بين ما يجري على ضفاف النيل وما يجري على ضفاف النهر الكبير الاصطناعي، مسافة قد توحي بالاشارة الى طبيعة النهرين، تاريخا وثقافة واثرا. لم يتحرك شعب ضد حاكمه ونظامه الا نتيجة عواصف الكبت والقهر والحاجة في صدور افراده وجماعاته. ولم تكن كل ثورات التاريخ سلمية، كما انها لم تكن كلها دموية. كذلك لا تتحدد عادة ثورة بفشلها أو بنجاحها، فكم من ثورات حق قمعت وكم من ثورات حق نجحت، لكن النجاح كثيرا ما ياتي بعد اكثر من فشل. غير ان مجريات التطورات في مصر تكاد تقدم لنا مشهدا نموذجيا لحصول التغيير والمحاسبة والمحاسبة اهم من التغيير كي لا تراود الجديد مطامع القديم دون ان يدعي احد ان بامكانه الحكم على النتائج النهائية، اذا صح التعبير، اذ ليس من نهائيات في الصيرورات التاريخية، بل مراحل. السؤال الذي يتداوله الكثيرون هذه الأيام: هل أخطات الثورة الليبية في اللجوء الى السلاح من البداية؟ وهل كان عليها ان تختار ميدانا موازيا لميدان التحرير؟ لكن الكثيرين يجيبون على ذلك بان هذا الخيار كان مستحيلا في ليبيا،لاعتبارات كثيرة. المهم في هذا الجدل كله، هو ان نقمة النفط التي تعيشها ليبيا تجعلها اقرب الى العراق والسودان منها الى مصر وتونس. وتجعل قبول القوى العالمية الكبرى بتحولات هادئة وبطيئة أمرا غريبا، كما تجعل من التدخل الاوروبي والأمريكي واقعا مطروحا على الطاولة منذ اليوم الأول. فأوروبا التي تحظى ب 85 % من النفط الليبي، لن تقبل بسهولة ان تتخلى عن نسبتها، خاصة وان الأمريكي قد وضعها على الرف في العراق. والأمريكي، بدوره، لن يقف مكتوف اليدين امام امكانية اضافة بند جديد الى رصيده.. والنهاية توزيع ادوار وتوزيع حصص. حصص حصة الشعب الليبي فيها الموت والدمار. ودعوة الى فرض حظر جوي، سيئته انه لن ياتي الا بعد هذا الموت، وانه قد يشكل مقدمة للتدخل العسكري الاجنبي، بحجة فتح ممرات انسانية. السفن الاوروبية جاهزة في المتوسط، والرئيس الفرنسي أكثر المتحمسين لاستعمالها، لحسابات داخلية أولا وخارجية ثانية وربما شخصية قبل الاثنين. غير ان السفن الأمريكية ايضا جاهزة، خاصة تلك التي عبرت من خليج عدن الى المتوسط، ولن تترك الاوروبيين يسلكون وحدهم ما يسمى بالممرات الانسانية. وجود هذا الاسطول في المتوسط، هو احتلال فعلي لهذا البحر الذي تتقاسمه المياه الاقليمية لمجموعة من الدول الاوروبية والعربية، لسبع دول عربية، اصبحت كلها في مرمى نيرانه، دون ان يكون ذلك ببعيد عن انتعاش زعيق تيار 14 اذار في لبنان، وعودته الى سمفونية متناغمة واحدة النبرة: سلاح المقاومة. تأثير لن تكون سوريا بمنجى منه، ولا مصر ولا دول المغرب العربي الاخرى الثلاث، وبذا تكون النتائج الكارثية لما يحصل في ليبيا قد تجاوزت بحجته هذا البلد الى كل دول المتوسط العربية، ومن ورائها كل الدول العربية.