كيف يُمكن أن يتحدّث شخص مّا من داخل المنظومة الإيديولوجية التي يؤمن بها ويسعى إلى تفعيلها ؟..هل بإمكانه أن يُقدّم نقدا ذاتيا صريحا لتلك المنظومة...الأستاذ فيصل الزمني الأمين العام لحزب اليسار الحديث يقدّم ل«الشروق» قراءة في ماضي اليسار التونسي وحاضره ومستقبله من خلال هذا الحوار. أجرى الحديث: خالد الحدّاد أين تضعون اليسار التونسي ضمن خارطة المشهد السياسي ما بعد الثورة ؟ تاريخيا، عرف شهر مارس من سنة 1956 دعوات واضحة لتكوين قطب يساري بالبلاد اصطدمت بفكرة الوحدة القومية لبورقيبة ومن هناك بدأ المشروع الدستوري في اضطهاد اليسار بمختلف فروعه. كما أود أن أقف إجلالا لحركة هناك اليوم من يحاول الاستحواذ على اسمها من أجل ممارسة « السمسرة السياسية «وهي حركة تجمع الدراسات والعمل الاشتراكي التي تمخضت عنها صدور مجلة «آفاق (Perspectives) جاء ذلك في فترة آمن فيها المثقفون اليساريون في تلك المرحلة بضرورة تكوين قطب يساري واحد يتشكل من أطراف عدة بعضها في خلافات مذهبية كبيرة مع البعض الآخر من أجل الوقوف ضد الحزب الواحد وقمع بورقيبة ومن ورائه جلاد الشعب على مر السنين ألا وهو حزب الدستور . ان هذه الفترة ترجعنا إلى طفرة إنهاء الاحتلال وإنشاء الدولة التونسية العصرية ونحن إذ نتوقف عندها فلأننا نعتبرها الفرصة الأولى التي ضاعت على بلادنا لأجل إنشاء نظام ديمقراطي وطني حر ثم لحقت بها فرصة 1987 عندما نجح حزب الدستور في الالتفاف على نص بيان 07 نوفمبر 87 ورجع بالدفة إلى ما كانت عليه قمعا ونهبا وسلبا ...حتى انتهى الأمر إلى انهيار مقومات الدولة وتأكل أعمدتها تحت وابل الفساد الاقتصادي والسياسي. لذلك فإننا اليوم نقف على عتبة الفرصة الثالثة وقد بدأت بوادر العمل من أجل الالتفاف عليها تلوح في الأفق وصرنا نخاف أن تلحق ثورة 14 جانفى 2011 بتاريخ 20 مارس وبتاريخ : 07 نوفمبر 87، في هذا الإطار فإنني أنزل اليسار اليوم بمختلف فصائله في مقدمة المشهد السياسي التونسي الوطني فالثورة التي انطلقت تحت شعار «التشغيل استحقاق يا عصابة السراق» قد جاءت بطبيعتها تحمل شعارات يسارية فاليسار هو موجود لحل مشكلة التشغيل وإرساء منظمة تنمية عادلة وإلغاء الاستبداد بأنواعه. كيف تنظرون إلى واقع اليسار التونسي اليوم...بين الجمود والتطور ؟ علينا هنا أن نتساءل لماذا يبتعد المواطن نسبيا عن الفكر اليساري والحال أن هذا الفكر قد جاء من أجله وهو يستميت في الدفاع عنه؟ . نحن نعتقد أن اليسار التونسي وتحت وطأة القمع الشديد الذي تسلط عليه وكذلك تحت أثار الانتهازية العمياء التي قادت البعض منه وحولته من صاحب مشروع وطني إلى عجلة خامسة في عربة حزب الدستور «جلاد الشعب» استعمله في قمع الحركات المتعصبة، قد جعل من اليسار يتخلى عن مهامه الأساسية وهي الالتصاق بالجماهير الشعبية وتعبئتها من أجل تحقيق المشروع اليساري ويدخل في دوامة «التكتيك السياسي» التي تحسم دوما لصالح «جلاد الشعب» لأنه هو الأقوى على الساحة، لذلك فان اليسار التونسي اليوم مطالب بتفادي ما فاته من وقت ضائع وتدارك ما فاته من تعبئة للطاقات الشبابية علما وأن «جلاد الشعب» كان استعد لإيجاد تركيبة سياسية رجعية بالبلاد ومهد لها بقمع اليسار وتهميشه حتى يضمن انسياق الشباب التونسي وراء هذه التركيبة حالما تقف على قدميها. ولذلك فإن مجهود اليسار اليوم مطلوب أن يتوجه إلى عمل داخلي من أجل تطوير أساليب عمله وتعصير نظرته للأمور وتحليله للظواهر وعمل خارجي من أجل فضح هذه الأرضية التي تركها «جلاد الشعب» وراءه والتي تمهد لدفع الشباب إلى الانصهار داخل التنظيمات الرجعية. ما هي في اعتقادكم وتصوراتكم خارطة اليسار التونسي اليوم؟ الخارطة اليوم غير واضحة ونحن نعتبرها خارطة متخلفة عن المطلوب وذلك للأسباب التالية :إن فكر اليسار بشكل عام ليس نهاية في حد ذاته بل أنه وضع لحل المشكلة الاقتصادية وتمكين الفئات الضعيفة داخل المجتمع من العيش الكريم والسعي من أجل التوزيع العادل للثروة وانجاز منظومة ثقافية تحررية تبشر بمجتمع متفتح وعصري لكنه غير منبت الجذور كل ذلك في انحياز لأصحاب المواقع الضعيفة بالمجتمع ولذلك مثلا فإن حركة « أفاق» قد ضمت عند تكوينها تيارات يسارية مختلفة منها : اليسار الماركسي والاشتراكيون العرب واليساريون المستقلون.. ان ذلك يعني أنه من واجب اليسار أن يتطور حسب العصر على أن يحافظ على الهدف الأسمى فغير المقبول هو أن يتخلى اليسار عن الدفاع عن مصلحة أصحاب المواقع الضعيفة بالمجتمع أما وسائل العمل والتوجهات والسبل فإنها تكون كلها قابلة للحوار. ما هي آفاق المراجعات وعملية النقد الذاتي الّتي يستوجبها الفكر اليساري في هذه المرحلة؟ بكل صراحة أقول إن مأزق اليسار ليس تونسيا فقط فاليسار الفرنسي مثلا يعاني كذلك من نفس المشكل فميلاد «اليسار الحديث الفرنسي» مثلا قد جاء بعد توفر اقتناع لدى مؤسسيه بتعطل الحركة اليسارية في فرنسا بما يهدد بترك فراغ سوف يستغله اليمين لا محالة ولربما حتى اليمين الضارب فى الرجعية .ولقد كان ذلك حسبما صرح به الرفيق «بروكال» مشروعا داخل الحزب الاشتراكي الفرنسي إلا أن الشجاعة السياسية خانت البعض... الذين لم يقدروا على التجاهر علنا بالنقد الموجه الى الاشتراكية التقليدية في حين أنهم يقرون بها داخليا ... قد توفرت لدى باعثي «اليسار الحديث الفرنسي» فخرجوا من الصمت وانتقدوا اليسار التقليدي وتم إنشاء «حزب اليسار الحديث بفرنسا». ان ما قمنا نحن به بتونس هو تقريبا نفس المجهود مع بعض الفوارق التي تعود إلى تاريخنا المختلف عن التاريخ الفرنسي باعتبار أن منطقتنا لم تعرف إطلاقا في تاريخها مرحلة صراع بين البورجوازية بالمفهوم العلمي للكلمة من جهة و بين الإقطاعية المؤسسة على الاقتصاد و الدين من جهة أخرى فسقوط الدولة العثمانية مثلا لم يأت نتيجة ثورة بورجوازية وبعث الحكم الإقليمي لم يكن انتصارا لبورجوازية علمية محلية بل هو موقف انتهازي محلي على اثر ضعف الدولة المركزية بتركيا. لكل ذلك نقول إن الأمل في المراجعات اليسارية ضعيف جدا ببلادنا خاصة اذا أخذنا بعين الاعتبار حداثة النشاط العلني للأحزاب اليسارية وقلة تجربتها التنظيمية وعدم اصطدامها بالواقع الانتخابي بعد ... ونحن نعتقد أن الخيبات الانتخابية والتجربة الميدانية في مرحلة أولى ثم مخاطر فشل المشروع الاقتصادي عندما يكون اليسار في الحكم هي الكفيلة بوضع اليسار التونسي أمام واقعه الحقيقي وسوف يكون عندها مضطرا للمراجعة . ما هي في نظركم الأخطاء السياسيّة التي ارتكبها اليسار التونسي على امتداد الخمسين سنة الفارطة أي خلال حكم بورقيبة وبن علي؟ بصراحة أقول إن اليسار لم يخطئ بل إنه دُفع إلى ما هو فيه . لكنني أقول إن اليساريين الذين نجحوا في الفرار من قمع «جلاد الشعب» واستقروا خارج البلاد لم يلعبوا الدور المطلوب منهم ولم يتشكلوا في هيكلة مهجرية تأخذ على عاتقها انجاز المشروع اليساري التونسي واستقطاب الشباب من أجل هيكلة شبابية تونسية يسارية بالخارج لو أنها أنشأت سنوات 1970 لكانت مؤهلة سنة 1987 لمسك دفة الحكم أو لاقتسامه بجدية وليس في إطار «كذبة» رسم «جلاد الشعب» السيناريو المتعلق بها وحضرت بعض الوجوه اليسارية لتمثيلها ، لذلك فان أخطر خطأ ارتكبه اليسار في نظرنا هو قبوله القمع المسلط عليه والدخول في دوامة المواجهة والصمود بدون أن يفكر في التقدم الاستراتيجي والمحافظة على العمل المستقبلي ولو بإمكانات ضعيفة. هناك ما يُشبه «العُقدة» لدى جلّ الأطياف اليساريّة تجاه التيارات الإسلامية وبخاصة حركة النهضة (الاتجاه الإسلامي سابقا)..ما تبريركم لذلك؟ أعتقد أن الفكر اليساري عموما هو فكر إنساني ومترفع عن المواجهات التي لا مصلحة لأحد منها .لكن وجود هذه «العقدة» التي هي حقيقة ترجع إلى الفترة التي ظهرت فيها حركة الاتجاه الاسلامي بالجامعة التونسية وما لحق بها...وأعتقد أن «الحرارة» المفرطة التي تميز تحرك الشباب التونسي عموما جعلت من المشادات الفكرية تتحول إلى مواجهات دموية ..فحظرت السلاسل .. والسكاكين و«السواطير».. بدور العلم و تمت الاعتداءات من هذا الجانب ومن ذاك. ان من عاش هذه المرحلة لا يمكنه في اعتقادي أن ينسى بسهولة دموية المواجهات..كحادثة منوبة..والمركب الجامعي بتونس..وكلية صفاقس...ولذلك فان «العقدة» المذكورة لا توجد مثلا بنفس تلك الحدة عند الوجوه اليسارية التي درست خارج البلاد التونسية، وتتجه الإشارة هنا إلى انتهازية بعض الأطراف اليسارية الذين اعتقدوا أنه يمكن استباحة أية ممارسة من أجل مواجهة التيارات الإسلامية كإشاعة وجود أشرطة مصورة تؤكد أن رموز الإسلاميين يعتبرون أن كلمة ديمقراطية هي كلمة كفر. أو أن تتحول مجلة أو جريدة يسارية أو ذات ميولات يسارية من منبر للحوار والتفكير إلى مجال للسب والشتم... وهي لعبة أفلح فيها «جلاد الشعب» عندما أطلق بعض الأقلام ذات الميولات اليسارية أو حتى بعض الوزراء من اليسار مهاجمة للمد الاسلامي عبر المس حتى من مقدسات البلاد ليظهر «جلاد الشعب» بمظهر المعتدل الذي لا يرضى بما يأتيه اليسار ويتدخل لرد الأمور إلى نصابها بإقصاء اليساريين من المواقع التي وضعهم بها .. ثم يذهب أشواطا في قمع الإسلاميين. لذلك فإنني أعتقد أن هناك جيلا كاملا سوف لن يمكنه تجاوز هذه «العقدة» والمطلوب هو أن تتقدم الأجيال الأخرى أو الزعامات الأخرى وخاصة منها تلك التي لم تعش المواجهات الدامية لتمسك بزمام الأمور بالأحزاب اليسارية وكذلك بالأحزاب ذات المرجعية الدينية لكون سيناريو المواجهات التي كانت تحصل بالجامعة قد يعود إلى الظهور من جديد ولكن هذه المرة داخل المجتمع. في اعتقادكم هل تُؤمن التيارات اليساريّة في تونس فعلا بالفكر الديمقراطي؟ أعتقد أن اليسار التقليدي لا يتماشى ومتطلبات العمل الديمقراطي فاليسار الذي يسعى إلى الإطاحة بما يسميه «بورجوازية» أو لانجاز «ثورة العمال» أو لدفع المجتمع الى الدخول إلى المرحلة الأخيرة التي يراها سابقة لتنفيذ دكتاتورية البروليتاريا ... أو هذا الذي يجعل من الدين أفيونا ويدعو إلى الإلحاد ويستفز الوازع الديني عند الشعب المسلم فى غالبيته ... لا يمكن أن يكون يسارا ديمقراطيا ولا يمكن أن يؤسس لدولة عصرية مبنية على حق الاختلاف. ان التعصب فى اعتقادنا ليس رجعيا فقط بل هو كذلك يساريا..فبعض الأطياف اليسارية مثلا لا زالت تحلم بتنظيم العمال في حركة بروليتارية تمهد إلى انجاز ثورة العمال ضد رأس المال وتشجع على إفشال البنية الاقتصادية غير المبنية على أسس يمهد إلى قيام دولة العمال ، ان هذا المنحى نعتبره نحن فى اليسار الحديث منحى كارثيا مثله مثل منحى أقصى ما يمكن أن تذهب إليه الرجعية ونحن نعتبر أن كلاهما خطر على البلاد. يتّهم «اليسار» بأنّه أغلبي في تركيبة الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة من حيث تمثيل الأحزاب وخاصة الشخصيات الوطنية، هل من تفسير لعدم قدرة الهيئة في ظل هذه التركيبة على تحقيق الغاية التي أنشأت من أجلها وهو ما قد يُضاعف من مسؤوليات الأطراف اليساريّة؟ أعتقد أن فشل الهيئة العليا ليس وراءه لا اليسار ولا اليمين بل أن هذه الهيئة قد ولدت فاشلة .. فهي هيئة تم تكوينها على أساس الأحزاب والشخصيات «الموجودة» فى نظر من برمج للهيئة في منتصف شهر مارس 2011 وتم تعطيل عدة أحزاب لدى معالجة ملفاتها بوزارة الداخلية تحت تعلة إضافة تصريح على الشرف في عدم الحصول على جنسية ثانية بالنسبة للأعضاء المؤسسون في حين منحت التأشيرات لأحزاب أخرى يتمتع أصحابها بجنسيتين واحدة منها تونسية. لذلك فان هذه الهيئة التي كنا مساندين لبعثها من أجل اجتناب الفوضى والعمل من أجل ألا تتكون بكل حي لجنة لحماية الثورة تعمل بدون ضوابط وفي مواجهة مع لجان أخرى... قد تحولت لتغلق بابها على أبناء الثورة وعلى الأحزاب التي تم تعطيلها عمدا حتى تتخلف عن موعد اعتباطي هو منتصف شهر مارس 2011 وصارت الآن تنذر بالزج بالبلاد في حرب أهلية نظرا إلى كون الجميع تقريبا اقتنع بعدم جدواها...لكن في غياب هيكل آخر يتمتع بالحد الأدنى من الشرعية وبعد أن أصبح الشعب يشك في النوايا. لقد كنا حملنا رئيس الهيئة صلب بيان أصدرناه في شهر أفريل الفارط (تفضلت جريدتكم بنشره) المسؤولية التاريخية لما هو بصدد إتيانه وأكدنا أن عدم درايته بالشأن السياسي واقتصار تجربته على الأمور العلمية والأكاديمية سوف يدخل البلاد في بوتقة العنف ولربما يدخلها حتى الحرب الأهلية...إلا أن الانتهازية الضيقة ومحاولة سيطرة أهل مدينة معينة دون باقي البلاد على الحكم...في محاولة للثأر لماض قريب...وممارسة «الهواية السياسية» قد ذهبت بالأمور بعيدا فتحولت هيئة تحقيق أهداف الثورة إلى هيئة التفاف أو تجميد لأهداف الثورة. ان هذا اليسار الذي خرج لتوه من فترة قمع طويلة والذي لم يخض في غالبه التجربة التنظيمية ونحن نعتقد أنه قام كذلك بتقييم خاطئ لنهج الثورة....لم يكن بالقادر على فهم عمق الأمور ووقع في فخ محاولة افراع الثورة من محتواها، فاللجنة العلمية التي كانت تعمل من أجل دراسة مشاريع الإصلاح السياسي تحولت إلى لجنة لتحقيق أهداف الثورة في حين أن من يوجهها لا دخل له ولا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد بالثورة .ولذلك فان فشل الهيئة سيلحق ضررا بجميع من شارك فيها يمينا كان أو يسارا وأن محاولات تلميع الوجه التي تحصل الآن لا يمكن أن تغالط المواطن الذي تأكد من انتهازية بعض الأطراف التي أرادت في اتفاق مفضوح بينها أن «تسطو» على الثورة.