أريانة: حملة مشتركة للتصدي للانتصاب الفوضوي    بودربالة والسفير الإيطالي: ضرورة تكثيف جهود مواجهة الهجرة غير النظامية    وقفة احتجاجية لعدد من أصحاب "تاكسي موتور" للمطالبة بوضع قانون ينظم المهنة    شركة النقل تتفاعل مع "الشروق": نحرص على عودة النسخة الشعبية ل "إيبيزا" في أقرب الأوقات    سيدي بوزيد: انطلاق ورشة تكوينيّة لفائدة المكلّفين بالطاقة بالإدارات والمنشّآت العمومية    توزر: المخيم الوطني التدريبي للشباب المبادر في مجال الاقتصاد الأخضر مناسبة لمزيد التثقيف حول أهمية المجال في سوق الشغل    الرئيس المدير العام لمركز النهوض بالصادرات: واقع المبادلات التجارية بين تونس وكندا لا يزال ضعيفا    معتز العزايزة ضمن قائمة '' 100 شخصية الأكثر تأثيراً لعام 2024''    عاجل/ في ارتفاع مستمر.. حصيلة جديدة للشهداء في غزة    تم انقاذها من رحم أمها الشهيدة: رضيعة غزاوية تلحق بوالدتها بعد أيام قليلة    70 بالمئة من الأمراض تنتقل من الحيوانات ..مختصة في الثروة الحيوانية توضح    تراجع إنتاج التبغ بنسبة 90 بالمائة    المالية العمومية تتعافى: تقديرات بانحسار عجز الميزانية الى 6.6٪ من الناتج المحلي    نابل: الاحتفاظ بعنصر تكفيري مفتش عنه    كم تبلغ معاليم مسك الحساب بالبريد التونسي؟    تقلص العجز التجاري الشهري    سوسة/ القبض على منحرف خطير مفتش عنه..    هام/ ترسيم هؤولاء الأعوان الوقتيين بهذه الولايات..    سوسة: الاطاحة بمنحرف خطير من أجل ترويج المخدرات    الشابّة: يُفارق الحياة وهو يحفر قبرا    13 قتيلا و354 مصابا في حوادث مختلفة خلال ال24 ساعة الماضية    بن عروس: انتفاع 57 شخصا ببرنامج التمكين الاقتصادي للأسر محدودة الدخل    السعودية على أبواب أول مشاركة في ملكة جمال الكون    وقفة احتجاجية ضد التطبيع الأكاديمي    فريق عربي يحصد جائزة دولية للأمن السيبراني    الحكومة الإسبانية تسن قانونا جديدا باسم مبابي!    هلاك كهل في حادث مرور مروع بسوسة..    فاجعة المهدية: الحصيلة النهائية للضحايا..#خبر_عاجل    تسجيل 13 حالة وفاة و 354 إصابة في حوادث مختلفة خلال 24 ساعة    لاعب الترجي : صن داونز فريق قوي و مواجهته لن تكون سهلة    تكوين 1780 إطارا تربويا في الطفولة في مجال الإسعافات الأولية منذ بداية العام الجاري    أخصائي في أمراض الشيخوخة: النساء أكثر عُرضة للإصابة بالزهايمر    أبطال إفريقيا: الترجي الرياضي يواجه صن داونز .. من أجل تحقيق التأهل إلى المونديال    حريق بشركة لتخزين وتعليب التمور بقبلي..وهذه التفاصيل..    تُحذير من خطورة تفشي هذا المرض في تونس..    عاجل : القبض على منحرف خطير محل 8 مناشير تفتيش في أريانة    بطولة انقلترا : مانشستر سيتي يتخطى برايتون برباعية نظيفة    أمين قارة: إنتظروني في هذا الموعد...سأكشف كلّ شيء    البطولة الايطالية : روما يعزز آماله بالتأهل لرابطة الأبطال الأوروبية    هرقلة: الحرس البحري يقدم النجدة والمساعدة لمركب صيد بحري على متنه 11 شخصا    دورة مدريد : أنس جابر تنتصر على السلوفاكية أنا كارولينا شميدلوفا    وصفه العلماء بالثوري : أول اختبار لدواء يقاوم عدة أنواع من السرطان    طقس الجمعة: سحب عابرة والحرارة تصل إلى 34 درجة    الرابطة الأولى.. تعيينات حكام مباريات الجولة الأولى إياب لمرحلة "بلاي آوت"    تنزانيا.. مقتل 155 شخصا في فيضانات ناتجة عن ظاهرة "إل نينيو"    إثر الضجة التي أثارها توزيع كتيّب «سين وجيم الجنسانية» .. المنظمات الدولية همّها المثلية الجنسية لا القضايا الإنسانية    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    الفنان رشيد الرحموني ضيف الملتقى الثاني للكاريكاتير بالقلعة الكبرى    جريمة شنيعة: يختطف طفلة ال10 أشهر ويغتصبها ثم يقتلها..تفاصيل صادمة!!    قبلي : اختتام الدورة الأولى لمهرجان المسرحي الصغير    تتويج السينما التونسية في 3 مناسبات في مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة    بطولة مدريد للماسترز: اليابانية أوساكا تحقق فوزها الأول على الملاعب الترابية منذ 2022    أكثر من نصف سكان العالم معرضون لأمراض ينقلها البعوض    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كتاب «الشروق» المتسلسل «بن بريك في القصر»: كيف تقمّص توفيق شخصية «المخلوع» ورأى نهايته منذ سنوات؟
نشر في الشروق يوم 19 - 04 - 2011


إذا متّ مرّة بينكم
وهل أموت أبدا
فلا تقرأوا عليّ الفاتحة وياسين
واتركوهما لمن يرتزق بهما
ولا تحلّوا لي في الجنّة ذراعين
فقد طاب عيشي في ذراع واحد من الأرض
ولا تأكلوا في فرقي المقرونة والكسكسي
فقد كانا أشهى أطعمة حياتي
ولا تذرّوا على قبري حبوب التين
لتأكلها طيور السماء
فالأحياء بها أولى
ولا تمنعوا القطط من البول على ضريحي
فقد اعتادت أن تبول على جدار بيتي
كل يوم خميس
صالح القرمادي
اللحمة الحيّة
٭ ٭ ٭
حيكت قصص لا تعد ولا تحصى حول قاتل بن بريك، هي الأقرب من أدب الفزع. قالوا إنه معتوه، عديم الشفقة، عاش الكبت وحرم من ثدي مرضعة حلوب. كتبت جريدة آنذاك: إن هذا السفاح ابن عاهرة وأب زنديق. تربى مع الغنم وربط علاقة ود وجنس مع شاة عاقر.
وفي نفس السياق أوردت جريدة أخرى: إنه لا علاقة له بالأنس. تحالف مع إبليس. إنه المسيح الدجال ومسيلمة الكذاب. لا ينام الليل ويكره ضوء النهار. إنه يخاف ملاقاة وجه اللّه. ويمتص الدم ويأكل لحم البشر الطازج. أحلامه مليئة بالجثث والقبور والضباع. يرفع المشانق للقطط واليمام.
وحتى يكتمل الهلال، أفادت جريدة أخرى: كالدابة قريب من الأرض، قصير القامة، أعرج، ذو عين واحدة وله ذيل خنزير في مؤخرته.
وقدحت جريدة أخرى في افتتاحيتها: حاشى خليقة الرحمان، كان كالقراد ما ينهزش بجلم النار. كالزرزومية وشحمة لرض يزعف. كان عافن، كلّو قيح وجرب وحب. مقمل، مصنن كالعتروس، أبخر. كبول ولد حرام. دنجال عندو كربة (...).
يا قاتل الروح وين تروح
نحيب وعويل وقذف وشتم وتجريح وهتك للأعراض وسب ورمي بالحجارة. طبيعي جدا أن تحدث المغالاة. فالقاتل قتل الأب السيد وربّ البيت.
من القاتل؟ يزيد، ذاك المخلوق الفار من النّار؟ أو ذاك العفريت الذي يقهقه في الكابوس كما ذكره المجوعون؟
القاتل مثلي ومثلك. تربى على يد أب وجد مطأطئي الرأس ومنحني القامة. عاش العار تلو العار. من سلالة المهزوم.
القاتل يختلف عنّي وعنك. يذوب في الكلام ويحذق الرشق باللّفظ والعبارة. في صدره نهج البلاغة وستون حزبا وسبع معلقات. يطير على متن الحلم إلى مسافة الظفر ويستعير من جحا حيله. في رأسه ملحمة وحروب قد خاضها في عهد غير عهده رفقة شعراء صعاليك.
أنا مش كافر
بس الجوع كافر
أنا مش كافر
بس المرض كافر
أنا مش كافر
بس الفقر كافر
والذل كافر
طيلة ألف ليلة وليلة حدّث القاتل الرئيس عن المقاتل الذي ما فتئ ينذر: أنا ذاهب إلى الموت. أموت بعد هذا الموت؟
لكن شهريار أبى واستكبر. فأشهر القاتل سواد دسّه:
حكم سيوفك في رقاب العذّل ٭ وإذا نزلت بدار ذل فارحل
وإذا بليت بظالم كن ظالما ٭ وإذا لقيت ذوي الجهالة فاجهل(٭)
شوف ما تحقرنيش. راك بارك عليّ من غير فايدة. خانقني على حتّ شيء. عافس فيّ حرام زقوم. منحيلي السروال شماتة. تسلب في ميت وتفش في غيضك في بوعريان. ترشم وتنبر وتسهل على الملّة وبنت العلة. يمكن تسالني وأنا ناسي. راك تصرف من جيبي وهاز الملمة وإلّي ثمة. طحشك كبير. قلت ما صار شيء وبلعت السكينة بدمها.
على واش تلوج؟ نقول بع راني نعجة! أسيدي مستعرف بيك خشين، ما نجمكش، تغلبني، ما نلعبكش، ما نيش عبارك، شوف نديدك. أعبر حبتلك الدنيا والربّ. شكون شدّك؟ أكثرش من هكّة؟
علاش معرّس بي؟ قايلك، قيلني أولد الناس. نفسني أعمل معروف. استرجل يرحم والديك. جيتك بجاه ربي. ما تخلنيش نجهل ونخرج من ملّة محمد ونطورن ونحرن كالوصيف ونيبس كالزلعيطة وتطلعلي الكلبة بنت الكلب والزبل اراسي.
(٭) عنترة.
أنا عود زنبق فاكسرني..
آش قلت؟ ما اسمعتنيش؟ مطفيني! قلت لا! هدرتي فارغة. وكان عندي ريح نذري عشرة. ريت ماكش باهي. توّ شد على خليقتك: بزاق وحكان وعض ومشطة ومقص وموس بوسعادة والبونية تعيط. وإذا خلت نزيدها لص. تحلت جعفرية: اجباد شطراف أعطيه، كلت بعضها وما تفر كان الطايح أكثر من الواقف. الكثرة وقلة البركة. وفي التراب ولا في كرش أولاد الأحباب.
ها شومي ههْ
ها قلي ههْ
بن بريك في القصر.. بن بريك خارج القصر
بأي حبر كتب الشاعر بن بريك كتابه الأخير «بن بريك في القصر» الصادر عن دار قوس للنشر؟
هل هي قصيدة؟ هل هي رواية؟ هل هي مسرحية؟ أم نص سينمائي؟
لا هذا ولا ذاك! إنها أنشودة المطر التي طالما انتظرتها أرض تونس الضمآ. إنها ملحمة تروي تونس من خلال ناسها وجبالها ووديانها وخبزها وكلامها. إنه شاهد عصره. شاهد على الحياة حتى وإن كان الموت تراود تجواله.
بأي حبر كتب «بن بريك في القصر»؟ يقول الشاعر أولاد أحمد: «إن أشد ما يخيف الرقابة هو تجاوز الكتابة للأجناس التقليدية المتعارف عليها، وها هو توفيق بن بريك يمزج الأجناس، واللهجات والأساليب، ويخلط الأدبي بالشعري بالسياسي، مثلما فعل من قبله الجاحظ والتوحيدي ونيتشه وبرنارشو».
سؤال أخير: ما الذي أدى ببن بريك إلى تقمص دور الرئيس (بن علي أو بن جديد، غير مهم!).
بن بريك هذا المولع حد الفناء بالسينمائي الياباني أكيرا كيروزاوا، اختلس من فيلم «ظل المقاتل» ظله! هناك قناعة أن السلطة بهرج وكوميديا وأداء ركيك لحركات ركحية لا أكثر.
السلطة لدى بن بريك أو أكيرا كيروزاوا تمثيل ودور يمكن أن يؤديه أي كان حتى سارق البيض (الشخصية المحورية في ظل المقاتل) أو قعر من الأقعار (بن بريك الجريصي). كل المطلوب من الرئيس أن يوهم الناس أنه جدير بالكرسي. يقول بن بريك: «عقد أولي الأمر العزم على تلقيني فرائض الحكم الثلاث: كيف لا يتكلم الرئيس؟ كيف لا يتحرك الرئيس؟ كيف لا يظهر الرئيس؟» في فيلم «ظل المقاتل» لما أجاد سارق البيض والدجاج قول «الجبل لا يتحرك» سجد له كبار القوم وسلموا له مقاليد الحكم.
ما الذي يضيفه بن بريك إذن؟ توغله في البلاغة؟ فالكتابة عنده هوية وانتماء إلى العربية: لغة صدرية شفوية بالأساس، يحذقها المرتل والمؤذن والمذيع. فهو يقول: «يذوب في الكلام ويحذق الرشق باللفظ والعبارة. في صدره نهج البلاغة وستون حزبا وسبع معلقات. يطير على متن الحلم إلى مسافة الظفر وستعين من جحا حيله. في رأسك ملحمة وحروب قد خاضها في عهد غيره رفقة شعراء الصعاليك».
وحتى يتموقع مليا في اللغة، اختلي بن بريك من عبد اللّه المقفع طاقية التخفي ليقترب خلسة من غار الرئيس المؤبد.
فإذا كان ابن المقفع قد استنجد بالبهائم كي لا يثير كلامه غضب الحاكم، فإن بن بريك وهب مبهاه ليبث الشك في قداسة الملك ويدك أركان سلطته دون أن يتفطن. يقول بن بريك: (رويدا رويدا، دون قلقلج ولا ضجيج، استباحت أسنتهم كل الحدود. وساعة الفزع وجدناهم قد حلوا في صحن الدار. ودون رحمة ولا شفقة، سلطوا علي محكهم وأوقعوني في منداف هرائهم حتى لا أتخبط وأرضي مطيعا، بالصورة التي رسموني عليها: «كاركوز سلواهم»).
في هذا الكتاب أيضا إفراط في السخرية، وهذا منحى اعتدناه في فن الحيل عند العرب. فإنك، صديقي القارئ، إذا ما انزويت مع بن بريك في القصر، ستغمرك القهقهة إلى حد أن يصيبك الصداع أو تنتابك نوبة ألم في البطن. فأنا لا أدري كيف استطاع هذا الملعون أن يفتك مني الضحكة في كل سطر خطه. لا غرابة إذن أن يهدي «قصره» إلى جحا وبيدبا والفكاهي التونسي صالح الخميسي.
أما الغريب، فإن بن بريك الذي أعرفه عن قرب في ما اعتاد عليه، هو رجل شديد الخجل لا ينطق إلا بكلام يلتزم دوما فيه حدود الأدب. إلا أنه في كتابه هذا (وكل كتابته جملة وتفصيلا) تجاوز حدود الأدب وطلق بالثلاث كلام الحرير وصار نطقه يراقص الكلام في غير المباح، أو لم تكن فاتحة الكتاب للشاعر عبد الرحمان الكافي:
الرجاء في المولى
أما الدنيا وأهلها مجمولة
جميع الدول الكل، دولة دولة
اللي يظهر واللي بقى متخبي
برياسها بملوكها بالصلة
بتيجانهم في...
ويذكرك بن بريك أن الشيخ النفزاوي صاحب «الروض العاطر في نزهة الخاطر» في ما مضى صور لنا الحب دون حياء.
لا حياء في الكتابة. ويبقى كتاب «بن بريك في القصر» كتاب قتال ضد الرئيس الذي خنق الهواء وبتر اللسان والي في زمانه صمت الشعر وهاجر الغناء وتعطل الرقص وولج الغم والهم صدور الناس.
«بن بريك في القصر» برنامج شاعر، «كل ما لديه حلم يطير: أن لا يفرض واحد حلمه على الملايين». وينادي بتدمير الدولة وإرساء كيان الفوضى. فبن بريك يحلم بيوم يصبح فيه البوليس ينتخب، يبتاع السلاح ويشتري في دكاكين الطوابع البريدية والتبغ والجعة..
في النهاية، يبقى كتاب «بن بريك في القصر» كتاب يحرض على قتل الأب السيد. قال الشاعر: «طيلة ألف ليلة وليلة حدث القاتل الرئيس عن المقاتل الذي ما فتئ ينذر: أنا ذاهب إلى الموت. أموت بعد هذا الموت؟ كفى». لكن شهريار أبى واستكبر فأشهر القاتل سواد دسه:
حكم سيوفك في رقاب العذل ٭ وإذا نزلت بدار ذل فارحل
وإذا بليت بظالم كن ظالما ٭ وإذا لقيت ذوي جهالة فأجهل
كتاب ضد دولة التعاسة. كتاب يؤسس لمدينة الفذلكة. كتاب على قارعة الطريق..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.