تعيش تونس بعد الثورة وضعا اقتصاديا استثنائيا في نظر الخبراء الاقتصاديين وما يهدّد باستفحال الأزمة هو كثرة الاعتصامات والاضرابات في عديد المؤسسات رغم الرغبة الملحوظة من بعض البلدان في التعامل الاقتصادي مع تونس تضامنا معها ومساندة لبلد يرغب في تحقيق المسار الديمقراطي خاصة وأنه أصبح يمتلك سمعة وصيتا عالميين بعد ثورة 14 جانفي. ويتردّد في الشارع التونسي خلال الفترة الأخيرة أن الوضع الاقتصادي لم يعد يحتمل المزيد من الضغوطات وأنه من المرجّح أن تجد الدولة صعوبة في صرف الأجور بداية من شهر ماي القادم. «الشروق» تحدثت الى الخبير الاقتصادي لدى الأممالمتحدة السيد حافظ زعفران ونائب رئيس الجمعية التونسية للبحوث حول الديمقراطية والتنمية. وبخصوص الوضع الاقتصادي في الوقت الراهن قال: «في الحقيقة تونس تمرّ بفترة صعبة وحرجة أي أنّ المؤشرات تدلّ على أن هناك تراجعا في الأداء الاقتصادي». وذكر أنه يمكن مقارنة الفترة الحالية (جانفي فيفري مارس) 2011 بنظيرتها 2010 لنجد أن الانتاج الصناعي انخفض بنسبة 13٪ كما تفضي مؤشرات القطاع السياحي الى انخفاض بنسبة تتراوح بين 50 و60٪ والاستثمار كذلك انخفض بنسبة 36٪ وكذلك الواردات المستعملة في الاستثمار انخفضت بنسبة 13٪ وحتى تحويلات المواطنين بالخارج تقلّصت (تراجعت) وأضاف أنه لوحظ تراجعا في مؤشر البورصة من يوم 17 ديسمبر الى يومنا هذا بنسبة 17٪ وهذا ما يفضي الى أنّ الاقتصاد يمرّ بفترة صعبة، ولكن مع ذلك هناك مؤشرات مطمئنة مثلا سعر صرف الدينار التونسي لم يتدهور والمخزون من العملة الأجنبية كذلك ظلّ في مستوى محترم أي لنا ما يكفي ل136 يوم توريد وأشار الى أن الصادرات أيضا ارتفعت ب9٪ وهي ليست متأتية من المنتوج الحالي، بل من مخزون سابق. تأثيرات واعتبر أن ارتفاع الصادرات هو ارتفاع ظرفي ناتج عن تسويق منتوجات لفترة سابقة للثورة. ولاحظ لدى بعض الصناعيين أن هناك تضامنا من بعض البلدان مع تونس لاسيما الجزائر لشراء المنتوجات. وحول مدى تأثير الاضطرابات في ليبيا على الاقتصاد التونسي قال: «لقد تمّ خلال الثورة اتلاف عديد المنتوجات بسبب حرق المصانع وكذلك في القطاع الفلاحي (اتلاف وحرق) وهناك استعمال أقل لطاقة الانتاج وحدث تراجعا في الطلب سواء على مستوى داخلي أو خارجي ما نتج عنه عدم تراجع وتقلص الطلب في القطاع السياحي وزاد استفحال الوضع مع اضطرابات ليبيا لأنها حريف لتونس تصدّر لها عدّة منتوجات صناعية وزراعية وهي أيضا مصدر لطلب كبير في القطاع السياحي أكثر من مليون ونصف سائح وكذلك الليبيون ليسوا سيّاحا عاديين لأنهم ينشطّون قطاع المصحّات ويشترون المنتوجات التونسية وينشطون القطاع العقاري ما يخلق ديناميكية في الحركة الاقتصادية بصفة عامة. وأضاف لنا عمال تونسيّون في ليبيا يحوّلون نسبة هامة من العملة من ليبيا ولذا الأزمة الليبية عمّقت الأزمة الاقتصادية التي نمر بها. وحول كيفية مجابهة الوضع الحالي والحفاظ على التوازنات الاقتصادية قال الخبير الاقتصادي: «حسب توقعات قانون المالية ل2011 كان من المنتظر أن تكون نسبة النمو في حدود 5.4٪ ولكن التوقعات الحالية الرسمية تقول إنه من المرجّح أن يتراجع الى صفر بالمائة بمعنى أن يكون هناك حالة ركود اقتصادي وهذا سيكون له انعكاسات على الوضع الاقتصادي وينجرّ عنه تفاقم الحاجيات المالية للدولة وخاصة بعد الاعلان عن عدّة اجراءات اجتماعية التي اتخذتها الدولة في محاولة منها لتحقيق المعادلة للتوفيق بين الضغوطات الاقتصادية والاجتماعية والمحافظة على التوازنات الاقتصادية لاسيّما على مستوى المالية العمومية. وأشار الى أن البرنامج الحكومي وجد نفسه أمام معادلة وأهميتها من ناحية وبالطابع الظرفي وقصير المدى لهذه الحكومة المؤقتة من ناحية أخرى. وأفاد أن الاجراءات التي اتخذت حاولت التخفيض من الضغوطات الاقتصادية والاجتماعية مع غياب البعد الاستراتيجي الذي يتماشى مع الطبيعة المؤقتة لهذه الحكومة. وهو ما أفضى الى حاجيات مالية اضافية هامة قدّرت بحوالي 4 مليارات من الدنانير، أي حوالي أكثر من 20٪ من الميزانية الأصلية وهذا ما ينجرّ عنه تفاقم عجز الميزانية الذي كان يتوقع أن يكون في حدود 2.5٪ وحاليا يقول إن العجز سوف يتجاوز 5٪ ويفترض أن يكون تمويل هذا العجز عن طريق تداين اضافي للدولة، فإن نسبة التداين سوف تعرف ارتفاعا ملحوظا خلال 2011. غير كارثي ولو أمكن تشخيص الوضع بالصعب والحرج فهو يبقى غير كارثي لسببين اثنين أولا لأن المسار الاقتصادي يبقى رهين تطور المسار السياسي ولأن هذا الأخير سوف يعرف انفراجا بانتخابات 24 جويلية فإنه يتوقع أن يعرف المسار الاقتصادي تحسّنا بدوره وذلك من خلال اعادة الثقة في المستقبل وغياب الضبابية في التوجهات والخيارات ومناخ الاستثمار بصفة عامة وإعادة الثقة مستقبلا كذلك مرتبطة برجوع الأمن والتحكّم في المجال الاجتماعي وحول أهمية العقد الاجتماعي في اعادة الثقة وتحقيق الانتعاشة الاقتصادية ذكر محدّثنا أن العقد الاجتماعي مبني على ثلاث ركائز: الركيزة الأولى هي التوجه الواضح نحو تنمية اقتصادية مبنية على الانصاف والركيزة الثانية مرتبطة بالتوجّه الديمقراطي في الخيارات السياسية والركيزة الثالثة هي الحوار الاجتماعي المسؤول مثلا كثرة الاعتصامات والاضرابات العشوائية واختلاف الوسائل كقطع الطرق وحرق المؤسسات والنهب وهي دليل على غياب تام لتوافق اجتماعي وكذلك غياب بعض التمثيلية للأطراف الاجتماعية وهو ما يعني أن المنظمات الاجتماعية لا تقوم بواجبها كما يجب في بعض الأحيان وتتجاوزها الأحداث في بعض الأحيان الأخرى. «ظرفية» وأضاف أن جميع البلدان التي عرفت تحولا ديمقراطيا عاشت أزمات اقتصادية، لكن كانت ظرفية لسنة أو سنتين وبعد ذلك حدث تطور اقتصادي هام جدا. مثلا البرتغال واسبانيا في النصف الثاني من السبعينات وبولونيا في أواخر الثمانينات عرفت تراجعا هاما في الأداء الاقتصادي خلال الفترة الانتقالية ولكن هذا التراجع كان ظرفيا وثمّ عرف انتعاشة ملحوظة وأضاف أن جميع هذه البلدان انتفعت بمساندة هامة وحاسمة من شركائهم الاقتصاديين وهم الاتحاد الأوروبي وهو ما يعني أن تونس كذلك في حاجة الى مساندة من جميع شركائها حتى تتمكن من تجاوز هذه الفترة والدفع بالاقتصاد الى مرحلة أفضل. وصرّح بأنه: «خلال الأسابيع الأخيرة وجدت تونس مساندة من منظمات دولية كالبنك الافريقي للتنمية والبنك الدولي ولكن تظل هذه المساندة في شكل قروض والمؤشرات تقول لا يمكن الاعتماد على هبات هامة من الشركاء ورأى أنه يجب الاعتماد على طاقاتنا الذاتية لتخطي هذه المرحلة بسلام سواء سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو مالية كانت. وهذا ما يبيّن أهمية المواطنة المسؤولة في هذه الظروف الحرجة والاعتماد على الذات». وبخصوص مواجهة صعوبة صرف أجور شهر ماي قال محدّثنا: «تونس ليست الصومال أو بلد افريقي فهي تمتلك توازنات مالية واقتصادية وحتى الديون يقع استخلاصها حيث تمّ تسديد قسط هام خلال شهر أفريل ومازال قسط آخر سيقع تسديده في موعده. وأضاف أن تونس منذ الاستقلال الى يومنا هذا لم تتأخر يوما واحدا عن تسديد ديونها وهو ما جعل لها مصداقية لدى الدول الأخرى وهذا يدخل في اطار الحفاظ على سيادة الدولة. وأكد أنه من أسوإ السيناريوهات أن نصل الى عجز ب5٪ في دول أخرى تصل 15٪ أو أكثر. نمو بلا تنمية وحول ثغرات الواقع الاقتصادي في العهد البائد قال: في الفترة السابقة نجد نموّا، لكن لم نجد تنمية والمؤشرات كانت متواضعة مقارنة بالبلدان التي لها نفس الخصائص الاقتصادية وكانت نسبة النمو محترمة وسجل تحسن في الدخل لكن هناك خللا أدّى الى حدول ثورة وفي رأيي هناك غيابا لحوكمة رشيدة وتفشي الفساد الاقتصادي والسياسي واعتماد الاقتصاد الريعي أي الذي لا يعتمد لا الجهد ولا الذكاء. وأضاف أن ظاهرة تفاقم الفوارق الجهوية واهمال ريف البلاد والقطاع الفلاحي بصفة عامة وهذا تزامن مع تفاقم البطالة وخاصة لدى شرائح هامة كالشباب وأصحاب الشهائد العليا. وذكر أن النظام استمرّ لوجود شبكة أمان اجتماعي مبنيّة على النفعيّة والمحسوبية والانتهازية وكذلك تشابك وتداخل المصالح السياسية والاقتصادية والمالية لمجموعة مهيمنة مكوّنة من الحزب الحاكم في ذلك الوقت وأتباعه مع طواطؤ مع أجهزة الأمن والادارة وهناك كذلك مساعدة معلنة وضمنيّة لبلدان شقيقة وصديقة وكذلك شركاء اقتصاديين لتونس.