في كتاب «التواريخ» يخصص هيرودوت، جزءا يتناول ليبيا «، يورد فيه قصة ذات طابع رمزي تقول إن الرياح الجنوبية العاتية الآتية من عمق الصحراء الليبية، جففت جميع الآبار فتشاور أهل البلاد ، ثم زحفوا كتلة واحدة، يشنون الحرب على الرياح الجنوبية، في منابتها، في أغوار الصحراء، وكانت النتيجة أن دفنتهم تلك الرياح تحت رمالها. الصراع مع الصحراء ورياحها طبع حياة جميع الليبيين منذ فجر التاريخ، وكان هذا الصراع حاسما في صوغ حياتهم وتاريخهم وتراثهم وانعكس الصراع على شخصياتهم، ولم يكن غريبًا أن يطلق القذافي، على نفسه «رسول الصحراء»، وأن يضع شعارًا لحكمه يقول «الخيمة تنتصر على القصر»، محاولا بذلك التعبير عن انتصار القيم البدوية البدائية على قيم المدنية والحضارة والعمران التي تميزت بها مدن الساحل الليبي، والتي كانت تقود المجتمع، وتستأثر بتقديم الطلائع المستنيرة، صاحبة المساهمات العالمية و الأدبية التي عرفتها ليبيا عبر التاريخ ، وهي الدولة التي استطاعت خلال أقل من عقدين من السنين أن تحيل صندوق الرمال الذي يسمى ليبيا إلى بلد ناهض. ومع الولادة العسيرة للاستقلال، وفي ظروف شديدة الصعوبة والتعقيد، تم تصنيف ليبيا عند استقلالها في 24 ديسمبر 1951 كأفقر دولة في العالم، حتى أنها عجزت عن وضع ميزانية إلا بمساعدات خارجية بلغت خمسة ملايين دولار، بينما لم يكن هناك اطارات و لا عناصر مؤهلة، ولم يكن هناك ليبي واحد يحمل شهادة جامعية في الطب أو الهندسة أو المحاماة، وكانت نسبة الأمية 95 بالمائة ومجموع خريجي الجامعات 15 شخصًا، من مجموع عدد السكان، الذي كان يناهز آنذاك مليون نسمة. في قلب هذا الصراع مع الصحراء ولد القذافي و عاش ضمن أسرة فقيرة معدمة, وكان والده يشتغل بالرعي ويكثر التنقل بين سرت ومناطق جنوب ليبيا. وبسبب فقر أسرته, وعدم انتشار التعليم على نطاق واسع - وخاصّة خلال السنوات المبكرة من استقلال البلاد – لم يتمكن الطفل معمّر من الالتحاق بالمدرسة الابتدائية ببلدة « سرت» إلا في عام 1954. يقول والد معمر القذافي في مقابلةٍ أجرتها معه الكاتبة الإيطالية «ميريلا بيانكو مؤلفة كتاب « القذافي رسول الصحراء «: « أرسلته إلى المدرسة، رغم ما كان ينطوي عليه ذلك من تضحيات ... لقد كنا فقراء جداً»، أما معمر القذافي نفسه فيتطرق الى ذلك بمزيد من التوضيح خلال المقابلة الصحفية التي أجراها معه كل من الدكتور أحمد صدقي الدجاني وإبراهيم الغويل ونشرت في صحف « البلاغ» الليبية و « كل شيء» اللبنانية ( العدد 894) يوم 1/9/1973 ( كان من بين الحاضرين لتلك المقابلة الرائد بشير هوادي والرائد عمر المحيشي عضوا مجلس قيادة الثورة) ولم تكن هناك في «النجع» مدرسة.. ولكن كان هناك الفقيه يتنقل بين النجوع، فيأتي ويمكث معنا فترة.. وعلى يديه تعلمت القراءة والكتابة والأرقام, وحفظت ما تيسّر من القرآن الكريم.. ولقد تأخر دخولي للمدرسة.. ذهبت إلى سرت أوّل مرة كي أدخل، فوجدت الطلاب يمتحنون في نهاية العام.. لم نكن نعرف متى يبدأ العام الدراسي ومتى ينتهي.. وجئنا للقصر « منطقة قصر بو هادي « في المرّة الثانية, وبعنا العنز ثمّ ذهبت إلى المدرسة.. كان ذلك حوالي «[عام» 1954.. وكانت المدارس تتساهل في القبول لقلة عدد من يدرسون, وأدخلت الصفّ الثاني لمعرفتي بالقرآن». ويصف القذافي خلال المقابلة نفسها بعض ما كان يعانيه من ازدراءٍ وسخرية داخل المدرسة: « كان حافزي على التعليم كبيراً, خاصة حين جابهني طلاب المدرسة بتعليقات يسخرون فيها من العربي القادم من البادية.. كانوا يقولون: عربي كعكاص..لبَّاس مداس, خليك من القراءة.. وامش ارعى..» ويبدو أن معاناة التلميذ معمّر لم تكن تقتصر على ما كان يواجه من تعليقات ساخرة من بقية التلاميذ في مدرسة سرت الابتدائية، فقد كان لهذه المعاناة أوجه أخرى كشفت عنها مؤلفة كتاب» القذافي رسول الصحراء» من خلال ما نسبته إلى ابن عم معمر القذافي «مفتاح على السبيع القذافي» في وصف هذه المرحلة حيث يقول في روايته: « تعرفت على القذافي عام 1955 يومها كنا طالبين في مدرسة سرت الابتدائية، كان هو في الخامسة وكنت في السنة الثانية، كنا ثلاثة أو أربعة من البدو ينظر إلينا الباقون على أننا بؤساء, وكنا فقراء لدرجة أننا لم نكن نتناول طعاماً أثناء الاستراحة..» ومن الواضح أنّ مأساة التلميذ معمر القذافي لم تقتصر على تأخّر التحاقه بالمدرسة الابتدائية، فقد اضطرّ إلى الانقطاع عن الدراسة أكثر من مرّة بسبب ظروف والده أو ظروف عائلته، «وسجل بالصف الثالث فترة قصيرة ليترك الدراسة من جديد مضطراً لمرافقة والدته إلى فزان.» يحكي قذاف الدم عن عائلةالقذافي، باعتباره ابن عمه وكيف كانت نشأته منذ الصغر، وأن أسرته قد نزحت هروبا من الإيطاليين في بداية القرن الماضي إلى صحراء تشادالجنوبية، وهو الوقت الذي لم يكن القذافي قد ولد فيه بعد، وكيف استقرت العائلة هناك في صحراء سرت الجنوبية، ثم انتقل إلى الحديث عن الفترة المبكرة من حياة القذافي والتي كان فيها طالبا، حيث انتقل إلى «سبها»؛ لاستكمال دراسته، وتحدث طويلا عن السمات الشخصية للقذافي وكيف كان خجولا، منطويا دائما على نفسه، يحب القراءة، والاستماع إلى المذياع، لاسيما إذاعة صوت العرب المصرية. ويتحدث قذاف الدم عن القذافي في صباه حيث كان يستمع إلى العديد من حركات التحرر لاسيما المناضل الإفريقي باتريس لومومبا، الذي كان أول رئيس وزراء منتخب للكونغو أثناء الاحتلال البلجيكي لبلاده، والذي جرى إعدامه 1961، ومن هنا قاد القذافي العديد من المظاهرات مع زملائه من الطلاب ضد معسكرات الاحتلال في بلاده؛ حتى أنهم أطلقوا عليه لقب «قائد الاضطرابات». فإلى حلقة قادمة