وإليكم اليوم قصة جميلة أخرى من قصص حب الزمن الجميل !زمن الحب العفيف اللطيف المشهور... وزمن الشعر والشعور والقصور ! والحب في ذلك الزمن الخالد هو حب متفرد في الشكل والمحتوى ...في العمق والبهاء ...في الصدق والوفاء ...وحتى في الغيرة والهجر والفراق والمحنة النكراء ! وإذا خلدت إلى كتب التراث تستلهم منها أجمل القصص وأروع القصص فإنك حتما ستعيش لحظات عذبة مع قصة الاميرة ولادة بنت المستكفي والوزير الشاعر ابن زيدون ! فهل تريدون أن تقرؤوها معي - كما فعلت- على شاطئ البحر حيث الطقس جميل والهواء عليل؟ الأميرة الشاعرة قال ابن بسّام عن ولادة بنت المستكفي:" كانت وحيدة نساء زمانها حسن منظر وحلاوة مورد ومصدر وكان مجلسها بقرطبة منتدى لأحرار المِصر، وملعباً لجياد النظر والنثر، يعشو أهل الأدب إلى ضوء غرتها ويتهالك الشعراء والكتّاب على حلاوة عشرتها..) إلخ ما ورد في كتابه (الذخيرة 1/376 ) وولادة هي إحدي الشاعرات الشهيرات في تاريخ الأندلس الذي يزخر بالعديد من النساء النابغات في الشعر والفنون مثل حسانة التميمية وأم العلا, وبالرغم من الأحداث الجسيمة تبوأت المرأة مكانة سامية في مسيرة تلك الأحداث, متألقة في الفكر والإبداع, ومرموقة في ظل جمالها وفتنتها وزينتها, وكذلك ثقافتها. ولقد عاشت ولادة في غرناطة ثراء وبذخ الأميرات والكبرياء التي لا يقهرها إلا الحب,.. ولقد ولدت عام1001 ميلادية. كان لولادة صاحبة الجمال والدلال، (صالون أدبي بقرطبة) لم يحضره أديب أو شاعر إلا هام بها فهي تذكرنا (بمي زيادة) في العصر الحديث.. غير أن حياة (ولادة) أكثر سعادة ومرحاً وإثارة من حياة (مي) فقد كانت ابنة حاكم قرطبة، وعاشت طويلاً، وهام بها كثيرون أشهرهم ابن زيدون الذي أحبها بكل جوارحه وقال فيها أجمل أشعاره ومنها روائعه: (إني ذكرتك بالزهراء مشتاقاً والأفق طلق ووجه الأرض قد راقا) ودّع الصبر محبٌ ودّعك ذائع من سرِّه ما استودعك) (أضحى التنائي بديلاً من تدانينا وناب عن طيب لقيانا تجافينا) ولقد تنافس على حب هذه الأميرة الجميلة كثيرون، ولكن أشهر من نافس ابن زيدون في حب ولادة هو (ابن عبدوس) وهو وزير كابن زيدون ولكن الأخير شاعر مبدع فكاد له (ابن عبدوس) وكذب عليه حتى سجن ابن زيدون، وحين خرج أبدع رسائل الهجاء في ابن عبدوس والذي يظهر أن ولادة كانت سعيدة بهذا التنافس في حبها تذكي ناره بدلالها وتشعل النار في قلوب عشاقها، وقد أضيف لها كثير من الروايات المختلفة وحيكت حولها القصص وربما قيل الشعر على لسانها مثل: (أنا والله أصلح للمعالي وأمشي مشيتي وأتيه تيها وأمكِّن عاشقي من صحن خدي وأعطي قبلتي من يشتهيها) فالبيت الثاني لا يمكن أن تقوله امرأة عربية وقد أوردناه لننفيه لأنه سائر مشهور ! الوزير العاشق من خلال مجلسها في صالونها الأدبي -إذن- أعجب بها الوزير ابن زيدون, فقد كان أحد المترددين عليه وهو يحظي بمكانة مرموقة في المجتمع, وكان وسيما ذكيا مرهف القلب, حباه الله بموهبة شعرية فذة وقدرة أدبية متميزة, وابن زيدون هو الوزير العاشق أحمد بن عبد الله بن أحمد بن غالب بن زيدون المخزومي, أعجب بولادة وبادلته الإعجاب الذي تحول إلى حب جارف من خلال لقاءات الصالون الساهرة. ولقد أشعل قريحته ليبدع أشعارا ملتهبة ومساجلات رائعة كانت بمثابة مفاجأة وتساؤلات وردود على أشعارها أضافت آفاقا جديدة على حركة الفكر الأندلسي في ذلك العهد الذي ختم فيه العصر الأموي ملكه وبدأ عصر ملوك الطوائف, وقد وصل الحب الجارف بينهما وبلغ هيامها به إلى أنها كانت تطلب اللقاء وتتعجله تحت جنح الظلام وقد نظمت أبياتا من الشعر في ذلك.. كما كان لولادة جارية سوداء لاحظت ولادة ميل ابن زيدون لها, فغارت منها لكنها أعلنت في الوقت نفسه ثقتها بنفسها فكتبت اليه تقول: لو كنت تنصف في الهوي ما بيننا لم تهو جاريتي ولم تتخير وتركت غصنا مثمرا بجماله وجنحت للغصن الذي لم يثمر ولقد علمت بأنني بدر السما لكن ولعت لشوقي بالمشتري وقد اشتعل حب ابن زيدون واستعر في الوقت الذي تحطم حبها له حيث كان يتصرف بالخيلاء والتعالي ويتطاول عليها وهو الأكثر شاعرية والأعظم شهرة, وقد شعرت بأنه اتخذ منها منافسة قوية لتتحول العلاقة إلى المجابهة لا التكامل بين رجل عاشق وامرأة تفيض جاذبية بأنوثتها! بعد أن كان الإخلاص والثقة المتبادلة أساس علاقة الحب بينهما, زاده الشوق والود والوصل والنقاء ولم يعكر صفو ذلك كله إلا عاشق آخر وقع في حب الأميرة الفاتنة وهو الوزير أبو عامر ابن عبدوس الذي سعى لدس المكائد لمنافسه ابن زيدون صاحب الحظوة عند ولادة حتى يقصيه عن طريقه إليها, واستطاع أن يقصيه من الوزارة عندما أوقع به عند الملك أبي الحزم بن جهور أول ملوك الطوائف في حكم الأندلس ولم يكتف ابن عبدوس بذلك بل وصل الأمر حتى زج بابن زيدون في السجن حيث عانى خلاله القهر الذي رقق وجدانه وصقل نفسه وأحس فيه بالأسى. وقد خلا له الجو في الاستئثار بالفاتنة ولادة, وتقول كتب التراث: ومرت ولادة بالوزير ابي عامر بن عبدوس, وأمام داره بركة تتولد عن كثير الأمطار, وربما استمدت بشيء مما هنالك من الأقذار, وقد نشر أبو عامر كمية, ونظر في عطفيه, وحشر أعوانه اليها , فقالت له: انت الخصيب وهذه مصر فتدفقا, فكلاكما بحر! وعلى الجانب الآخر كان ابن زيدون يفكر في الهروب من السجن بعد أحداث متتالية في قرطبة ليتمكن من الهرب لاجئا إلى أشبيلية التي كانت تخضع لحكم الملك المعتضد بن عباد الذي أحاط ابن زيدون برعايته وقربه إليه وزاد في كرمه, وظل ابن زيدون على حبه لولادة التي صرفت الأنظار عنه وجفت عواطفها نحوه فبعث بقصيدته الشهيرة من أشبيلية إليها في قرطبة يقول فيها مناجيا متحسرا, وشاكيا معاتبا مستعطفا في قصيدته النونية الشهيرة والتي تعتبر من غرر الشعر العربي: أضحى التنائي بديلا عن تدانينا وناب عن طيب لقيانا تجافينا ألا وقد زال يضحكنا أنسا بقربهم قد عاد يبكينا غيظ العدا من تساقينا لم تلق هذه الأبيات أي رد فعل أو قبول أو استجابة في قلب ولادة حيث أصبحت قصة حب ابن زيدون وغرامها له مجرد ذكرى برغم ما خلفه هذا الحب العنيف من أثر في نفسيهما, وقد بقي مستعرا عند ابن زيدون لدرجة أنه كان يعتبر حياته فراغا قبل علاقته بولادة وأصبحت بحبها وامتلاكه لقلبها حياة سعيدة هانئة حقق فيها أمجاده الفكرية والأدبية, والسياسية أيضا, فقد كان يؤرخ لحياته بهذا الحب الطاغي ليلازمه سوء الحظ في مأساته وعذابه المرير وتحول أيامه إلى الكآبة من بعدها ليعيش الصراع النفسي الرهيب واقترانه ببعده عنها وإعراضها عنه. عمرت ولادة طويلا وبلغت قرابة الثمانين عاما ولم تتزوج, وتوفيت في شهر صفر من عام480 هجرية وقيل عام484...أي عام 1091م لقد توفيت ولادة وبقيت ذكراها مع ابن زويدون خالدة...ولم تتزوج " ولادة " طيلة حياتها وهو ما يؤكد قول العالمة المصرية " د.عائشة عبد الرحمن " ( بنت الشاطئ ) عنها :عاشت ولادة بعد وفاة "ابن زيدون" الذي حزنت عليه كثيرا .