في الثلث الأخير من رمضان تخرج مواكب الإيمان في الثلث الأخير من الليل إلى رحاب المساجد لتشهد لحظات غالية في زمن الدنيا الرخيص، تتسامى فيها الروح إلى الملاء الأعلى على معارج الخشوع، ومصاعد السجود والركوع، لحظات خصبة تهتز فيها النفس وتربو فتنبت من الخيرات من كل زوج بهيج، لحظات تزهر فيها النفوس، وتلين فيها القلوب، وتذرف في رياضها العيون، وتسكن في روابيها الجوارح، ويجتمع فيها شعث الروح، ويطير فيها الفكر على جناحي الخوف والرجاء متأملاً في المصير المنتظر. إن الحياة طريق إلى الله وهذه الطريق طويلة، فقام أهل العزم والشوق هذه اللحظات يقربون المسافة بينهم وبين وجهتهم، مستغلين خلو الطريق من المارة: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل)، والطريق إلى الله شاقة فقاموا في هذه اللحظات يخففون من مشقتها بالتزود من بركات هذه الأوقات وخيراتها، منتهزين غناها وفضلها، وقوة تأثيرها في تذليل الصعوبات. والطريق إلى الله كثيرة المخاطر فنهضوا هذه الساعة سائرين مستغلين هجعة لصوص هذه السبيل، داعين الله بالثبات عليها، والنجاة من قطّاعها، والنهار فيه حرارة وصخب وازدحام وانشغال بال فقاموا هذه اللحظات لطيب نسيمها وهدوئها، وتفرغ البال وصفاء الذهن، وسكون القلوب وخضوع الجوارح. والنهار انتشار ورؤية وابتداء انطلاقة وسعي، وهم يريدون أن يراهم من في السماء وحده، وأن يسبقوا ابتداء الناس، وأن لا يكونوا مساوين، أو متأخرين عليهم، فقاموا تلك الساعة ليراهم لا ليروهم، وقاموا في تلك الساعة مسارعين ليكونوا من المتقين ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: 133]. تنطلق تلك الأقدام عجلى تحمل أجساداً تحذر الآخرة، وترجو رحمة ربها: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [الزمر: 9]، تتجافى جنوب أولئك الركب الطاهر عن المضاجع والفراشُ وثير، والأنيس ودود، والنوم لذيذ، والبرد شديد، ولكن الشوق إذا سما لا تهبطه نوازع المحابِّ الصادة، والمكاره الرادة، والغاية متى عظمت فما في الدنيا شاغل عنها ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [السجدة: 16]، وينطلقون إلى محاريب العبادة فيمرون على أقوام في أحضان النوم غاطين، أو في راحات الغفلة سادرين، فيقولون: من يوقظ هؤلاء النائمين والغافلين؟! استيقظ النبي صلى الله عله وسلم ليلة فقال: «سبحان الله! ماذا أنزل الليلة من الفتن، ماذا أنزل من الخزائن، من يوقظ صواحب الحجرات؟ يا رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة».