يحتفل المسلمون هذه الليلة بليلة القدر المباركة. إنها الليلة التي أُنزل فيها القرآن على سيدنا محمد (صلعم)، حسب ما يتّفق عليه العلماء. ولقد ذكر القرآن ليلة القدر وخصّها بسورة هي سورة القدر: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾. بل إن القرآن عظّمها: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾ وأبرز وزنها الذي يساوي أكثر من ألف شهر: ﴿خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾، أي ما يفوق 83 سنة وأربعة أشهر. ويزيد القرآن فيؤكد على قيمة ومزيّة هذه الليلة في سورة الدّخان (آية 3 و4): ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ. فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾. وتكتسي لفظة «القدر» التي وردت 3 مرات في سورة القدر معاني متعدّدة ومتقاربة ممّا يفتح، في ذات الوقت المجال أمام تنوّع التفاسير، ويدعو إلى القيمة الفارقة لهذه الليلة. فكيف يمكننا فهم القدر؟ القدْر هو القيمة والشرف أي أنه وقع تشريف هذه الليلة على كل الليالي الأخرى. والقدر من التقدير أي أنه يقع تحديد وتقدير الأمور خلال هذه الليلة. والقدر كما يرى بعض المفسرين هو التّضييق لأن الأرض في هذه الليلة تضيق بالملائكة الذين يتنزّلون على الأرض لكثرتهم. ويعتمد هؤلاء المفسرون في ذكر معنى التضييق على الآية الكريمة من سورة الفجر: ﴿وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ﴾. وذهب مفسّرون آخرون إلى مقاربة بين القدْر والقدَر (بفتح الدّال) ليعطوا إلى ليلة القدْر معنى ليلة القدَر، أي اللّيلة التي تُقدر فيها الأحكام المستقبلية وتكتب فيها المقادير وتحدّد فيها الأرزاق والآجال والتدابير الإلهية، اعتمادهم في ذلك على ما ورد في سورة الدخان (آية 4): ﴿وفِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾. ولعل هذا التوجّه في التفسير كان الغالب مما دفع بالمترجمين إلى اختيار عبارة (destin) لترجمة ليلة القدر إلى الفرنسية (La Nuit du Destin). فليلة القدر إذن هي ليلة فارقة مشرّفة وعظيمة، وهي تتصل في الفكر الإسلامي بسلسلة الليالي المباركة التي أُنزلت فيها كل الكتب المقدسة. ففي حديث للنبي (صلعم) رواه قتادة عن وائلة قال: «أُنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لستّ مضين من رمضان، وأُنزل الزّبور لاثنتي عشر من رمضان، وأُنزل الانجيل لثمان عشر خلت من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين مضت من رمضان». أي ليلة إذن هي ليلة القدر؟ عن أبي سعيد الخذري رضي الله عنه أن النبي (صلعم) قال: « إِنِّي أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ ، ثُمَّ نُسِّيتُهَا أَوْ أُنْسِيتُهَا ، فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ من كلّ الْوَتْرِ». وفي حديث آخر أخرجه أحمد والترمذي والحاكم قال (صلعم): «الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ أو فِي تسع تبقين أو خمس تبقين أو ثلاث تبقين، أو آخر ليْلة». هل أراد النبي (صلعم) إخفاء ليلة القدر حتى لا يتصرّف المسلم بانتهازية ويكتفي بعبادة ليلة واحدة؟ أم هل أراد إخفاءها حتى يبقى المسلم في حالة صحوة روحانية دائمة ويعيش في علاقة ثقة مع اللّه؟ إن الرسول يدعو كل منّا أن يختلي بنفسه ليُلقي نظرة مختلفة على ذاته وعلى العالم الذي يحيط به. إنها دعوة للاحتفال بتلك اللحظات بالصلاة والتأمل والذّكر في سكون الليل حتى نشهد نور القرب من اللّه. فإذا أثمر سعينا إلى السّكينة وتزامن بحثنا عن سلامنا الداخلي مع أنوار ليلة القدر المباركة فإننا سنفوز قطعا عندها بثلاثة وثمانين سنة وأربعة أشهر من العبادة وقراءة القرآن والذّكر والقرب من اللّه. يقول الامام القشيري: «الليلة المباركة هي الليلة التي يكون العبد فيها حاضرا بقلبه، مشاهدا لربّه، يتنعّم فيها بأنوار الوصلة. ويجد فيها نسيم القربة».