عندما وصلنا صبيحة الأمس إلى مدينة الكاف، كان العديد من الأهالي لا يزالون يتحدثون عن المداهمات التي حدثت أول أمس في وسط المدينة حين تحركت عدة سيارات تحمل أعوان فرقة الحرس الوطني الخاصة نحو وسط المدينة بعد أن بلغتها أنباء عن وجود أحد المطلوبين للعدالة في مقهى هناك. لا تزال عمليات البحث عن المتهمين وعن الأسلحة التي سرقت من مقر إقليم الشرطة في مدينة الكاف مستمرة، لكن المدينة خرجت عن بكرة أبيها لاستقبال زوارها في «قافلة الشكر» التي انطلقت منذ الساعة السابعة صباحا من باب سعدون بالعاصمة ضمن حافلتين عموميتين وأكثر من 120 سيارة عائلية أمكن لنا إحصاؤها أثناء الرحلة. وعلى الطريق، توقفت القافلة مرارا للرد على تحيات أهالي المدن والقرى التي مررنا بها: تستور، جنوبتبرسق، الكريب التي وقف أهاليها تحية لنا حيث أنشدوا لنا نشيد الثورة وعيون الكثير منهم بالدموع ولم يتوقفوا عن إعلان علامة النصر بأصابعهم فيما خطب فينا مناضلو اتحاد الشغل وعدد من المناضلين الذين كانوا ينتظروننا للانضمام إلينا حتى دخلنا مدينة الكاف من طريقها الجنوبية وسط تصفيق السكان الذين احتشدوا على جانبي الطريق حتى بلغنا مكان الملتقى: أمام مقر البلدية الذي كانت المليشيات قد أضرمت فيه النار عمدا منذ أسبوع في سلسلة أعمال إجرامية تستهدف مكتسبات المدينة ومرافقها وممتلكات أهلها. غص المكان بالمئات، وربما الآلاف من الأشخاص حول مدخل البلدية حيث نصبت منصة للخطابة ورفعت عشرات اللافتات، لكن بدا من الواضح أننا إزاء المقولة التاريخية: «الثورة يقوم بها الشعب، ويستغلها رجال السياسة». لا نريد مساعدات كثيرون ممن كنا نتوقع أن نراهم في مقدمة الصفوف من مناضلي الكاف تراجعوا، «بسبب غلبة الخطاب السياسي، وتقدم رموز من العهد السابق دون خجل»، كما قال لنا محام ناشط في المدينة مضيفا: «إنه يوم قلب الفيستات» في الكاف. الواقع أن تنظيم هذه القافلة بدأ منذ أيام ببادرة تلقائية من الشباب الذي ناضل بوسائل الاتصال الحديثة لنقل الوقائع وفضح الممارسات الإجرامية التي كانت تأتيها المليشيات المسلحة في الكاف وبقايا زعماء التجمع في المدينة وفي العاصمة. بدأت الدعوة بأصيلي ولاية الكاف في العاصمة، ثم بأصدقائهم وبالكثير من الفنانين والمثقفين الذين عبروا عن استعدادهم لتنشيط الفضاء العام، ونشر الأمل والفرحة بين أطفال المدينة الذي عانوا كثيرا من مشاهد الرعب والنهب ومن طلقات الرصاص. قال لي الزميل ثامر الزغلامي من إذاعة الكاف محذرا: «نحن في الكاف لا نريد منكم مساعدات، لا زيت ولا سميد، نريد إعطاء الكاف حقها من الاهتمام لا غير». ثمة مشاعر أنفة واعتزاز نحسها لدى أغلب سكان المدينة حتى المحتاجين والمتضررين من عمليات النهب، وأن لدى الناس هنا من الاعتزاز بالثورة ما يجعلهم يصبرون من أجل غد أفضل، «من أجل أن تعطوا الكاف حقها في التنمية، ومن أجل أن لا نعيش مرة أخرى تحت القهر والنهب الذي كان يمارسه المسؤولون علينا» كما قال لي أستاذ تعليم ثانوي. وقال لي طبيب أسنان معروف في الكاف عن مسألة المساعدات: «نحن قلنا من قبل: خبز وماء وبن علي والتجمع لا، لن نقبل مجرد فكرة أن تقدموا لنا مساعدات غذائية أو غيرها». هذا الطبيب الذي يريد الاحتفاظ باسمه قدمني إلى الدكتور كمال البديوي، الذي كشف لنا أنه وزملاءه من أطباء القطاع الخاص قد نظموا عملية تبرع تلقائية منذ يوم الأربعاء مكنتهم من جمع 18 ألف دينار حتى صبيحة الأحد. قالي لي بفخر: «أهالي المدينة بخير، نحن أيضا فوجئنا بمستوى التضامن بين التونسيين، لقد كشفت الثورة عن أجمل ما في الشعب التونسي وهو التضامن». وفي جامع الرحمة بشارع المنجي سليم، نشأت مجموعة تتكون من الإطارات البنكية والموظفين والمتطوعين من كل المستويات لجمع المساعدات من كل صنف وتقديمها إلى المحتاجين. أما الدكتور البديوي فيوضح: «أهم أولوياتنا الآن هي ترميم مقرات الأمن لكي يعود الأعوان إلى عملهم ويعود الأمن، لم نجد بعد طرفا رسميا من الشرطة نتحدث معه حول عملية الترميم، لأننا عثرنا على ملفات ووثائق إدارية في مقر إقليم الشرطة فحافظنا عليها حيث هي في انتظار حضور المسؤولين لنبدأ معهم عمليات الترميم». غرفة عمليات تطوع العديد من أهالي المدينة لتنظيف مقرات الشرطة المحترقة، ورفع بقايا السيارات المتفحمة مثل هياكل حيوانات أسطورية فيما تستمر فرقة الحرس الوطني في العمل في صمت، إنما بفعالية قياسية. ساهمت إذاعة الكاف بمجهود خرافي في وضع حد لعمليات النهب والتبليغ عن المشبوهين، وبث النداءات للجيش ثم للناس للتحذير من مغبة النهب والإجرام وخصوصا من مغبة الاحتفاظ بالأسلحة المسروقة أو عدم التبليغ عمن يحتفظ بها. وعندما أصبحت المدينة نهبة لعصابات الإجرام منذ يوم الأحد الفارط، تطوعت الإذاعة بتخصيص غرفة في مقرها للجنة أمن كونها مجموعة من المحامين والمناضلين، منهم الأستاذ نجيب الحسني الذي قضى أكثر من عشرين عاما في مقارعة نظام بن علي. ومن تلك الغرفة في إذاعة الكاف تم تكوين لجان أمن في كل الأحياء وتبرع أحد أهالي المدينة من الخيرين بشحن هواتف رؤساء لجان الأحياء لتكوين شبكة حراسة في كل المدينة والبقاء بحالة اتصال جماعي حتى وقت متأخر من الليل. كانت المدينة قد فقدت تماما سيطرتها على نفسها، وأغرى ذلك العديد من شذاذ الآفاق واللصوص وخريجي السجون بالسرقة والنهب وبلغت الجرأة بهؤلاء إلى حد ممارسة النهب في واضحة النهار أمام المارة. مكنت اللجان التي تم تكوينها من فرض حالة من الانضباط المطمئن حتى حل أعوان الفرقة الخاصة للحرس الوطني الذين بدؤوا بإيقاف الأشخاص الذين يعرف كل سكان المدينة حجم تورطهم في أحداث العنف. وفي يوم قدومنا، نظم رؤساء هذه اللجان اجتماعا للتقدم بما حققوه نحو النشاط في المجتمع المدني وتعزيز المكتسبات التي حققها الناس والاستمرار في حماية المدينة رغم أن الوضع بصدد التحسن نحن الأفضل، خصوصا بقدوم قافلة الشكر، الشكر لمن صمدوا هنا ولم يستسلموا لليأس ولحالة الفوضى والفلتان الإجرامي الذي عاشته المدينة. كمال الشارني غدا: كافة تفاصيل «أيام الرصاص» والفلتان التي عاشها سكان الكاف، وتفاصيل عمليات الإيقاف وحجز الأسلحة