يحتفل المسلمون كل سنة بذكرى ميلاد سيد الأنام وإمام المرسلين سيدنا وحبيبنا محمد بن عبد الله عليه الصلاة وأزكى تسليم. بعث عليه السلام بدين الهدى والحق تخيره الله من صفوة آدم وفضّله على سائر خلقه ليعيد بناء التاريخ ويصحح أوضاع البشرية ويحررهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد الواحد الأحد {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيرا وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً}.
وإن كان النبي غائبا عنّا بجسده وفارقت روحه الدنيا وما كان لبشر أن يخلد فإنّ رسول الله باق فينا ما بقيت سنّته وما دامت شريعته يتناقلها الأخلاف عن الاسلاف عملا بقوله تعالى :{ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر}.
فهذه شهادة ربّ العالمين في النبي صلى الله عليه وسلم وفي علو همّته وزكاء نفسه وسمو أخلاقه النابعة من القرآن العظيم حيث أخبرت السيدة عائشة رضي الله عنها حين سئلت عن خلقه فقالت : كان خلقه القرآن لأنّ الأخلاق الفاضلة من الدين وإلى الدين ولأنها أساس المجتمعات ولأنّ أمّة بلا أخلاق كشجرة بلا أوراق وقد قال صلى الله عليه وسلم:(إنّما بعثت لأتمّم مكارم الاخلاق ) .
إنّ الإحاطة في الحقيقة بكل جوانب أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم أمر عسير ويتطلّب كتبا ومجلدات ولكن سنتناول صفتين عظيمتين من صفاته صلى الله عليه وسلم: 1) خلق المحافظة على الأمانة والوفاء بالعهد فلقد كان مثالا في الوفاء بالعهد وأداء الأمانات إلى أصحابها فقد لقبه الأعداء قبل الأصدقاء بمحمد الأمين نظرا إلى ما لمسوه فيه عند تعاملهم معه من وفاء وصرامة في المحافظة على ما كانوا يأتمنونه من أموال وأعيان, وهذا السلوك قد حثّ عليه الناس بالقول : (أدّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك )رواه الترمذي مثلما حثّ على قضاء الديْن باعتباره من أعظم الأمانات ( إنّ أعظم الذنوب عند الله يلقاه بها عبد بعد الكبائر التي نهى الله عنها أن يموت رجل وعليه دَيْن لا يدع له قضاء) رواه أبو داوود. وقد رفض الرسول أن يصلي على رجل مات كان عليه دين لأنه لا خير فيمن لا أمانة له وإن أقام الصلاة وآتى الزكاة وصام وحجّ , فالخائن والمخلّ بالعهد والناكث للأمانة مبغوض عند الله وملائكته والناس أجمعين. وهذا السلوك المشين أصبح اليوم مع الأسف من صفات كثير من الناس فنكث العهد وخيانة الأمانة صار أمرا عاديا عندهم فلا يتورّعون في إنكار ما عليهم من ديون ولا يخافون من إدخال الحرام إلى بطونهم ولا يقرؤون لخاتمتهم السوداء أيّ حساب ونسوا قول الله تعالى: {وأوفوا بالعهد إنّ العهد كان مسؤولا } .
2) التسامح والعفو فقد كان صلى الله عليه وسلّم حليما مسامحا كريما في غير خوف وضعف شعاره في ذلك قول الحق تعالى : {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن} ومن ذلك ما يروى أنّ رسول (ص) الله قام فقسم بين أصحابه قلائد من ذهب وفضة ممّا غنموه في إحدى غزواتهم فقام رجل من أهل البادية فقال يا محمد والله لئن أمرك الله أن تعدل فما أراك تعدل فقال النبي ويحك فمن يعدل إذا لم أعدل؟! فقد خبت إذن وخسرت إن كنت لا أعدل فقال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه ألا اضرب عنقه فإنه منافق فقال عليه الصلاة والسلام : ( معاذ الله أن يتحدّث الناس أنّي أقتل أصحابي ).
فما أحوجنا اليوم وفي هذا الظرف الدقيق الذي تمرّ به بلادنا أن نكون متسامحين متحابين متراصين متحدين وما أحوجنا إلى شيء من العفو الصادق تجاه بعضنا البعض وإلى تطهير القلوب من الأحقاد والضغائن حتى تكون صافية. فحذار من أن تعمي الخلافات الحزبية والمذهبية بصائرنا وتزرع فينا الكراهية والبغضاء وبذلك يكون لهذه المناسبة العظيمة البعد الأخلاقي العظيم في نفوسنا فلا يجب أن تكون ذكرى المولد النبوي الشريف مجرد شعائر وطقوس ومآكل متنوعة محدودة في الزمان وإنما الذكرى فكر متصل بصاحب الرسالة وإيمان صادق بالله تعالى وسلوك يجسّد هذا الفكر الواعي وهذا الإيمان العميق وعمل متواصل وجاد على طريق نبينا في كل ساعات العمر.