عند اعتناق شبابنا موسيقى الرّاب كموسيقى شبابية تعبيرية وجدوا في ممارستها و الإبداع فيها مسلكا ممكنا للتعبير, لم يكن الأمر إلا ليحسب أو ينظر إليه من باب التأثر الثقافي الذي تفرضه الحداثة وتسهل مسالكه وسائل الاتصال الحديثة في هذا الزمن المعولم القادر بشكل مذهل على إنتاج القوالب التعبيرية والثقافية وجعل تبنيها ممكنا بقطع النظر عن الخصوصيات الثقافية أو الحواجز اللغوية أو الدينية أو الإيديولوجية أو النفسية أو غيرها. وموسيقى الرّاب كإحدى التعبيرات الثقافية المعاصرة هي من الموسيقات التي تملك قدرة هائلة على المرونة والغواية خاصة وأنها موسيقى الإحتجاج الأولى بلا منازع، وهي أيضا إلى جانب ذلك تحمل في طياتها نماذج خاصة لرؤية الكون وطرائق مغايرة في الحياة القائمة على التمرّد والرّفض، ولعل من أهمها اتصافها بالروح «الثورية» الغاضبة على النظام المجتمعي بشكل عام، إلى جانب قيامها على خطابات فوضوية وطوباوية منددة بالواقع و مهددة له بشكل التوعد والانتقام الرّمزي، بل أن موسيقى الرّاب كما أنضجتها ظروفها في غيتوهات المدن الأمريكية الكبرى قد تحوّلت إلى عقيدة جديدة تجعل من ممارسها منتم إلى أقلية مجتمعية منظمة قريبة أو مشابهة للتنظيم السري أو تنظيم العصابات التي تقتسم فيما بينها جغرافية الميتروبولات ومسالكها الخلفية. ولأن موسيقى الرّاب كانت في عمقها احتجاجا على الأنظمة القيمية في المجتمعات الليبرالية الرأسمالية فهي رغم تنديدها بهذه النظم، استعملت في تسويق قوالبها أعتى الوسائل التكنولوجية للانتشار والهيمنة والحضور الكاسح بين الشباب على كامل وجه المعمورة، الشيء الذي جعل إمكانية استنساخها و التنويع عليها ممكنا وطيعا بين الشباب حتى في أكثر المجتمعات انغلاقا. ولا غرابة أن يعتنق الشباب أو الأجيال الجديدة في تونس كغيرهم من شباب العالم هذا القالب الموسيقي التعبيري الذي بدأ من التمكن من حضوره «كراب تونسي», له إيقاعاته وشواغله وخطابه غير المنقطع عن تلك النظرة الاحتجاجية والنقدية تجاه المجتمع التونسي. وأصبح البلطي ومحمد علي بن جمعة ولطفي العبدلي وغيرهم يعدون من الأسماء البارزة في هذا المجال الموسيقي، وقد انضافت إليهم مجموعات و أسماء جديدة، لعل من أهمها مغني الرّاب الذي اكتسح الشبكة الإلكترونية الإجتماعية « فايس بووك» والمعروف تحت إسم «بسيكوز». والإسم المستعار أو الفني الذي يختفي وراءه هذا المغني، و«بسكوز» Psychose، وهو مصطلح من معجم علم النفس التحليلي و يعني بالعربية الذهان وهو كما يعرفه المنهل «اختلال في الوظائف العقلية ينتج عنه اضطراب شامل في الشخصية فيصبح المرء عاجزا عن التكيف المجتمعي». والمثير في خطاب هذا المغني الذي لم يفارق بعد سنه العشرون، أنه يقدم نفسه على أساس أنه مصلح، ليس أمامه إلا النصر أو الشهادة و هو مستعد من أجل ذلك للموت، وتتصف أغانيه بخطاب جهادي سلفي انتحاري يرى الفساد في كل مكان ويتوعد بتغير المجتمع التونسي ويشهر بأعلام وأسماء بارزين في التاريخ التونسي المعاصر. والأخطر من ذلك أن خطاب هذا المغني الذهاني، ليس غير ذلك الخطاب السياسي الظلامي الذي كاد في التاريخ القريب أن يحول البلاد إلى معسكر طالباني يتم فيه تكفير كل منجز حضاري و ثقافي ومدني أعطت من أجله أجيال أرواحها ودماءها من تحقيقه وبنائه، وهو نفس الخطاب الكهفي المتوعد بالويل والثبور وعظائم الأمور الذي يريد بالعودة بالمجتمع التونسي ومكاسبه إلى الصحراء النجدية والتطبيق الحرفي للشريعة والتمسك بالإرداد بالزمن الحاضر إلى غياهب التكفير والتحريم وإقامة الحدّ والكفر بكل منجز عقلي ومنطقي والحرص على إطالة اللحي و برقعة المرأة بوصفها أس الخطيئة و العورة العوراء. والأخطر أن هذا الذّهان الذي يعبر عنه هذا الخطاب يجد في أوساط الأجيال الجديدة المجردة من كل حصانة فكرية أو معرفية مرتعا خصبا وجيوشا للموت والانتحار، و«بسكوز» هذا الذي يقدم نفسه مصلحا وأني على يقين أنه لم يقرأ كتابا واحدا كغيره من مغني الراب يشتم مجلة الأحوال الشخصية و الطاهر الحداد وكوكبة من المفكرين المتنورين في تونس من الطاهر الحداد إلى ألفة يوسف, يذهب به الأمر حتى للتعبير عن رغبته في تغيير علم البلاد براية سوداء، والأخطر من ذلك أيضا أن «بسيكوز» يتمتع في الشبكة الإلكترونية الإجتماعية بآلاف آلاف المعجبين. الويل لنا من هذا الذهان، ومن هذا الإنفلات الفكري والثقافي الذي يصنعه و يروجه ظلاميون في كهوف الظلام.