إن الأمية ظاهرة اجتماعية مركبة ومعقدة تتعدد أسبابها التاريخية والثقافية والاجتماعية ويختلف توزعها حسب الشرائح والفئات العمرية ومجال التوزيع الجغرافي. وقد كشفت النتائج الرسمية التونسية ارتفاعا مخيفا خلال السنوات الأخيرة للنسبة العامة للأمية تقدر بقرابة ال 20 بالمائة. وهذا يعني أن خمس التونسيين أميون. ويعني كذلك أن جهدا تشاركيا بين أجهزة الدولة والمنظمات والمجتمع المدني ووسائل الاعلام يفرض نفسه للتصدي لهذه الآفة. وأمام المؤشرات التالية يتأكد هذا الجهد فقطاع العاملين بالفلاحة والصيد البحري مثلا يعاني من الأمية بنسبة 53 بالمائة. كذلك فان قطاع الخدمات يعاني هو الآخر من هذه الآفة بنسبة 22.5 في المائة. وقد بلغ عدد المنقطعين مبكرا عن التعليم النظامي قرابة 120 الفا سنويا يرتد منهم الى الأمية قرابة 20 بالمائة. في حين ان مجمل جهود الدولة التي تقودها وزارة الشؤون الاجتماعية لا تحرر سنويا غير 21 ألف أمي. تلك هي مؤشرات المشهد بعد زهاء 60 عاما من الاستقلال. واليوم وبعد مرور ثماني سنوات على الثورة في بلادنا، هذه الثورة التي غيّرت العديد من المعطيات أهمّها إقامة الدليل على أنّ الديمقراطية ليست حكرا على الغرب بل هي قيمة كونيّة تشمل الجميع، كما بيّنت الثّورة والتحولات الجديدة التي أفرزتها بأن فكرة الديمقراطية لا يمكنها أن تنمو وأن تصبح واقعا إلا إذا تبنّتها الفئات الشعبيّة لا أن تكون مسقطة ومفروضة بالقوّة ذلك أنّ فكرة الديمقراطيّة لا تتلخص في نظام سياسي معيّن بقدر ما ترمز إلى طريقة عيش المجتمع الراغب في الحياة الكريمة والعدالة والمساواة والماقت للكراهية والعنف . إنّ هذه الفئات الشعبيّة أصبح لها اليوم الحق في التعلّم والمساواة في الفرص والإنصاف بين الجنسين والاندماج في المجتمع والإسهام فيه في إطار منظومة الحقوق التي كفلها دستور الجمهوريّة الثانية تناغما مع خصوصيّة المجتمع التونسي ومع المواثيق الدوليّة التي انخرطت فيها تونس . في ظل هذه المكتسبات الجديدة التي تحقّقت هل من المعقول أن تظل هذه الآفة منسية وهي التي لا تقل خطورة عن آفة الإرهاب، بل تساهم في صنعها. وتبعا للمعطيات الدقيقة الواردة في استراتيّجيّة محو الأمّية وتعليم الكبار والتعليم غير النظامي التي أنجزتها وزارة الشّؤون الاجتماعيّة بالتّعاون مع منظمة اليونسكو (المكتب الإقليمي بالرّباط). فإن مواطنا تقريبا من بين كل خمسة مواطنين تونسيين سواء بالنسبة للرّجال أو النساء ممن يوجدون في وضعية حرمان أمام متطلبات الحياة الديمقراطيّة. ففي الوقت الذي تسعى فيه تونس إلى إحداث نقلة من إقتصاد قليل الكلفة في المردود الإقتصادي إلى إقتصاد آخر أكثر تطورا وجلبا للإستثمارات، نجد شريحة تشكّل حاليا %24.4 من الأميين ضمن 3،8 مليون مواطن نشط (التعداد العام للسكان والسكنى، 2014). هذا يعني أن هنالك حوالي 1،7 مليون من التونسيات والتونسيين ممن يعانون من الأمّية ويواجهون صعوبات جمّة قصد الإندماج الإجتماعي والإقتصادي والإسهام في المواطنة وممارسة واجباتهم والإستفادة من حقوقهم. إن هؤلاء المواطنين يمثّلون مشكلا حقيقيا في المجتمع التونسي لأنهم وبسبب أميتهم مرتبطون ارتباطا ملموسا مع الفقر والإقصاء والتهميش فهم لا يتمكّنون من المساهمة الفعليّة في حياة مجتمعهم لأنهم غير قادرين على ولوج الخدمات العموميّة من قبيل الخدمات الإداريّة والصحّية والتربوية. وزارة الشؤون الاجتماعية وبدعم من اليونسكو والألكسو ولمحاربة هذه الآفة وضعت استراتيجيّة للتقليص من نسبة الأمّية ولكن هذه الإستراتيجيّة تواجه اليوم جملة من التحديات تعطل تنفيذها وقد يبقى الوضع كما هو عليه إذا لم نأخذ في الاعتبار المبادئ التالية : إن محو الأمية مسؤولية الجميع، وإن إزالتها ليست من مسؤولية الدولة وحدها، ومن ثم، فإنه لا يمكن أن تناط هذه المسؤولية بقطاع واحد، مما يتطلب انخراط جميع القوى الحية في البلاد. إن هذا المبدأ هو الخيط الرابط لهذه الإستراتيجية، وذلك لأن البرامج التي أطلقت تتجاوز مجال تدخل وزارة الشؤون الإجتماعية، وتتطلب بالضرورة مساهمة كافة القطاعات الحكومية والمتدخلين غير الحكوميين من مجتمع مدني وغيره، دون إغفال الفاعلين على مستوى التعاون والتنمية الدوليّة. من الضروري دعم التقاطع ما بين وزارة الشؤون الإجتماعية ووزارة التربية بكيفية تسمح بتجفيف منابع الأميين الجدد، والتي يكون منشؤها أطفالا وشبابا تمّ إقصاؤهم من منظومة التربية النظاميّة سواء أكانوا غير متمدرسين، أو انقطعوا عن الدّراسة، أو غادروا المدرسة من دون اكتساب الكفايات الأساسيّة . لكي تغدو برامج محو الأمّية ذات فعالية حقيقية، فإنه من اللازم أن نأخذ بعين الاعتبار أن محو الأمّية يندرج في مسار يفضي إلى ممرات أخرى للتعلم، ويحظى بمصادقة واعتراف مؤسسات التعليم النظامي والتدريب المهني، وكذا الفاعلين الإقتصاديين ومن هذا المنظور، فقد بات ضروريا انخراط هؤلاء في تحديد توجهات ومحددات هذه البرامج. خلاصة القول، فإن تغيير منظور محو الأمّية ، كما هو متوقع في إطار هذه الإستراتيجية، يستدعي أساسا مقاربة تشاركية مبنية على التكامل والبحث عن تفاعلات دينامية ، وترسيخ التجارب على مستوى محلي لأنها جميعا عوامل للنجاح وشروط للتفوق... وبدون ذلك سيبقى ربع التونسيين أميين. وفي هذا السياق تتنزل الاتفاقيات التشاركية التي توقعها اليوم (الأربعاء) 3 وزارات هي الوزارة الأم المعنية سياسيا بمحو الأمية وتعليم الكبار (وزارة الشؤون الاجتماعية) ووزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري ووزارة التكوين المهني والتشغيل، في جهد مشترك نرجو أن يأخذ طريقه للتنفيذ وأن يجد من المال والرجال ما يجعله نقلة نوعية في مقاومة هذه الآفة على أمل أن تلتحق به بقية الوزارات والمنظمات، علما وأن أولى هذه الجهود هو الارتقاء بهيكلة الإدارة الحالية لمحو الأمية وتعليم الكبار الى مركز وطني، في إطار مشروع أمر حكومي سيلقى قريبا طريقه للنشر.