عندما تزور مدينة القصرين، للمرة الأولى في حياتك، يخيّل إليك من الوهلة الأولى، أن الحياة طبيعية وعادية في هذه المدينة، بل تشدّك أيضا تلك القطع الأثرية الموجودة على قارعة الطريق الرئيسية، والتي يبدو أن أهالي القصرين. أدرى بقيمتها الحضارية والأثرية أكثر من مسؤولي هذه الجهة. فما بالك لما تدخل المركب الثقافي بالقصرين، وترى قاعة العروض الشاسعة، حتما ستكذّب حقيقة غياب النشاط الثقافي بهذه المدينة الجميلة. لكن للأسف تلك هي الحقيقة، فهذه القاعة كانت مرتعا للقاءات «المصالح التجمعية الدستورية الديموقراطية»، وكانت معرضا لصور الرئيس المخلوع، أو دار التجمّع الثانية. كما قال الشاب وائل سعدلي (تقني سام في الهندسة الميكانيكية، وعاطل عن العمل)، أو كذلك قاعة أفراح. كما جاء على لسان الشاب بشير بنّاني (سائق). الثقافة معدومة هذا ما أكدّه أيضا الشاب حمزة السايحي (متحصل على الإجازة في الفنون التطبيقية وعاطل عن العمل) ثلاثتهم التقيناهم بالمركب الثقافي بالقصرين، في العرض الأول لمسرحية «Intox لا يمثل» لعاطف بن حسين كانوا يتابعون العرض بهدوء، ولم يغادروا القاعة إلاّ بعد نصف ساعة من الزمن، قابعين بأماكنهم ينظرون الى الركح حيث كان عاطف بن حسين يصافح بعض المعجبين. سألتهم عن رأيهم في المسرحية، أجابوا نفس الاجابة: «كعرض أول يمكن اعتباره ناجحا.. لكن كان من الأفضل لعاطف بن حسين أن يقدم العرض الأول بالعاصمة، لأن تقاليد الفرجة المسرحية مفقودة لدينا ولن يجد الحافز الذي يطوّر به مردوده..». معان كثيرة تحملها هذه الاجابة المشتركة لثلاثة شبان مثقفين ومتعلمين، أرهقت البطالة العديد منهم في ولاية القصرين. وقبل أن أواصل أسئلتي، قاطعني وائل سعدلي، قائلا: أملنا أن يتبّع بقية الفنانين ما قام به عاطف بن حسين، حتى يتعود أهالي القصرين على الفرجة المسرحية، فأنا أتوقع أن تأتي مسرحية في العام المقبل كما جرت العادة». وغير بعيد عن «وائل» يرى كل من «حمزة» و«بشير» أن الثقافة أو الحراك الثقافي يكاد يكون معدوما في القصرين، بل إنّ ما ذهب إليه «وائل» حين قال: «القصرين مدفونة» أو «خارج الخريطة» يطرح أكثر من تساؤل حيال هذه التصريحات التي لا تخلو من الأوجاع واليأس أحيانا. البطالة خانقة والفقر كثير «كيف هي الأوضاع حاليا بالقصرين؟.. هل هناك تحسّن بعد الثورة؟..» توجهت بالسؤال الى حمزة السايحي، الذي كان جالسا دون حراك تماما كما حال صديقه وائل سعدلي وكأن بصيص الأمل مفقود لديهما. «الشيء الوحيد الذي عاد نوعا ما الى طبيعته هو الوضع الأمني، بعد أن تمّ حرق أغلب المؤسسات. وكما ترى جاء الأمن متأخرا كطائر مينرفا.. بعد ماذا؟!».. هكذا استهلّ حمزة إجابته عن سؤالنا ليضيف بحسرة بدت مدفونة بداخله منذ سنوات: «كل شيء ناقص بالقصرين.. لكن مكتوب لنا أن نتحمل ونصبر، حتى تنهي الحكومة المؤقتة اصلاحاتها الأولية، وتعيد الأمن والاستقرار إلى البلاد، ثم تقع في ما بعد العناية بالقصرين لأنها تفتقد كل شيء..». كنت أستمع الى حمزة، لكن تركيزي كان أغلب الوقت مع وائل سعدلي، هذا الشاب على قلّة كلامه، كانت ملامحه تعبّر عمّا يجول بخاطره أكثر من العبارات التي قيلت وأكثر من الكلام الذي ظل مدفونا بخوالجه وبداخل كل مواطن من أهالي القصرين. وائل كان يلبس قبعة سوداء، وكأنه يخفي ألما في الرأس لا مجرّد قبعة للوقاية من البرد فهو تقني سام في الهندسة الميكانيكية، لكنه واحد من مجموعة كبيرة عاطلين عن العمل بولاية القصرين. وفي هذا الصدد أطلق عنان سخطه باقتضاب شديد، ليقول حرفيا وبلهجتنا الدّارجة: «كل شيء موش ماشي.. صفر من النقاط.. ما ثمّة حتى مسؤول يخدم في القصرين.. موعد الوالي بعد مدة طويلة.. ياسر مهمّشين.. استغلال للفتيات في معامل النسيج.. 8 ساعات في اليوم والشهرية 50 دينارا!! ما هذا؟!» دواخله مليئة بالأوجاع.. لكن الهدوء لديه كبير.. لا يتحدث كثيرا.. لكنه بكلمة واحدة يشرّكك معه في همومه وفي حمله الثقيل.. حمل تركه «وائل» جانبا وبادر صحبة مجموعة من شباب القصرين بتنظيف الخراب الذي أحدثه القنّاصة وما شابههم في ا لأحداث الأخيرة مبادرات قاموا بها تحت لواء جمعية كوّنوها وأطلقوا عليها اسم «جمعية شباب عاصمة الشهداء» وحتى هذه المبادرة الشبابية كما تحدث عنها وائل لم تسلم من الاعتداء رغم التلقائية، فقد تبنتها لجنة حماية الثورة الشيء الذي زاد في اليأس وفي الألم. «الصبر مفتاح الفرج» هكذا أراد محدّثنا (وائل) أن ينهي الحديث عن موضوع البطالة، ليوصل أصوات العائلات الفقيرة التي لم تكن موجودة الى جانبنا. وفي هذا السياق أردف: «هناك مناطق، كحيّ الزهور مثلا بالقصرين، يعاني أهاليها من الفقر ومن الخصاصة والعناية بهم أمر ضروري..». صحيح أن «الصبر مفتاح الفرج» كما قال وائل سعدلي.. لكن ما تلمسه في خطابه وفي ملامحه هو ما غنّته أم كلثوم: «إنما للصبر حدود..». في سنّ الدراسة يعملون! وقبل عودتنا الى العاصمة، التقينا أمام المركب الثقافي بالقصرين 4 شبان، لا يتجاوز أكبرهم سنّا، السابعة عشرة من العمر، ثلاثة منهم يعملون بمخبزة ورابعهم ابن صاحبة هذه المخبزة. تيسير منصوري هو أكبر هؤلاء (17 سنة) وهو على غرار زملائه سعيد بمهنته خاصة أنه يتقاضى ما قدره 60 دينارا في الأسبوع مقابل عمله من الساعة الخامسة صباحا الى حدود الساعة الثانية بعد الزوال وهذا الأجر يمكنه من مساعدة شقيقته على مواصلة دراستها ومن مساعدة والديه في مصاريف البيت. كما يمكنه من شراء ملابس، وهذا وضع جيّد في نظره خاصة بعد انقطاعه عن الدراسة. وغير بعيد عن تيسير يرى رمزي منصوري أنّ عمله بالمخبزة جيّد ويساعده على مصاريفه ومصاريف عائلته، خاصة أن والده يعمل بالعاصمة لكن رمزي يأمل أن يعمل كل شباب القصرين لأن الأوضاع بهذه الولاية على حدّ تعبيره «تحت الحضيض». موقف سانده فيه زميله سيف طرشي (16 سنة)، وابن مؤجرته أشرف حقي، ولأن الفرق واضح بين الثلاثة شبان العاملين في المخبزة وبين ابن صاحبة المخبزة سألت أشرف، هل تساعد أهالي القصرين بحكم أن ظروفك المادية أفضل من ظروف الأغلبية بكثير؟ فأجاب: «أنا ابن القصرين.. ويوميا أعطي 50 أو60 خبزة بلا مقابل.. وهذه ليست هبة وإنّما هي حبّ في القصرين وأهاليها»..