فإذا حصل الملك اقصروا عن المتاعب التي كانوا يتكلفونها في طلبه وآثروا الراحة والسكون والدعة ورجعوا الى تحصيل ثمرات الملك من المباني والمساكن والملابس فيبنون القصور ويجرون المياه ويعرسون الرياض ويتمتعون بأحوال الدنيا ويوقرون الراحة على المتاعب ويتأنقون في أحوال الملابس والمطاعم والآنية والفرش ما استطاعوا ويألفون ذلك يورثونه من بعدهم من أجيالهم ولا يزال ذلك يتزايد فيهم الى أن يتأذن الله بأمره وهو خير الحاكمين والله تعالى أعلم. عبد الرحمان بن خلدون المقدمة يوم القسم. يوم التنصيب يوم استلام مفاتيح المدينة، كانت شمس الفيالة في كبد السماء. خرج الآباء والأمهات والأطفال ليوم العيد، وقدمت من كل ربوع البلاد الخيالة والطبالة والفرق النحاسية يهللون مزيكا. على حافة الطريق المؤدية الى القصر، ذبحت الكباش ونحرت الجمال ووزعت قصع الكسكسي واللبن وشلابيط الماء بالقطران، وفرشت الثنايا بأوراق الشجر وسقيت الممرات ببراميل من عطر الزعتر. وعلقت على الحيطان صور عملاقة لي يرفرف من تحتها العلم. وكانت الأبواق المضخمة للصوت تصرخ دون انقطاع: الرئيس...الرئيس...الرئيس...الرئيس...الرئيس...وصع..اقترب الركب. كانت الدراجات النارية، تحت الزغاريد والهتاف والإغماء، تفتح الطريق أمام سيارتي المكشوفة. بالروح...بالدم بالروح...بالدم بن بريك يا علم ترجلت أشق الحشد ، نافخا صدري، متبخترا كالطاووس ومن حولي درع آدمي يحميني من العشق الفيّاض. وانفتح القصر كما تنفتح أمام الطفل الصغير مغارة علي بابا. عجبا إن كان هذا القصر قصرا. هذا البيت الأبيض بمثابة ثكنة تتسع للصين الشعبية وشبرا، وميزانية القصر تكفي لعيش ولاية سليانة قرنا ونصفا.ومائة سفرة وملاعب وبنوك وأسواق ومستشفى ومدرسة ومستودع ومطار ومرسى وطرقات معبدة وانهج وكيلومترات من المدارج وألف خط هاتف وألف شاشة استشعار ومراقبة وجوسسة ومليارات من الدنوس والخموس وعاشور وقسومة...والنساء الخلابة باليطاش وال...هلمجرا. ولكن أبهى ما في القصر أن تستفيق كل صباح جديد على قافلة تسير والتبندير وهزان القفة والتلحيس وضربان الشيته والأستفيدة. لم أستحسن، في البداية، تملق وتطفل أشعب وخلاّنه. في النهاية، لم أعد أطيق ملاقاة النهار دون أن آخذ حصتي ونصيبي من كلام الغجر وسجود البشر. طيلة أسبوع أو أكثر تصرفت كعابر سبيل يملأ كيسه ثم ينسل دون أن يترك وراءه أثرا أو كقرد ملهوف أمام قنطار من الموز، أملأ جيوبي بالملاعق الفضية والأقلام الذهبية والساعات السويسرية والنظارات الشمسية. وعندما يغفو القصر أتسلل خفية الى المطبخ فألتهم ثلاجة وفرنا الى حد أنني أزن اليوم طنا. أكلك منين يا بطه. ولما افتضح أمري وكثر الحديث عن ميولاتي اللّي ما هياش ولا بد والتي تهدد هيبة الكرسي، عقد أولي الأمر العزم على تلقيني فرائض الحكم الثلاث: كيف لا يتكلم الرئيس؟ كيف لا يتحرك الرئيس؟ كيف لا يظهر الرئيس؟ أعلوا هبل! رعاة الشاة تحمي الذئب منها فكيف إذا الرعاة هي الذئاب في تلك اللحظة، تحت ضغط النخوة، تملكتني القشعريرة، أدركت أن كائنا لا من طينتي يدب داخل أحشائي وعظم جمجمتي يتمطط وضلوعي تنمو وملامح وجهي تتبدل والشعر ينبت على لساني والدم يغشي بياض عيني والحمّى تكتسح جبيني... دثريني ! أنا الرئيس أنا علي بن كعرك فوق ظهرك متورك 7 بن بريك مستبدا أخبر المخبرون عنك وثبت من التحري من شهادات الشهود، أنك متهم بطبعك المنطلق ترسل النكات أينما حللت بغير حدود، لا تتحرج من شيء ولا تبالي بما يقع من أحداث أو تهتم بما يدور من أمور، تسخر من كل شيء يعترض طريقك، وتضحك من كل ما يقع عليه نظرك. تلجأ الى التهكم العنيف والسخرية اللاذعة خاصة مع الذين لا يكنون لك الودّ، حتى اتهمك البعض ممن كانوا على صلة قريبة منك، بأن لك لوثة عقلية وشذوذا فكريا. وأنت بعد ذلك متهتك في مشيتك، مبتذل في لباسك، متمرد في تسريحة شعرك ساخر من وجهك ومن ضحكتك ومن طريقة كلامك، وأن رجلا هذه شاكلته، يسخر من كل شيء حتى من نفسه لا يتورع من أن يرتكب أبشع الجرائم وأفضعها. حسن نصر «السهر والجرح» في السنة الأولى من التحول، كنت رئيسا مغفلا، ظننت ككل ساذج مغرور أنني سأنال امتنان الناس إذا ما عكست الآية. خالفت المعتاد وابتدعت : على الرعيّة أن تسهر على الراعي وعلى البلاد أن تكرم أهلها. ما الضمان يا ترى؟ ولّى البوليس ينتخب، ويبتاع السلاح ويشترى في دكاكين الطوابع البريدية والكبريت والتبغ والجعة، وفككنا مصالح القمارق وألغينا نظام الضرائب والجباية واحتكار صك النقود وتسعير الذهب والقمح والشعير، وسمحنا بصيد الخنزير في مواسم التكاثر وحذفنا شهادة الجنسية وبطاقة النسب وعقد الزيجة وأسقطنا جرائم التكفير والتخوين والعربدة والزنا والقمار والشيك بدون رصيد والتهريب والاتجار والبناء دون ترخيص. وتاج محل : أقام التوانسة، في الحاضرة والقرى والبادية، بمحض إرادتهم ودون مباركة الموعظ، والفقيه، زوايا للدردشة والثرثرة والفذلكة والضمار والضحك للصباح والقرضان والتقطيع والترييش وفشان لعجالي وحكان الدبرة... وما ينفع الفم لبخر كان السواك الحار وعري ع لزرق واستر ما ستر ربي وجعلوا الكلام على كل لون يا كريم، الضمان... والوقية الى تحرر بيها الميزان ونطيحوا بها البسكولة رويدا رويدا، دون قلقلة ولا ضجيج، استباحت ألسنتهم كل الحدود، وساعة الفزع،وجدناهم قد حلّوا في صحن الدار. ودون رحمة ولا شفقة، سلطوا عليّ محكهم و اوقعوني في منداف هرائهم حتى لا أتخبط وأرضى مطيعا، بالصورة التي رسموني عليها : كاراكوز سلواهم بريك بلا عظمة، بريك الدنوني، ملسوقة دياري، بن بريك يا بوطي، يا الدبة، يا دبوزة قاز، ما مترفس، يا لزرق، يا مكشرد وهات ماك اللاّوي. وعبولي كرشي بالكذب والبلف والهيبي وملكوني قصور بالمئة في بلاد الواق الواق وبعلبك وعددوا لي عشيقات شقرا وسمرا وحمرا وقالوا إنني مدمن على تناول الأقراص المهدئة للأعصاب وأن ذكائي لا يتعدى ذكاء الرضيع وافشوا اشاعة اصابتي بمرض عضال وتغنوا دون حياء: بن بريك يا جغل أمشي علينا قبل ما تنفصل بن بريك يا غفاص ما تحطي شيء في بالك بلحسن حلف بمين الشبكة يقطع هالك تكلم البوم في البستان وهبط الهلاك من السماء وأصبح كل واحد من راسو يحدد، يا ليتني قضمت التفاحة لوحدي! دون الرجوع الى مجلس الأمة، أعلن الصفاقسية في الليلة الفاصلة بين السادس والسابع من نوفمبر استقلال دولة صفاقسالمتحدة وامتنعت جندوبة عن تزويد الوطن القبلي والساحل بالماء الصالح للشراب وفرضت تونس العاصمة التأشيرة على قبلي وقبلاط وقرنبالية وبوعرادة وشفرت المهدية المرماجيّة والسواسي الى الهطاية والبحاير وسيطرت عصابات مدججة بالسلاح الخفيف على مجاز الباب ولنقار محاميد وبرج العيفة والخنقة... يا أولاد الكلب اعتطيتكم شبر وليتوا تلوجو على الطبة! امالا هاو رأس لنبوط! كيكست! صافا! بصقت في الكأس وسلمت أمري للجنرال زروق وعسكر المحلة الإنكشاري، لاحقت آل يوسف حيث ما كانوا في الترب والقلت وصبابيط الليل والوكايل وبين لوطاء والهواء، ولم يهد لي بال إلا حينما نهق البهيم في الماء وببصت لعداء. فهمتك يا شعب، كنت عديم النظر، تستحلى العذاب وتتلذذ من شدة الأذى والألم وتبكي كالمولود الجديد لما أكمد جراحك.