مازالت ازمة ندرة الحليب في تونس تراوح مكانها رغم انها انطلقت منذ اشهر وهي آخذة في الاستفحال يوما بعد يوم دون ان تكلف الحكومة نفسها عناء البحث عن حلول صرخ اهل القطاع اكثر من مرة لتفعيلها لانها موجودة وهم اهل الاختصاص والادرى ب»شعاب» مهنتهم لكن الحكومة اغلقت اذانها عن مقترحات الفلاحين والمصنعين وقررت توريد الحليب في خطوة لم تفد احدا لا المستهلك ولا الدولة التي بلغ حجم رصيدها من العملة الصعبة حجما لا يتعدى 80 يوما توريدا وكان الاجدر ان يتوجه رصيد البنك المركزي من العملة الصعبة الى توريد منتجات لا يمكن تصنيعها في تونس ونحتاجها حاجتنا للهواء والماء. هذا التعنت من الحكومة قابله اهل المهنة باعلانهم قبل اقل من شهرين العزم عن ايقاف انتاج الحليب في هذا الشهر وها ان الاجل حان والحوار متعطل لتصيب عدوى الندرة منتجات حيوية اخرى مثل البيض وغيرها ليترسخ اليقين بان مشاكل الحليب ما هي الا جزء صغير من مشكل اهم واعمق واخطر هو مشكل الفلاحة برمتها التي ضاعت وسط اكوام من المشاكل والعراقيل يجعل البحث عن حل لها اشبه بالبحث عن ابرة وسط كومة قش. الحكومة تمارس سياسة «الضغط العالي» تنادي اهل المهنة سواء منهم المنتمون الى اتحاد الفلاحين او الى منظمات الاعراف الى الاجتماع اكثر عارضين مشاكلهم على الحكومة ومقدمين مقترحات لحلها وفي الوقت الذي كانت فيه الحكومة مدعوة الى اتخاذ اجراءات عاجلة لتنشيط القطاع لتلافي توقفه على جميع المراحل من تجميع الحليب الى التسويق مرورا بالانتاج فانها تعاملت بلامبالاة مع قطاع منتجاته تهم الكبير والصغير اذ لا احد تقريبا من التونسيين بامكانه الاستغناء عن الحليب او عن احد مشتقاته لا صباحا ولا مساء واذا ما توقف الانتاج فإنه يعني الكارثة باتم معانيها على المستهلكين وعلى الدورة الاقتصادية ككل للبلاد لان الحكومة ستلتجئ اكثر الى التوريد وقد تنفق كل مدخراتها من العملة الصعبة في توريد الحليب الكافي فقط لتغطية استهلاك شهر رمضان الذي لا تفصلنا عنه الا خمسة اشهر فحسب فالحكومة لم تستشر اهل المهنة عند اقرارها توريد كميات من الحليب لتغطية النقص الحاصل في السوق متناسية ان ازمة القطاع هي ضعف الإنتاج وليس مسألة الإحتكار مثل ما أعلنت عنه فالمربي لا يمكنه ان يخفي الحليب على المصنع وعن مراكز التجميع لان اجال حفظه محدودة والمصنع ايضا لا يمكنه ان يغلق مخازنه امام ما صنعه خاصة ان التصدير الى ليبيا ليس في عنفوانه وهو ايضا مرتبط باجال صلاحية الاستهلاك فهل يعقل ان يخفي ما انتجه ويعرضه للتلف لمجرد الضغط على الحكومة للترفيع في اسعار الحليب. الضرر .. شامل اذا كان بامكان الصناعي تغطية خسائره او على الاقل جزء منها بترويج مشتقات الحليب الى حين من خلال ترشيد التصرف في ما يتوفر لديه من مخزون من الحليب وتوجيهه لصنع الياغورت وباقي المشتقات فان مصيبة الفلاح اعظم وأعم اذ في ظل الإرتفاع المتتالي لكلفة العلف الذي وصل إلى 950 مليما للكلغ الواحد مقابل ذلك يبلغ ثمن تجميع الحليب 890 مليما لا خيار امامه الا ان يبيع منتجاته بالخسارة وان يفرط في قطيعه الى الجزارين او الى المهربين الجدد. منتجو الحليب تهديدهم بإيقاف الإنتاج مع بداية العام المقبل، إذا لم يتم الاتفاق على تخفيض أسعار العلف، أو الترفيع في سعر الشراء عند الانتاج وإيجاد حلّ نهائي لأزمة المنتجين. وهو ما قد يدفع الحكومة إلى اللجوء مرة أخرى إلى توريد كميات كبيرة من الحليب لسد النقص في الأسواق. قد يتبادر الى الاذهان ان مطالب الفلاح بالزيادة في سعر الحليب كبيرة في حين انها يسيرة بل ان كلفة التوريد اكبر من كلفة الزيادة بكثير فاهل المهنة لا يطالبون الا بزيادة لا تقل عن 200 مليم في سعر الحليب والأمر يشمل كل المهنيين الذين لهم علاقة بالقطاع سواء ب 110 مليمات للفلاح،أو ب 20 أو 30 مليما لمجمع الحليب و40 أو 50 مليما للمصنع فالدولة عليها اتخاذ اجراءات تحفيزية لاهل المهنة في كل حلقاتهم من المربي مرورا بمركز التجميع انتهاء بالمصنع لان في ذلك محافظة على امننا القومي الذي يدخل ضمن اهم مكوناته امننا الغذائي اضافة الى المحافظة على نسيج اقتصادي مثل الدرع الحامي لتونس لان الاستمرار في سياسة التوريد سيجبر الفلاح على التخلص من قطيعه ثم التخلص من اراضيه ولن يكون امامه من حل الا الانتقال بالسكن الى المدن مع ما يخلقه ذلك من مشاكل اجتماعية كبيرة اولها البطالة ثم الاجرام بعد المرور بمرحلة التهميش والاحساس بالضيم او ما يعرف ب»الحقرة» وهو نفس مصير المصنع الذي سيلتجئ الى غلق مؤسساته واحالة عائلات باكملها الى الفقر المدقع نتيجة عطالة عائليها. اذا كانت تلبية المطالب من الصعوبة بمكان في ظرفية اقتصادية صعبة تمر بها الدولة ساعتها قد نجد عذرا للحكومة حين تلتجئ الى التوريد لكن ان تكون المطالب بمثل ذلك اليسر وهي حق مشروع لاستدامة القطاع فان عدم تلبيتها من الحكومة قد يدفعنا الى التفكير بمنطق «المؤامرة» وما تمثله اتفاقية ال»آليكا» من مخاطر يجب التمهيد لها بصورة مبكرة وبتدرج حتى يخف وقع الصدمة الى اقتصادنا فلا تخلف توترات اجتماعية وساعتها سيكون من اليسير رؤية كتابات مفادها «هنا يباع الحليب خلسة» !!