيا اليومية السورية فيخصب الفعل المسرحي السوري في تربته الأصيلة وشعريته العالية ومخياله المحلي... (5) هكذا يتكلم عمايري بخطاب مسرحي مزدحم بالاشارات بأن المسرح السوري المعاصر دقت ساعاته لينطلق حيا وبهيجا وعنيف وقاسيا في أجمل ما تكون القسوة حين تكون مزيجا من الشغف والمعرفة وخليطا بين الوعي والخبرة... وهوذا العمايري يتوغل الآن بعيدا في مساحته السرية مختبئا ومتواريا أراه في عرض «سلكون» متولها ومخطوفا بما يعتمل من طاقة نووية في تلك المساحة – الفضاء الصغيرة ( المسرح الدائري ) كأنه في سراديب تادوش كونتور أوفي خندق غروتفسكي... أراه يكاد تعصف به تلك الطاقة النووية المخبأة في جسده النحيل... وأرى من ورائه الفنانة أمل عرفة رفيقة دربه تهمس: «له تقدّم... تقدّم... تقدّم... عبدو...». وأقول في نفسي: «حان الوقت الآن لانفلاق ربيع مسرحي سوري جديد على يد مخرج مسرحي جديد».