السماحة والتسامح من أعظم خصائص الشريعة الإسلامية عموماً، فقد جاءت رسالةُ النبي صلى الله عليه وسلم بالسماحة والتسامح، والصَّفح، وحسن التعايش مع كافة الناس بصرف النظر عن معتقداتهم أو ألوانهم أو أعراقهم، إذْ تعاملت مع الجميع على حدٍّ سواء دون أدنى تمييز. إنَّ السماحة والتسامح يُعدُّ في الرسالة المحمدية منحةً إلهيةً رفَعَ اللهُ بها شأنَ هذه الرسالة الخالدة، وسِمَةً بارزة من سماتها، بل هو سلوكٌ حضاري إسلامي، يحفظ للأمة المحمدية توازنها، واعتدالها وخيرِيَّتها، وقد جسَّده النبي صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله، مع أصحابه، والمشركين، واليهود والنصارى، وعموم أعدائه، فكان تعامله صلى الله عليه وسلم مع البشرية جمعاء مثلاً يُضرب في العفو والصفح والإحسان والعدل والسماحة والتسامح؛ لذا اكتسبت رسالته صفة القبول والمحبة لدى الناس الذين لمسوا منه هذه الأخلاق الرفيعة. والتسامح خُلُقٌ شامل تنضوي تحته عدَّة أخلاق أخرى، تُعدُّ مظهراً من مظاهر هذا الخلق العام ومن ذلك الرحمة، والرأفة والتعطُّف، والسلام الذي يُعدُّ الشِّعار الأول للإسلام والمسلمين، والعدل والإحسان، والعفو والصَّفح عن المسيئين وبخاصة عند القدرة على الردِّ، والاعتدال وعدم التَّشدُّد، ونبذ التَّعصُّب في صوره الجاهلية كلِّها؛ كالتعصب للجنس، أو اللون، أو اللغة، أو النسب أو غيرها من عَصَبيات الجاهلية. إنَّ السماحة في الإسلام جاءت للدلالة على عدَّة أمور: أوَّلاً: كون السماحة أصلاً لهذا الدِّين: حيث ربط النبيُّ صلى الله عليه وسلم بين السماحة وبين أصل الدِّين الإسلامي، إذْ جعلها في العديد من أحاديثه وَصْفاً مُلازماً، ومن ذلك: ما جاء عن أبي أُمامةَ - رضي الله عنه - أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ بِالْيَهُودِيَّةِ وَلاَ بِالنَّصْرَانِيَّةِ، وَلَكِنِّي بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ). فرسالة النبي صلى الله عليه وسلم رسالة حنيفيَّة أي: مائلة عن الباطل إلى الحق، ورسالة سمحة أي: سهلة يسيرة؛ فكل حياته صلى الله عليه وسلم وتشريعاته وإرشاداته قائمة على اليُسر والسماحة والتخفيف على أُمَّته. وما جاء عن ابن عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أي الأَدْيَانِ أَحَبُّ إلى اللَّهِ؟ قال: (الْحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ). ثانياً: كون السماحة خُلُقاً من أخلاق هذا الدِّين: إذ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد حثَّ على السماحة والتسامح وأمر بهما وبالتزامهما سلوكاً لأفراد المسلمين وجماعاتهم، بل ورغَّب فيهما بما رتَّب على التزامهما من ثوابٍ وجزاء في الدنيا والآخرة: عن جَابِرِ بن عبد اللَّهِ - رضي الله عنهما؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: (رَحِمَ اللهُ رَجُلاً سَمْحًا. إذا بَاعَ، وإذا اشْتَرَى، وإذا اقْتَضَى). ومن الشواهد المهمة في تأثير السماحة على المدعوين: تعامل تجار المسلمين بالسماحة والتسامح في مجال البيع والشراء والمعاملات الأخرى، وحسن خُلُقِهِم مع الناس مِمَّا كان له بالغ الأثر في انتشار الإسلام في ربوع كثيرة من الدول في بداية انتشار الرسالة، وكان التسامح عاملاً أساساً ومهماً في نشر دعوة الإسلام في القارات. روى أبو هُرَيْرَةَ قال: قال رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (أَدِّ الأمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ). وهذا معناه - عند بعض العلماء: لا تخن مَن خانك بعد أن انتصرت منه في خيانته لك، كأنَّ النهي إنما وقع على الابتداء، وأما مَنْ عاقب بمثل ما عوقب به، وأخذ حقَّه فليس بخائن، وإنما الخائن مَنْ أخذ ما ليس له، أو أكثر مِمَّا له). الخطبة الثانية انَّ السماحة والتَّسامح تُمَثِّلان سويًّا مظهراً من مظاهر عظمة الإسلام؛ لِمَا لهما من أثرٍ عظيم في نشر هذا الدِّين وتأليف قلوب مُعتنِقيه، إذْ إنَّ الحوادث تدل بوضوح على عمق أثرهما وعظمة تأثيرهما. كما أنَّ هذا الخلق الرفيع والسلوك الراقي قد مارسه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بعدما دعا إليه وحثَّ عليه؛ ليكون نموذجاً وقدوةً لمن يراه ويُعايشه، ولمَنْ يأتي بعده فيعرف سيرته، ولم يقتصر الأمر على كون السماحة خُلُقاً وسلوكاً في الدِّين الإسلامي، وإنما جعله النبيُّ صلى الله عليه وسلم أصلاً من أصول الدِّين، ووصفاً ملازماً له، ومَعْلَماً رئيساً من معالمه، فمتى ذُكِرَ الإسلامُ، ذُكِرَ وصْفُه بالسماحة، وجاءت السنة القولية والعملية لِتؤكِّد على هذا الخُلُق وتلك الفضيلة، والتي تتَّضح عظمتُها في كونها من الأخلاق العامة التي يندرج تحتها عدَّة أخلاق، منها: العدل والرأفة والرحمة والإحسان والجود والكرم والسخاء وضبطُ النفسِ والتحكُّمُ فيها، إذْ لا يستطيع أحدٌ أنْ يُمارس السماحة والتسامح إلاَّ إذا امتلك هذه الأخلاقَ مجتمعة، ومن هنا تظهر عظمة هذا الخُلُق.والسماحة لا تعني الخور والضعف، ولا المهانة والاستكانة كما يظن بعض الناس، كلا، بل هي خلق عال ينبئ عن صفاء في القلوب، ووثوق بالنفس، وصدق في التعامل، ولقد خلط الناس في مفهوم السماحة وظن بعضهم أن هناك أموراً تنافيها وهي من لبابها، بل هي مفاتحُ بابها ومن ذلك :الغضب عندما تنتهك حرمات الله . فعن عائشة رضي الله عنها قالت : ما خُير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس عنه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه من شيء قط، إلا أن تنتهك حرمةُ الله فينتقمُ لله) رواه البخاري. والسماحة لا تتعارض مع طلب الحق فطالب الحق له أن يطلب حقه حتى يحصل عليه وهذا ليس مضاداً للسماحة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي أغلظ له في طلب حقه : ( دعوه فإن لصاحب الحق مقالاً) رواه البخاري.