لم يكد الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة يستفيق من "حلم" الوحدة مع ليبيا حتّى جاء الرد الجزائري سريعا وعنيفا... فقد أصدرت الجزائر على الفور بيانا قويا تندّد فيه بما وصفتها ب"الوحدة المرتجلة المتسرعة المصطنعة" بينما اختار الرئيس الجزائري هواري بومدين إجراء مكالمة هاتفية مقتضبة مع بورقيبة بدت جافة وقوية جاء فيها أنّ "الجزائر لا تمتطي القطار وهو يسير. لكن ما صنعته بالأمس مع القذافي ستكون له عواقب غير متوقعة بالنسبة الى المنطقة كلها". شعر بورقيبة بأنه تسرع في إعلان اتفاق الوحدة مع القذافي وأن هناك خطأ ما قد حصل في عدم استشارة الجزائر حول اتفاقه مع العقيد الليبي. تذكّر بورقيبة لحظتها يوم جاءه بومدين بنفسه أو عرض عليه الوحدة مع الجزائر ولكن جوابه كان بالرفض قائلا"إنّ الجزائر بلد ضخم بصحرائه ونفطه وغازه وشعبه. وأنا أخشى على تونس أن تبتلعها معدة الجزائر". سارع بورقيبة الى إيفاد وزير داخليته الطاهر بالخوجة والحبيب الشطّي، مدير الديوان الرئاسي آنذاك على عجل لدى الحكومة الجزائرية لتهدئة خواطر بومدين. لكن الرئيس الجزائري رفض اللقاء مع بلخوجة والشطي. وفوّض وزير الخارجية عبد العزيز بوتفليقة ووزير الداخلية أحمد المدغري بمقابلة مبعوثي بورقيبة والاستماع إليهما..وكان بومدين في قمة الغضب. وكان لغضبه هذا ما يبرره في رأيه فهو لم يكن يفوت مناسبة ليعبر فيها عن حبه لتونس منذ أن قدِم إليها في شبابه ليدرس اللغة العربية والعلوم الدينية، في جامع الزيتونة وقبل أن يعيش بين أهلها سنوات. وكان بومدين يعتقد أنّ تونس إن كان لها أن تتحد مع أي بلد، فإن الجزائر أولى بذلك وليس ليبيا أو غيرها. وحاول بلخوجة والشطي طمأنة المسؤولين الجزائريين، لكن دون جدوى. وكان عتاب بوتفليقة مختصراً في عبارة واحدة كرّرها على ضيفيه مراراً: "علاش ما قبلتوناش نحنا، ودرتو الوحدة مع القذافي؟". ولم يجد التونسيان جواباً شافياً عن سؤال بوتفليقة.وهما لم يكونا مقتنعين، أصلاً، بمسألة الوحدة مع ليبيا. وبدل أن يدافعا عن موقف رئيس بلادهما، فضّل الرجلان أن يُطمئِنا بوتفليقة بالقول له إنّ الجزائر ليس لها أن تخشى من هذه الوحدة شيئا. ويقول الطاهر بلخوجة عن هذا اللقاء إن طريقة استقباله هو والحبيب الشطي من قبل السلطات الجزائرية كانت مخالفة للأعراف الديبلوماسية. ويقول إن بومدين لم يستقبلهما وإن اللقاء اقتصر على وجود وزير الخارجية الجزائري آنذلك عبد العزيز بوتفليقة ووزير الداخلية حسين المدغري، مشيرا الى أن الجزائريين ألحّوا في الاشارة الى رفض بورقيبة اقتراح توقيع اتفاق وحدة معهم كانت قد تقدمت به الجزائر في الكاف عام 1972. عاد الشطي وبلخوجة من الجزائر ليخبرا بورقيبة بأنّ الجزائريين في قمة الغضب، وأنهم وضعوا جيشهم في حالة الطوارئ... لكن المشهد لم يكتمل هنا. فقد عاد الوزير الأول الأسبق الهادي نويرة للتو من زيارة الى ايران. وهو الذي لم يكن موجوداً في تونس، حين تم توقيع اتفاق الوحدة مع ليبيا، لذلك كان واضحا أنه لم يستسغ الاتفاق. ويقول الوزير الأوّل الأسبق محمد مزالي في كتابه "نصيبي من الحقيقة": حال عودته إلى تونس في نهاية زيارته الرسمية الى إيران حتى بادر الهادي نويرة بأخذ رأيي في الموضوع كما فعل ولا شك مع بقية زملائه. فأكدت من جديد معارضتي للحدث لما اتسم به من تسرع وارتجال مع أنني من أنصار توحيد المغرب العربي عندما ينجز بطرق عقلانية طبعا". بادر الهادي نويرة على الفور بتحذير بورقيبة من غضب الجزائر ولفت انتباهه الى الانزعاج الغربي وخصوصا الفرنسي والأمريكي من الوحدة مع القذافي. وحذّره من أنّ خطوة كهذه قد تؤدي الى فقدان مساندة الغرب للنظام. سكت بورقيبة برهة من الزمن وبدا أن أسئلة كثيرة قد بدأت تتزاحم في ذهنه بعد أن بدأت الاعتراضات على اتفاقه مع القذافي تكبر ككرة الثلج. ولم يعد يجد الى جانبه سوى وزير الخارجية محمد المصمودي. وقال المصمودي لبورقيبة: "إن كان لا بدّ من أن نتحدى الجزائر، فليكن. إنّ الوحدة مع ليبيا تستحق المخاطرة من أجلها". لكن بورقيبة أجابه قائلا: "الكلام سهل، والفعل صعب!". وإلى حلقة قادمة