تفكر «منظمة الشفافية الدولية» التي تعنى بمقاومة الفساد المالي في العالم في بعث فرع لها في تونس بعد أن نجحت في بعث 90 فرعا في مختلف دول العالم، غير أن بعث الفرع التونسي الذي ينتظر أن يساهم في كشف الفساد المالي ومقاومته سوف يمر بصعوبات نتيجة الرفض الذي تواجهه «اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الفساد والرشوة» من بعض المحامين وحتى القضاة وممثلي النيابة العمومية. وتبدو «تونس ما بعد الثورة» من أكثر الدول المعنية بتقارير هذه المنظمة لمعرفة حقيقة الإفقار والنهب الذي تعرض له الشعب التونسي. وإذا كان التونسيون قد تعودوا في الأسابيع الأخيرة على نشر تفاصيل قضايا الاستيلاء على الأملاك العمومية، فإن الجزء الأكبر مما عانته البلاد لا يزال خفيا ويتعلق خصوصا بتبييض الأموال المتأتية من التهريب والسرقة والتجارة الممنوعة، وكذلك تبييض الأموال. ولكي ندرك بعض مظاهر ما تردت إليه الدولة التونسية في مجال الفساد المالي، نعود إلى لقاء حدث بتونس العاصمة أيام 3 و4 و5 أفريل 2007 وجمع بين ممثلين عن البنك الدولي وأكثر من 50 إطارا حكوميا وبحضور عدد كبير من نواب مجلس النواب. وفي هذا الاجتماع، تم التطرق إلى انتشار الفساد ونظام العمولات في الاقتصاد التونسي. وكانت احتجاجات مسؤولي البنك الدولي تتمثل أساسا في توظيف الإدارة الحكومية في تونس لإقرار الرشوة في كل المستويات. ورد المسؤولون التونسيون على أن تقارير البنك الدولي ليست محايدة، وأنها تحمل أفكارا سلبية مسبقة عن تونس، مما يروجه أعداء الوطن، وأن تونس تحظى بنظام قضائي صارم ويعاقب الراشي والمرتشي. وطبعا، كان هذا الجواب يمثل لدى الخبراء «هذيانا سياسيا» مقارنة بالواقع الذي تعرفه كل المنظمات الدولية جيدا. 9 مليارات دولار يقول السيد «ديف كار» الخبير المالي الأمريكي، إن تونس فقدت 9.3 مليارات دولار بين عامي 2000 و2008، في شكل تهريب مالي بالعملة الصعبة مؤكدا أن هذا الرقم قد يكون الجزء الظاهر من جبل الجليد، أي ما أمكن إحصاؤه لوقوعه تحت طائلة الحساب وأن المبلغ الحقيقي لما تم نهبه قد يكون أضعاف ذلك. أما تقارير منظمة الشفافية الدولية فتقول إن منطقة شمال إفريقيا ومصر أصبحت تمثل منذ بداية الألفية أكبر نسبة هروب مالي غير شرعي في العالم بالمقارنة مع حجمها الاقتصادي. وجاء في تقارير أخرى عن منظمات مالية دولية أن أهم أساليب تهريب المال خارج البلاد هي التحايل على القانون لشراء أسهم وسندات في شركات أجنبية، ثم تضخيم فواتير التوريد والتخفيض في فواتير التصدير. كما تشير هذه التقارير إلى أن أكبر طرق تبييض المال أو تهريبه خارج البلاد في الأعوام الأخيرة هي تهريب البضائع والتجارة السوداء التي تمثل في تونس ظاهرة خطيرة ولا يمكن تقدير حجمها لأنها تتم بشكل كامل في الظلام ولا ترى إلا في شكل بضائع صينية مستوردة في الأسواق. ونعود إلى تقرير منظمة الشفافية العالمية الصادر يوم 9 ديسمبر 2011، حيث جاء فيه أن 36 بالمائة من سكان العالم العربي دفعوا رشوة إلى أحد ما في نظام الإدارة الحكومية بما يكشف عن نصيب الفساد في العالم العربي. ومنذ عام 2000، أصبحت تقارير هذه المنظمة عن تونس تزداد سوءا وتشاؤما، وتراجع ترتيبها من 43 سنة 2005 إلى 61 سنة 2007 من بين 179 دولة. وتعترف المنظمة أن الفساد المالي في تونس في كل مظاهره يزداد تعقيدا ويصعب إحصاؤه، لكن كل الشواهد الخارجية تؤكد أنه بصدد التطور، وحتى مبالغ الرشوة التي تدفع للموظفين بصدد التضاعف ولم تعد ورقة العشرين دينارا تكفي لقضاء أي شيء. إفقار وبخصوص تونس، تقول تقارير العديد من المنظمات إن الفساد المالي قد أدى إلى تعطيل القوانين والحقوق وإقرار نظام اقتصادي مواز يقوم على العلاقات الخاصة والرشوة والفساد للحصول على الخدمات. يشمل هذا كل وجوه ومرافق الحياة من الحصول على وظيفة إلى التهرب من خطايا المرور أو المتابعة القضائية أو الحصول على جواز سفر. أما الأخطر في هذا النظام الموازي فهو التهرب الضريبي الذي يحرم الدولة والمجموعة الوطنية من مداخيلها الشرعية، حيث يمكن تجاهل مراسلات إدارة الضرائب بمجرد دفع رشاوى إلى كبار المسؤولين أو المساهمة في صندوق 26-26 أو دفع مساهمة سخية إلى الحزب الحاكم. ويعتبر ما يحصل في نظام التوريد التونسي أنموذجا خطيرا للفساد المالي حيث نشأ نظام مواز يمكن من توريد أي شيء حتى لو كان ممنوعا رسميا مقابل عمولات تدفع لأشخاص معروفين بعلاقاتهم الوثيقة بالنظام. إن هذا النظام قد أدى إلى عدة نتائج خطيرة، منها إفقار الدولة وحرمانها من مصادر تمويل مشاريعها وتبييض الأموال المتأتية من التجارة السوداء وتهريب مبالغ طائلة من العملة إلى خارج البلاد وحرمان المجموعة الوطنية منها. أما عن النتائج متوسطة المدى لهذه النظام المالي القائم على الفساد، فتذكر مضاعفة كلفة الاستثمار وهروب رؤوس الأموال الأجنبية لغموض النظام الاقتصادي وغياب الضمانات القانونية لها. يضاف إلى ذلك تردي تصنيف البلاد التونسية لدى المنظمات المعتمدة في إسناد القروض وتوجيه الاستثمار بما يزيد من كلفة هذه القروض ويرهق كاهل البلاد والمجموعة الوطنية لسداد تلك القروض. تحقيقات وعلى ذكر تبييض الأموال، كشف القضاء البلجيكي مؤخرا أنه تعرف إلى عدة حسابات مالية وأملاك عقارية هامة تعود إلى عائلة الرئيس المخلوع في بلجيكا، وقالت نائبة مدعي بروكسل «لور كستيون» يوم الخميس الفارط لوكالة فرانس برس: «فتح تحقيقان قضائيان للاشتباه في تبييض الأموال وفساد في تونس وقمنا بشكل وقائي بضبط حسابات مصرفية على أن تتم مصادرة ملكية عقارية في بروكسل اليوم أو غدا»، وعلقت على حجم هذه الممتلكات بالقول: «إنها لا يستهان بها لكنها لا تقدر بمئات ملايين اليورو». وفي نفس الإطار أيضا، نذكر أن العديد من عمليات التدقيق المالي والتحقيق تجري في الدول الأوروبية وخصوصا فرنسا وألمانيا وكندا والعديد من الدول العربية مثل الإمارات العربية المتحدة. والواقع أن أغلب عمليات التحقيق حول تبييض الأموال وتهريبها تتم بطلب من منظمات دولية معترف بها في مقاومة الفساد المالي مثل المنظمة الدولية للشفافية ومنظمة «شربا»، بالإضافة إلى طلبات التحقيق الرسمية الصادرة عن الدولة التونسية.