من «الرجل القوي» إلى الرئيس المغلوب على أمره إلى السياسي المنتفض... قوة الباجي قايد السبسي في نجاح مبادراته، وضعفه في فشله وهو اليوم يعاني تبعات فشل «وثيقة قرطاج 2» فهل يقدر على إصلاح ما أفسدته في ما تبقى له من وقت؟. تونس الشروق: كملاكم يستند إلى حبال الحلبة، لا هو ملقى أرضا ولا هو في حالة هجوم قوي ومدروس، هكذا يبدو رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي حاليا بعد أن مر خلال سنواته الأربع على رأس الجمهورية من القوة القصوى إلى الضعف الحاد ومنه إلى نوع من استرداد الأنفاس. قوته القصوى ظهرت عندما قدم مبادرته حول حكومة الوحدة الوطنية وفيها احتكر التحكم في الأحداث السياسية وتوجيهها كما يشتهي فعاقب رئيس الحكومة السابق الحبيب الصيد على تقربه من حركة النهضة، وجر المؤثرين السياسيين وخاصة منهم اتحاد الشغل العنيد إلى المفاوضات حول وثيقة قرطاج 1، وأخرج من تحت معطفه رئيس حكومة جديد قبل أن يدفع جميع أطراف الوثيقة إلى القبول به... خلال سنواته الثلاث الأولى بدا السبسي أقرب إلى رئيس جمهورية في نظام رئاسي، وبدا الصيد ومن بعد الشاهد أقرب إلى رئيس وزراء منه إلى رئيس حكومة لكن هذه القوة تلاشت: خسر «قرطاج 2» ظهر ضعف الباجي عندما استعصى عليه الشاهد وتجاسرت عليه حركة النهضة، فالأول مر من جس النبض (عبر التمرد على حزبه الأم نداء تونس وإرضاء النهضة بطريقة مبالغ فيها في التعيينات) إلى التهجم علنا على حافظ قايد السبسي ابن الرئيس البيولوجي والزعيم الفعلي في الحزب الذي أسسه والده، وبلغ به الحد إلى رفض دعوة الباجي الصريحة في تقديم الاستقالة أو التوجه إلى البرلمان. في الآن ذاته مرت حركة النهضة من شريك توافقي يؤيد قايد السبسي الأب في كل مبادراته (مثل المصالحة وحكومة الوحدة الوطنية...) إلى خصم يتجند ضد ما يريده الباجي (حماية الشاهد ثم الاعتراض على مبادرته حول المساواة). بلغة السياسة، انتهى أمر الباجي منذ أن تم تعليق العمل بوثيقة قرطاج 2 لأن هدفه السياسي منها كان الإطاحة بالشاهد تماما كما فعلت وثيقة قرطاج 1 بالصيد. لا مجال للموت السياسي رئيس محدود الصلاحيات يفقد قوته السياسية والاعتبارية هكذا كان حال رئيس الجمهورية منذ تعليق العمل بوثيقة قرطاج 2 لهذا خير الاختفاء حتى لا يلمس التونسيون كلهم وهنه وضعفه الشديدين. حتى المحاولة اليتيمة التي سيق إليها قبل أسابيع وهي إطلالته عبر قناة نسمة الفضائية يوم 15 جويلية الماضي أظهرته رئيسا مسلوب القوة والإرادة لكن السياسيين المحنكين والدهاة لا يستسلمون بسهولة للموت السياسي والدليل أن الباجي استغل حقه الدستوري في محاولة احراج حركة النهضة التي تجاسرت عليه واستغل مكانته الاعتبارية في محاولة تقوية حزبه نداء تونس. أما على المستوى الحزبي فتظهر بصمات الباجي في دفع محسن مرزوق إلى التحالف مع حافظ على المستوى البرلماني ومحاولة استقطاب بعض الوجوه التجمعية المؤثرة فضلا عن التصدي إلى محاولات اسناد الشاهد برلمانيا عكس ما يخطط له النداء، وأما الحق الدستوري فيحتاج إلى بعض التدقيق: معارك في الطريق نقصد بالحق الدستوري تقديم المبادرات ويبدو أن المبادرة الأخيرة حول المساواة بين الجنسين في الميراث قد دبرت على عجل بهدف إحراج حركة النهضة ردا على نجاحها الانتخابي على المستوى البلدي وتعنتها في التمسك بالشاهد. لو فكر الباجي وتدبر وتمهل وتعقل لطعّم لجنة الحقوق الفردية والحريات برجال دين محافظين ومفكرين مختصين في الدين الإسلامي وفقهاء وفلاسفة في القانون... ولعهد برئاسة اللجنة إلى شخصية مقبولة لدى خصومه بدل بشرى بالحاج حميدة التي يرفضونها سلفا بسبب انحيازها إلى المدنية والحداثة. منفعة الباجي الوحيدة من هذه المبادرة أنها حولته من وضعية الملاكم الملقى أرضا إلى الملاكم الواقف على قدميه والقادر على امتصاص قوة خصومه قبل الشروع في استعراض قوته تجاههم. هي مبادرة أولى ستشهد معارك سياسية قوية داخل مجلس النواب وستكون نتائجها مؤثرة على نتائج الانتخابات التشريعية والرئاسية القادمة.. لكن الباجي الذي نعرف لن يكتفي بمجرد مبادرة في المساواة بل سيكون في حرب سياسية غير مباشرة ومتنوعة المعارك مع رئيس النهضة راشد الغنوشي طيلة سنة ونيف... أما ابنه الروحي يوسف الذي قال له أف فسيهتم به في الوقت المناسب إلا إذا عجز عن تقوية حزبه «نداء تونس». السبسي وإعادة النداء يستمد الباجي قوته من تجربته السياسية الطويلة (ما يقارب 7 عقود من العمل الإداري والنشاط السياسي) ومن قوة شخصيته وقوة حجته ودهائه السياسي وفضله على العديد من الناشطين السياسيين بما أنه فتح لهم المجال للنشاط الحزبي... لكن مصدر القوة الأهم يتمثل في الحزب بغض النظر عن القيود الدستورية، فلو كان نداء تونس قويا لفرض الباجي مبادراته وقوانينه وأفكاره على حركة النهضة... ولو حافظت كتلة النداء على تماسكها ووحدتها وتحالفاتها لما ترجى الشاهد وهو يدعوه إلى الاستقالة أو التوجه إلى البرلمان لهذا لن يستعيد قايد السبسي قوته وتأثيره ما لم ينجح في إعادة الحزب الذي أسس إلى سالف قوته. أهم مبادرات الباجي المصالحة الوطنية الشاملة: تطرق إليها للمرة الأولى يوم 20 مارس 2015 على هامش الاحتفال بذكرى الاستقلال، ثم تم التركيز على جانبها الإداري دون المالي وقد أنهى النزاع من حولها بمصادقته على قانونها خلال أكتوبر من السنة الماضية. حكومة الوحدة الوطنية: أعلن عن مبادرته حول هذا الموضوع أوائل جوان 2016 وقد انتهت بإقالة حكومة الصيد برلمانيا قبل تكليف الشاهد بتشكيل حكومة جديدة. قرطاج 2: اقترحها بديلا لوثيقة قرطاج الأولى لكنه اضطر إلى تعليق العمل بها أواخر ماي الماضي بعد اختلاف أعضائها حول فصلها 64 المتعلق بهوية الحكومة المطالبة بتنفيذ بقية البنود. المساواة: تطرق إليها خلال الخطاب الذي ألقاه على هامش الاحتفال بعيد المرأة يوم 13 أوت 2017 ولم يلق ردود فعل متشنجة لاسيما من حركة النهضة لكنها تصدت له مؤخرا عبر مجلس شوراها بعد أن عاد إلى الحديث حول مبادرته يوم 13 أوت الجاري.