(1) أذكر فيما أذكر من غفلة الوقت المنفلت دوما - ونحن نستعدّ قريبا للاحتفال وطنيا بمائوية ميلاد الأديب التونسي الكبير محمود المسعدي -نتفا من الذكريات التأملية التي علقت بوجداننا تجاه حضور هذا الكاتب في حيواتنا المتراكمة كصور شفافة وهشة لا نكاد نظفر بها حتى تتلاشى كسحابات دخان سجائر أوغليون نتذوق نكهته بعد الفراغ من قراءة رواية تقطع النفس– «الجميلات النائمات» لكاواباتا مثلا, مثلا, أو«السّيد ومارغريتا « لبولغاغوف مثلا, مثلا – وأكاد أبوح في سياق هذا الفيض أن المسعدي ليس نصا وليس أدبا عصيّا منشودا وليس علما يتمّ الاحتفال به في ثقافتنا التونسية الفتية, بل أكاد أبوح بأن المسعدي حياة كاملة تحمل على جناحيها حكاية رجل تونسي اختزل في شخصه صورة «الكائن التونسي» الحديث الذي حاول طوال مسيرته النضالية والأدبية والسّياسية أن يقدم تخطيطها الأوّلي في انتظار اكتمال الصّورة كاملة ومجسدة في نموذج الذات التونسية المغامرة من أجل التحديث والتأصّل في ذات الوقت... محمود المسعدي ليس مجرد أديب وسياسي... إنه لبنة من لبنات كياننا الوجداني والثقافي. (2) أذكر فيما أذكر من غفلة الوقت المنفلت دائما, وزمن الإعداد لامتحان الباكالوريا أن والدي (رحمة الله عليه) الذي لا يعرف من الأدب إلا ما اكتظت به صناديقه الخشبية المزدحمة بكتب التفاسير والفقه وعلم الكلام والتصوّف والنحو والمخطوطات الملغزة حين قرأ «حدث أبوهريرة, قال...», قال: «هذا المسعودي – وكان يسمّيه محمود المسعودي – رجل خطير , لسانه لسان فقيه وقلبه قلب متولّّه «... لم أدرك وقتها معنى تعليقه ذاك, لكنني أذكر حين قرأ ما كتبه طه حسين عن المسعدي قال: «هكذا دائما المصريون تجاه التوانسة منذ تأسيس القاهرة المعزيّة», لم أكن أدرك في ذلك الوقت خلفية ذاك الصّراع الخفيّ ذي الصلة الوثيقة بين الناصرية والبورقيبية التي عاشها جيل والدي وهوذات جيل المسعدي... لم يبح الوالد بكل شيء, ولا أدري كيف كان وقع قراءة «حدث أبوهريرة قال..» على وجدانه وهوالعليم بنصوص الجنيد والتستري والقشيري والسّهروردي شهاب الدين الشّافعي والإمام الأكبري الحاتمي ولا يعرف شيئا عن نيتشه وهلدرلين وسارتر, غير أنني لمست في عينيه الشّهلاوين بريقا من الافتتان والامتنان ربما بسبب لسان الفقيه وقلب المتولّه. (3) أذكر فيما أذكر من غفلة الوقت المنفلت دائما, أنني سمعت محمود المسعدي يقول منذ أكثر من عشرين عاما في إحدى الجلسات الفريدة في اتحاد الكتاب: «يخرج الكلم منيّ كالنطفة في القذف»... ولا أزال إلى اليوم أفكر في هذا الكلام, وأقلّب دلالته وأتقي مزالقه وسطوته التي لا تقاوم, ولعله ذات الكلام الذي يلخّص بشكل مكثف وعنيف فعل الكتابة العصيّة التي يمثلها المسعدي من طمي الكلام الطافي والموحل كما فيما بعد الطوفان, حين تضطر أمّة ما إلى ابتكار أبجديتها من الطين لتكتب به ملحمة تكوينه وتنضجه في أفران التّجارب والمحن... لعلّ «كلم» المسعدي بوصفه كتابة في حاجة للتأمل وفي حاجة للتحليل النفسي حينما ندرك حجم التأثير الكبير الذي لعبه المسعدي على الأقل في طرائق قوله على الكتابة في تونس وعلى جيل كامل من الكتاب الذين أولوا اللغة بوصفها أسلوب العناية الكبرى خارج شروط هذا «الكلم» نفسه. (4) أذكر فيما أذكر من غفلة الوقت المنفلت دائما , حجم معركة الصّور المسكوت عنها في ثقافتنا التونسية المعاصرة وأكاد أقول –وقد أتجنى– على أن المسعدي معاديا للصور Iconoclaste بمقابل شغفه بالكلام, وهوأمر جدير بالتأمل أيضا, ويحيلنا على خاصية من خاصيات ثقافتنا التي لم تستطع التخلص من عقبة الكلام وفتنته... أذكر كيف انسحب محمود المسعدي من عرض مسرحية «حدث...» لمحمد إدريس, واضطر هذا الأخير إلى إخراس مسرحيته وتحويلها إلى سلسلة من المشاهد نسبها بحذلقة لعمر الخيام... فلا المسعدي بين سبب انسحابه من المسرحية وبالتالي سحب نصه, ولا محمد إدريس أوضح الأمر من خلال جدل حقيقي في المسرح التونسي, واكتفي الاثنان المسعدي وتلميذه (درس المسعدي إدريس في الصادقية) بتعليق الحوار, والسكوت عن معركة الصّور التي لم تحسم بعد في ثقافتنا التونسية المعاصرة, رغم أن المعركة في تاريخانيتها معركة قروسطية... في ذلك العرض كنت أجلس وراء المسعدي وهويتابع المسرحية قبل انسحابه, وكان الرجل يتضوّر ضجرا... قلت وأنا أتأمل رأسه ماذا يحدث الآن فيه من صور... هذه صورة أخرى معلقة ولدت عندما تحوّل المسعدي أوحوّل في ثقافتنا التونسية إلى أيقونة. (5) أذكر فيما أذكر من غفلة الوقت المنفلت دائما, أن المسعدي بسطوته تلك وبغوايته التي لا تقاوم, مثّل عقبة كأداء في سياق الكتابة الأدبية في تونس, وأعرف أن ثمة من يقول في الساحة الأدبية إلى اليوم أن المسعدي كان معطلا ومحبطا. وأرى عكس ذلك: المسعدي سمح لجيل آخر أن يجترح لنفسه سبلا أخرى في الكتابة عندما انطلقوا من اليتم في اتجاه عراء آخر لا مكان فيه للغواية وأسر اللغة , وانفلتوا عن المسعدي مكرّسا ومهيمنا وباطرياركيا... كان لابد من ابتكار المسعدي في الثقافة التونسية المعاصرة. لقد كان وجوده ضروريا. أذكر أن كتب والدي ومخطوطاته كانت تتنفس في صناديقها الخشبية وتتنهد متضوعة بعطور «الكلم المعتق»... ما بال هذه الكتب والمخطوطات خرساء اليوم عندما سجنت في صناديقها الحديدية الموروثة من حروب مرت على أرضنا...