بقلم الموسيقار: د. محمد القرفي جاء في «مقدمة» ابن خلدون أن الفنون هي «آخر ما يحصل في العمران من الصنائع لأنها كمالية في غير وظيفة من الوظائف إلا وظيفة الفراغ والفرح» (المقدمة، 428). وهذا التقييم الذي استخلصه العلاّمة عبرة من تاريخ الحضارات والأمم التي سبقته يبدو أنه لا يزال قائما بقوة في قاموس المجتمعات المتوقفة. فالفنون هي آخر ما تفكّر فيه عندما تتأزّم حالتها السياسية وتتعطل دواليبها الاقتصادية لأن أولوياتها تتمثل في كل ما هو ملموس أي ما يمسّ حياتها المادية مباشرة وليس مشاغلها الفكرية. وتقول النظرية إن فنون الثقافة هي من الكماليات التي لا تزدهر إلا في ظلّ استقرار المجتمع أيّا كانت العلاقات بين شرائحه وأن الدولة هي الداعم الأول لهذا الانتاج الفكري لأنها هي التي تطلبه وهي التي تقتنيه وتروّجه. ومن الطبيعي أن نفهم أن الدولة في المفهوم الحديث ليست كيانا منفصلا بذاته عن الشعب إلا في نظام ملكي أو شمولي حيث العلاقة أفقية بين الحاكم والرعية، إنما الدولة مجموع مؤسّسات منبثقة من المجتمع لها دواليب وآليات تعمل لتحقيق مصالحه بصفة مستمرة ويستوجب تصحيح مسارها حين تحيد عن الأهداف. ونستحضر في هذا السياق المقولة الشهيرة للملك لويس الرابع عشر: «يموت الملك وتبقى الدولة» (Le roi meurt, l›état demeure). ونرى في تاريخ الشعوب القريبة منا بعض التصرفات الرعناء إبّان حكم «البلدية» «La commune» بباريس عام 1871 مثل حرق «مسرح الليريك» «théâtre lyrique» والذي سرعان ما وقع إصلاحه والمحافظة عليه. ومثل هذه الوقائع قد تحدث في خضم الاضطرابات ولكنها تبقى ظرفية ومحدودة في ا لزمن ولا تتواصل لأن في استمرارها إضرارا بثقافة الشعوب ومحوا لمكاسبها. وإذا كانت نظرية ابن خلدون لا تزال مستشرية في العديد من المجتمعات المتطلّعة الى الحضارة وخصوصا منها العربية فإن الشعوب التي عرفت أسباب التقدم والمعرفة بعد أن أخذت نصيبها من الثورات المتعاقبة تجاوزت هذه المنظومة الى موازنة أكثر عقلانية. فالفنون لا تعتبر من كماليات الاستقرار أو ما يُسمى بالأمن الاجتماعي فقط ولكنها من العناصر الحيّة والمتطورة التي تُسهم بفعالية في توعية الشعوب ومدّ جسور التقارب بين شرائحها وحثّها على المشاركة في الحياة الاجتماعية سواء منها السياسية المطلبيّة أو الفكرية الثقافية. ومن هنا يتبيّن أن وظيفة الفنون لم تعد محددة بالاستمتاع بالأثر الفني فقط ولكن متصلة بوظائف أخرى جديدة ومتجدّدة تتماشى وتغيّر تركيبة المجتمع وتنوّع حاجياته. ويدعم المسرحي برتولد بريخت «Brecht» هذا الرأي قوله: «إن النظرة الجمالية لمجتمع يحكمه صراع الطبقات تتطلب أن يكون «الأثر» المباشر للعمل الفني هو إخفاء الفروق الاجتماعية بين المتفرجين بحيث تنشأ منهم أثناء استمتاعهم بذلك العمل جماعة لا تنقسم الى طبقات وإنما تكون وحدة إنسانية شاملة». لكن الثقافة اليوم وفي ظلّ ما يحدث في بلادنا يبدو أنها من آخر اهتمامات الحكومة المؤقتة رغم أنها تمثل رهانا رئيسيا في حياة المجتمع، فإلى جانب كونها عنصر هوية وإشعاع فإن المواقع التي تتولى تنشيطها والأحداث التي توجدها لا تتوجّه الى أقلية من المواطنين بل تعنيهم جميعا فيستفيدون منها مباشرة أو بصفة غير مباشرة. وهي أيضا مؤشر لجودة الحياة وللانتعاش الفكري والاقتصادي لما تتيحه من فرص عمل تلبي حاجيات الأجيال المتطلعة الى المشاركة. ونرى القيم تنقلب اليوم رأسا علي عقب باسم الثورة ونرى أصحاب الادارة الثقافية مثلما كانوا سابقا لا يتحرّكون إلا بمقدار وكأن الثورة هي فسخ لمكاسب حصلت عليها الثقافة بعد معاناة عشرات السنين حين كان هؤلاء يرفلون في النوم فوق مكاتبهم ويتنعمون بمكيفات الهواء ويتنقلون في بلاد العالم أو كأن ا لثورة تعني بالنسبة إليهم بعض الحلول الظرفية يفرّقونها و«سيدي حاضر يا شكّاية». إن الثورة لحظة استثنائية في تاريخ الشعوب وقد قامت من أجل حقّ العمل بكرامة لذلك يجب أن لا تواجه ببطالة مفروضة على قطاع حيوي لا يمكن للمجتمعات الحديثة أن تعيش بدونه. فالفنون الثقافية حسب تعبير أرنست فيشر (ضرورة الفن) «لازمة للإنسان حتى يفهم العالم ويُغيّره» ومن يفكّر عكس ذلك فهو لا يختلف عن سابقيه ممّن قامت الثورة لتزيلهم.