توفي الهادي نويرة بعد فترة وجيزة من تلك الاحداث بعد أن ساءت حالته الصحية بصورة مفاجئة... وتم تعيين محمد مزالي خلفا له في منصب رئاسة الوزراء...كانت الأجواء ثقيلة للغاية في تلك المرحلة... وكانت العلاقات التونسية الليبية تكاد تكون مقطوعة. استمرت العلاقات بين البلدين على هذا المنوال، في وقت كانت فيه الأنباء تتصاعد في الجهة المقابلة عن وجود مخطط فرنسي لضرب ليبيا. يقول قذاف الدم ابن عم العقيد الليبي معمر القذافي في شهادته انه «لهذا السبب ذهبت إلى تونس، و«التقيت هناك بالسيدة وسيلة بورقيبة، التي كان لها نفوذ قوي في القصر الرئاسي أين كان يوجد أيضا الهادي مبروك، سفير تونس لدى فرنسا، الذي أصبح فيما بعد وزيرا لخارجية بلاده. ويضيف «تكلمت مع وسيلة بورقيبة والمبروك بشأن الزيارة التي كنت قد قمت بها لباريس، بسبب أحداث قفصة وتداعياتها»، وقلت: «لماذا تستعينون بالقوات الفرنسية؟ وتحدثنا مطولا واتفقنا على أساس أن نطوي هذه الخلافات». وفي هذا اللقاء - يقول قذاف الدم - دعتني السيدة وسيلة بورقيبة لزيارة تونس مجددا.. وبالفعل، لم يمضِ وقت طويل حتى عاد قذاف الدم إلى هناك مرة أخرى الى تونس، والتقى هذه المرة ب«بورقيبة» الذي كانت صحته قد بدأت تسوء. وفي هذه الزيارة - يقول قذاف الدم - «التقيت أيضا مع رئيس الوزراء التونسي، ومعه وزير الخارجية الذي كان في ذلك الوقت هو الباجي قائد السبسي، وكان إدريس قيقة وزيرا للداخلية، وهؤلاء كانوا مُصرين على أن تعيد ليبيا لتونس وثيقة الاتحاد الموقّعة بين البلدين، ظنا منهم أنه في حالة وفاة الرئيس بورقيبة ستستخدمها ليبيا لفرض الوحدة بالقوة على تونس.. وحدث نقاش كثير حول هذه النقطة.» استمرت اللقاءات والمناقشات بشأن هذه الوثيقة وحق تونس في استعادتها، عدة أيام، وفي عدة مواقع في العاصمة، منها القصر ومجلس الوزراء وغيره.. ويتذكر قذاف الدم: «قلت في أحد تلك الاجتماعات إن هذه الورقة هي الشيء المضيء الوحيد في تاريخ العلاقات الأفريقية. فردوا: نحن مستعدون لكل أنواع التعاون، لكن الورقة لا بد أن تعود، لأن الرئيس مُصرّ على ذلك، وهو غاضب من هذا الموضع.. ولا حديث إلا باستعادة الورقة». يقول الوزير الأوّل الأسبق محمد مزالي في شهادته: «ما إن كلفت بتنسيق العمل الحكومي يوم السبت أول مارس 1980، حتى جاءني يوم الاثنين 3 مارس، حمادي الصيد مستشار الشاذلي القليبي الذي أصبح آنذاك أمينا عاما لجامعة الدول العربية وقد نقل بعد مقرها إلى تونس واقترح علي أن أكلفه بمهمة شبه رسمية لدى القذافي لمحاول رتق الفتق بين القطرين وأعلمني أن السيدة وسيلة بورقيبة موافقة على هذا التمشّي فرفضت العرض مدللا على أن اتصالات حسن الاستعداد لم تتوفر وأنه من الأحسن أن تواصل بالطرق الدبلوماسية ولم يخف الصيد خيبة أمله وأعاد الكرة رغم ذلك يوم 8 مارس دون نتيجة». وبينما كانت العلاقات التونسية الليبية تتجه شيئا فشيئا نحو التهدئة حدث ما لم يكن في الحسبان...ثلاثة ضباط من أعضاء مجلس قيادة الثورة في ليبيا من أبرزهم الرواد عمر المحيشي وبشير هوادي وعوض حمزة، مع مجموعة من الضباط الأحرار يقومون بمحاولة انقلاب على القذافي، الذي ألقى القبض على أغلبهم، لكن المحيشي هرب إلى تونس. يقول مزالي: «كان عمر المحيشي قد وصل الى تونس قبل تعييني وأعلمتني المصالح المختصة ان القذافي يسعى إلى اغتيال رفيقه القديم مقابل بضعة ملايين من الدولارات... بينما كان المحيشي حينها يقيم بفندق خليج القردة بقمرت. يضيف مزالي: ذات يوم ذهب المحيشي إلى نزل السندباد مع حرسه الخاص لتناول الغداء فصادف أن رأى وزيرا وزوجته يتغديان فانهال عليه يشتمه وينعته بعميل الامبريالية والصهيونية فاضطررنا لإدخاله المستشفى العسكري في تونس وتلافيا لتعكير الجو مع القذافي عندما يكتشف أن معارضه يقيم في تونس –يقول مزالي- «كلفت أحمد بالنور كاتب الدولة للأمن الوطني بالذهاب إلى المغرب طالبا من السلطات المسؤولة الموافقة على نقل المحيشي إلى هذا البلد الشقيق». ويقول ان هذه المهمة كللت بالنجاح وتم نقل المحيشي إلى المغرب على متن طائرة خاصة تولى المغاربة تأجيرها ورافقه فريق صحي، ومن حظه السيء تم بعد أربع سنوات، أي في 13 أوت 1984، إمضاء اتفاق وحدة بين المغرب وليبيا لم تعمر طويلا كالعادة، وحمل المحيشي على متن طائرة خاصة كان في ظنه أنها تقله إلى مكة للقيام بمناسك العمرة. ولكن طائرته حطت بسبها بليبيا. وحين رأى المحيشي مجموعة من الشرطة الليبية كانت تستعد لإلقاء القبض عليه أصيب بشلل نصفي ليتم القبض عليه على الفور فيما «قبض» الحسن الثاني في المقابل ثلاثمائة مليون دولار ثمنا ل«رأس» المحيشي... أضافت هذه الواقعة سحابة أخرى الى سماء العلاقات التونسية التي بدا انها دخلت مرحلة هي الأصعب في تاريخها بعد أن كانت الى أمس قريب على وشك أن تتحوّل الى «وحدة حقيقية». وإلى حلقة قادمة