كلّ شيء في الغرب استراتيجي.. سياساتهم.. رهاناتهم.. حروبهم.. تفكيرهم.. وحتى فضائحهم فهي استراتيجية بدورها مهما بدت فادحة ومحرجة.. الفضيحة هذه المرة كانت مدوية بحجم واحدة من أعتى المؤسسات المالية في العالم وهي صندوق النقد الدولي الذي تداولت وسائل الإعلام الدولية والرأي العام العالمي الواسع فضيحة رئيسه الفرنسي دومنيك ستراوس كانْ على إثر علاقة مع عاملة بفندق يقول ستراوس إنها تمت تحت سقف حياته الخاصة، في حين يراها الغرب فضيحة بكلّ المقاييس تستوجب العقاب الحاسم والحازم تحت سقف القانون والعدالة. هذه الفضيحة الاستراتيجية تأتي بعد أقل من سنتين من فضيحة رئيس صندوق النقد الدولي السابق الأمريكي بول وولفويتز الذي قدّم استقالته بعد اتهامه بمنح صديقته العاملة في البنك مبالغ مالية كبيرة، وهو ما يُلقي بظلال قاتمة حول طبيعة الاختيارات التي تقود هذه المؤسسات المالية العالمية الأكثر شهرة وتأثيرا وسطوة والتي يبدأ القادمون إلى رئاستها بالأضواء والنجومية وكثيرا ما ينتهون إلى السقوط والفضيحة. وكعادته في مثل هذه المواقف، فإن الغرب يبدي براغماتية فائقة إزاء هذه الفضائح، ولا يرحم أحدا من الرسميين أيّا كانت مواقعهم، في ظل إعلام حرّ يؤدي أدواره على أكمل وجه، وفي ضوء مؤسسات قضائية لا تجد حرجا في أن يقف في رحابها رئيس دولة أو مدير شركة أو صاحب نفوذ وجاه ومال، فالكلّ سواء أمام القانون مهما قيل عن الخيوط الخفية التي تحرّك المشهد هناك وتثقله بالنوايا والحسابات والتوازنات. فمن فضيحة ووترغايت التي أطاحت بالرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون، مرورا بفضائح كبرى أهمها فضيحة الرئيس الأمريكي الآخر بيل كلينتون وعلاقته الشهيرة بالمتدربة في البيت الأبيض مونيكا لوينسكي، وصولا إلى فضيحة الرئيس الاسرائيلي موشي كاتساف وفضيحة رئيس صندوق النقد الدولي دومنيك ستراوس كانْ، في كل هذا المسار الأسود، تتعدّد الأسماء والفضيحة واحدة في مجتمعات ليبرالية يتوحش فيها رأس المال، وتتسلل النزوات إلى مخادع الساسة والقائمين على مؤسسات المال والأعمال إلى حين انكشاف اللعبة وسقوط الكبار. يحدث هذا في الغرب فقط، منذ أن تخطّت المجتمعات هناك حواجز الصمت والخوف والتردّد، وصار بوسعها أن تسأل وتسائل عن كلّ كبيرة وصغيرة، وأن يكشف الإعلام داخلها الحقائق، وأن يفضح ويعرّي، ويرسم كل الخطوط الحمراء حتى أمام الحكام أنفسهم.. فلا حصانة لأحد في الغرب، ولا أحد فوق أو تحت القانون كما قال ذلك الرئيس الأمريكي أبراهام لنكولن في الماضي قبل كثير من فقهاء القانون والسياسة المعاصرين. أما في عالمنا العربي، فقد عاشت المجتمعات منذ حصولها على استقلالها في ظل الخوف المقيم في النفوس.. الخوف من الرقيب والمخبر ومن الجدران التي لها أذنين وحتى من الظلّ نفسه، وهو ما فتح المجال فسيحا ورحبا أمام الحكام وأصحاب الجاه والنفوذ كي يعيثوا في الأرض فسادا دون حساب أو عقاب، وهو ما يقلب المعادلة إلى مفارقة لتصبح هذه الفئات فوق اعتبارات القانون ولتظل فضائحهم حكرا على المجهول ومن المحرمات الكبرى التي تتسلل بحياء إلى تضاعيف الأحاديث الخفية وإلى المجالس المغلقة البعيدة عن الأعين الماكرة والألسنة الخبيثة. إلى حدّ السنوات الأخيرة كان المشهد العربي، هكذا، ملتبسا بالخوف والصمت والإنكسار، إلى حين انبلاج فجر الثورات العربية التي قلبت المشهد برمته ليكتشف الرأي العام العربي الواسع حجم المأساة وفداحة الفضائح وهول الفساد والظلم. فمن حكام جائرين، مستبدين، إلى حاشية وبطانة فاسدتين، إلى أصحاب جاه ونفوذ مارقين، سقط الكثيرون، وتهاوت الأقنعة، وزالت المساحيق، وانكشفت خديعة عقود من الوهم والضحك على الذقون، ليبدأ عصر الحساب الذي كان من قبل حلم ملايين المظلومين والمسحوقين الذين يكتشفون اليوم سلطة القانون لأول مرّة إذ لا خوف بعد اليوم. فضيحة دومنيك ستراوس كانْ، كان بوسعها أن تفجّر مزيدا من الألم في نفوس الشعوب العربية لو ظلّ المشهد العربي على حاله قبل الثورات، ولكن فضيحة ستراوس توازيها فضائح عربية أخرى هي اليوم موضع المحاسبة، والفرق الوحيد أن فضيحة ستراوس لم تنتظر كثيرا لتفوح وتنكشف، ولكن فضائح الكثير من الرسميين العرب طال بها الزمان أكثر من اللازم. اليوم لم تعد الشعوب العربية تحلم بنهاية الطغاة وسقوط المفسدين بعد أن اتضح أن ذلك يسير في ظلّ الإرادة الشعبية العارمة، بل مرّت هذه الشعوب إلى مرحلة استشراف المصير وبناء المستقبل في ظل القانون والحرية والكرامة. سوف لن ينبهر العرب بعد اليوم بعدالة الغرب حتى وإن كان المشهد منفتحا كليا على فضيحة دومنيك ستراوس كانْ، لأن العدالة وجدت طريقها إلى العرب أخيرا بعد عقود من الظلم والفساد والأوهام.