بقلم الموسيقار: د. محمد القرفي استقبل التونسيون باستبشار نبأ إيقاف العمل بالدستور والبدء في تحضير انتخابات مقبلة سوف تتولى انشاء مجلس تأسيسي وطني يعدّ دستورا جديدا يستجيب لمطالب الشعب ويقطع مع الاستفراد بالحكم وهيمنة الحزب الواحد. جميل، ولكن. يبدو لنا وأصحاب القانون أعلم أن إلغاء العمل بالدستور ينسحب على جميع الهيئات والمجالس التي تم تنصيبها إثر انتخابات أقل ما يُقال فيها إنها لم تكن تتوافق والرغبة الشعبية وسخرت بالتزكية ما صار مدة ستين عاما عادة وتقليدا. في الواجهة مجلس النواب ومجلس المستشارين وقد تم حلّهما نتيجة لهذا، ولكن تبقى المجالس البلدية والمجالس المحلية التي صارت اليوم لا محلّ لها من الاعراب لأن استمرارها يمثل مخالفة لإلغاء الدستور. فلا رئيس بلدية ولا مجلسا من المجالس المحلية له شرعية المواصلة أو اتخاذ القرارات أو حتى الاجراءات الترتيبية اليومية. وقد هيّأت القوانين والمراسيم الادارية لهذا النوع من الوضعيات بأن يتولى رئاسة البلدية وبصفة وقتية معتمد المكان ويواصل الكاتب العام تسيير الشؤون الى حين اجراء انتخابات جديدة قد يستغرق إعدادها بعضا من الوقت أو ربما قد تقع بالتوازي مع انتخابات المجلس التأسيسي. وهنا يظهر اشكال آخر يتمثل في شرعية هؤلاء المسؤولين الاداريين الذين يفترض أن يكونوا محايدين ولا ينتمون الى أية جهة سياسية أو حزبية. فجلّهم إن لم نقل كلهم ينتمون إلزاما الى ما يُسمى الحزب الحاكم ولا يعيّنون في هذه الخطط بشرط الكفاءة العلمية أو الادارية فحسب ولكن بشرط التبعية الحزبية والولاء للنظام وبعد التأكد من أنهم «معانا وموش معاهم»، ولكل واحد منهم قصة أهل مكة أدرى بشعابها. ورأينا أن الممارسة الديمقراطية تبدأ أولا في انتخاب هذه المجالس التي تمكن المواطنين في منطقة ترابية محددة من اختيار الأفراد الذين سيتطوعون للاشراف على تصريف شؤون جهتهم وتحقيق حاجياتها. وتتولى المجالس المنتخبة بالاقتراع المباشر تمثيلهم على المستوى العددي الأضيق حتى الوصول الى العدد الأوسع في هيئة تضم نواب الشعب كله. وصندوق الاقتراع ليس جديدا على البلاد التونسية وهي ممارسة ضاربة في القدم منذ تاريخها البعيد في العهدين القرطاجني والروماني حيث كانت الهيئات المنتخبة وإن لم تكن تمثل كافة طبقات المجتمع هي التي تسيّر شؤون البلاد وتنظم العلاقات بين السكان في السلم كما في الحرب وتصوّت على اتخاذ القرارات الكبرى. إن ما وقعت فيه البلديات من تجاوزات وتفريط في الممتلكات العمومية الواقعة في محيطها الترابي لفائدة خواص من الدائرة الحاكمة وبأرخص الأثمان لأكبر دليل على أن تلكم المجالس كانت صوريّة ولم تكن بالتمثيل الحقيقي الذي يجعلها تخاف من غضب الناخب ومحاسبته ولكنها كانت هياكل منصّبة تحرّكها أيدي السلطة فتفصّل على إرادتها ولمنفعتها ولا تكترث بالمصلحة العامة. فلو كان لها أقل إحساس بالمسؤولية لما فرّطت في مكتسبات الشعب. ونذكّر في هذا السياق بالجريمة الحضارية التي ارتكبتها بلدية العاصمة في أواخر الثمانينات حين باعت مبنى «البالماريوم» وفندق «تونيزيا بالاص» لفائدة شركة استثمار كويتية. فقد سلمتهما للخواص بالرغم من معارضة نواب المجلس البلدي وما قدمه المثقفون من لوائح ضد هذا القرار المشين ومحت بذلك تاريخا ثقافيا وفنيا ومعماريا تواصل قرابة الثمانين عاما وصار ذكرى تتصفحها في ثنايا المجلات القديمة وتأسف لما وصلت إليه المدينة من فقر مدني وجمالي. فعلاوة على أن البالماريوم كان أكبر قاعة سينما في شمال افريقيا ومسرحا لعروض «الميوزك هول»، فقد كان يضم رواقا جميلا من المحلات التجارية والمقاهي والى جانبه «قاعة يحيى للفنون» وهي فضاء واسع كان مخصصا للمعارض الفنية واشتهر بأرضيته الخشبية المصقولة. لا سامح اللّه من كان سببا في زوال ذلك وتعويضه بهذه البناية القبيحة الشكل التي تنم عن سوء ذوق وتخلف في المعمار.