وجه في المرآة أطل من شباك بيته، فرأى وجهه في مرآة جارته الشابة التي تركت شباكها مشرعا على السماء. حرك له لسانه وغمز له بعينه ولاعب له حاجبيه، وعندما سمع خطى الجارة، هرب من وراء الشباك... لكن وجهه ظل هناك يسخر من خوفه، ويغمز للجارة الشابة... الشهيد وأنا أدخل باب الجبانة واجهتني الحفرة كجرح نازف منذ بدء الخليقة ، فذهبت أسأل حارس المقبرة عمن نبش هذا القبر . قال إن رجالا مهمين جاؤوا منذ يومين يجمعون بقية عظام شهداء الثورة ليدفنوها في مقبرة الاستقلال. فقلت له إن هذا قبر الحركي الذي دل جيش فرنسا على مكان اجتماع الثوار فهاجموهم على حين غرة وقتلوا هذا الذي مازال راقدا هنا تحت التراب بينما فر بقية رفاقه تحت جنح الظلام. قال : تشابهت علي القبور فأشرت عليهم بهذا ، وأشار إلى الحفرة التي حوت قبر الرجل الذي عاد الثوار فذبحوه بعدما غادر جيش فرنسا الحي وقال : لقد ضرب له ضابط ، سلام تعظيم ، بعدما غلفوا الصندوق الذي حوى رفاته بعلم الوطن . نظرت إلى قبر الشهيد الراقد في جبانة الغرباء وابتلعت لساني المعتقل عند الفجر، جاء العسس يدقون بأحذيتهم الغليظة أرض المعتقل . أفاق من نومه قبل أن يفتحوا عليه الباب ، وجلس يفرك عينيه بيديه اللتين كاد يجمدهما البرد . أشار له قائد المفرزة بالوقوف ، فوقف . ومشى رجال الشرطة العسكرية فمشى أمامهم . حين وصلوا ساحة تنفيذ الإعدام، رأى جمعا من السجناء مقيدي الأيدي والأرجل ومعصوبي الأعين ، فقال في قلبه : ما أكثرهم في هذا اليوم الشاتي. ولم يزد ، فقد اعتاد على عمله . ومد له قائد المفرزة السكين ، فبدأ في ذبح الرجال المكومين على الأرض واحدا وراء الآخر وهو يذكر اسم الله وراء كل رأس تقطع . الصندوق طوابير طويلة واقفة أمام الباب منذ الصباح الباكر تتدافع بالمرافق والمناكب و يتصايح أصحابها و كأنهم في يوم الحشر. ثم يدخلون الواحد وراء الآخر إلى قاعة فسيحة ملأى بالرجال المهمين. يختارون أوراقا حمراء وصفراء وبيضاء وخضراء وزرقاء وبرتقالية وبنفسجية ووردية ويمرون من أمام صندوق من البلور الشفاف، فيضعون الأوراق في قلبه ويخرجون من باب القاعة وهم ينظرون إلى القفل الأصفر الذي يغلق فم الصندوق على قوس قزح. في المساء يرفع الصندوق كالعريس على الأكتاف ، ويفتح القفل لعد الأوراق . والغريب في الأمر أن الرجال المهمين المكلفين بفرز الأوراق لا تتعبهم العملية ، فينجزون المهمة بيسر وسرعة لأن قوس قزح صار ذا لون واحد !!! لون رمادي كئيب ... عقرب وقف أمام الباب أكثر من مرة . كانت الحيرة تحوم في الجو ثم تحط فوق كتفيه كالرصاص المذاب . ترك الباب نصف مفتوح وعاد من جديد إلى الداخل .أشعل جهاز التلفزيون . أطفأه بعد دقيقة .وضع شريطا في المسجل . أخرجه قبل أن تصدح الموسيقى . تمدد على السرير . أغمض عينيه ، ثم فجأة قام .اتجه نحو الحائط وضربه بجمع يده . كان الألم الذي نبت فجأة في زنده ، تحت ساعة اليد فضيعا .كان يخزه باستمرار . يتوقف لحظة ثم يعود كأعنف ما يكون الألم . حك زنده حتى سال الدم ، وانتفخت الذراع . وعاد إلى الحائط يضربه بعنف ... ولم يتوقف عن الضرب ، إلى أن انهارت قواه . همس وهو يسقط تحت الجدار : ما أقسى لسعة هذه العقرب ... المائدة عندما يبدأ المؤذن في ترديد : الصلاة خير من النوم يا عباد الله ، تنفض عن وجهها النوم وتقوم واقفة . تغتسل وتصلي ، ثم تذهب إلى المطبخ فتعد له قهوة الصباح وتبدأ في تسخين الماء الذي سيغتسل به بعد عودته من وردية الليل داخل منجم الفسفاط عند الساعة السادسة تكون قد انتهت من أشغالها فتبدأ في إعداد المائدة تختار فناجين القهوة وتحرس دائما على أن يكون البراد نظيفا يلمع ببريق يخطف الأبصار. ثم تذهب إلى الحمام فتستعرض المنشفة و الغسول والصابون وترمق البخار المتصاعد من سطل الماء الساخن فيفتر ثغرها عن ابتسامة رضاء. بعدها تعود للجلوس أمام المائدة إلى أن تعوي صفّارة المنجم منادية فريق عمل الصباح فتقوم تفتح الباب للقادم من جوف الجبل . هذا القادم الذي نسي طريق العودة ...