وجدتني اعود الى ذكريات الأيام التي واكبت مولد الثورة ونموها الباهر، أيام تحفل بساعات من العمر لم اشهد لها مثيلا في حلاوتها وبهجتها وافراحها وثرائها العجيب بأجمل الآمال وأعذب الأماني. تونس(الشروق) فالثورة هي أعظم تجربة إنسانية يُمتحن بها شعب يريد الحياة. إنّها امتحان لروحه وعقله وإرادته وقدراته على الخلق والإبداع وتحدي الصعاب والتعامل الحكيم مع النصر والهزيمة والامل والياس...وعلى الشعب الذي يريد الحياة ألاّ يهدر تجربة ضخمة لا يستهان بها في مجرى الزمن أو يتركها تتلاشى في غماء الأخطاء والعقبات». هكذا تحدث إلينا الكاتب المصري نجيب محفوظ في كتابه «حول التحرر والتقدم» منذ سنوات وكانه كان يستشعر حالة الياس والإحباط التي سيكون عليها الكثير من التونسيين في الذكرى التاسعة للثورة التي هزّت شعوب العالم واطاحت بعروش دكتاتوريات. في هذه الذكرى شاع الحنين للدكتاتورية في احاديث الناس رغم قناعاتهم بان زمن الخوف ولّى ولان «الجوع كافر» يلمّع البعض صورة الدكتاتورية في ذهنه ويسوّق لها بانها الضامن الوحيد للخبز وللأمان. ما كان لهذا اليأس السهل ان يتسرّب للنفوس لولا تازم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وتدهور المقدرة الشرائية بشكل كبير الى جانب بروز ظواهر اجتماعية هدّدت امن وسلامة الافراد. تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي شهدت سنوات ما بعد الثورة حصادا سلبيا في مجمل المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية فتوقّف نسب النمو وارتفاع نسب التضخم انعكس سلبا على الوضع الاجتماعي ليصل عدد الفقراء في البلاد مع نهاية العام الثامن مليون و700 الف تونسي حوالي 321 الفا من بينهم يعيشون حالة الفقر المدقع أي انهم عاجزون عن توفير الغذاء واللباس وهي الحاجيات الأساسية. كما تراجعت بالتوازي مجمل الخدمات الأساسية مثل النقل والصحة والتعليم وشهدت البنية الأساسية مزيدا من التدهور مع تنامي احتجاجات الناس والقطاعات لاصلاح الوضع المهترئ للطرقات ولفك العزلة عن القرى والارياف وتسهيل تنقل التلاميذ نحو المدارس. وبلغ الامر حد فقدان الادوية في صائفة العام الثامن حيث شهدت الصيدلية المركزية عجزا في سداد ديونها بلغ حد فقدان حوالي 30 صنفا من الادوية الحياتيّة. وتسبب توقف النمو الاقتصادي لسنوات في انسداد افاق التشغيل في القطاع الخاص. تماما كما انسدت افاق التشغيل في الوظيفة العمومية بعد انفجار كبير وعشوائي في الانتدابات في السنوات الأولى للثورة وخاصة تحت حكم الإسلاميين خلال العامين 2012 و2013 حيث اغرقت النهضة الإدارات العمومية بانصارها ليقفز عدد الموظفين في القطاع العمومي من حوالي 317 الف موظف الى 620 الف موظف وبتضخم هذا العدد تضخمت كتلة الأجور وتسببت في تفاقم ميزانية الصرف على حسب ميزانية التنمية وعجز الميزانية العمومية الامر الذي جعل تونس تلجأ للتداين الخارجي والذي بلغت نسبته حوالي 70 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي ممّا سهّل على المانحين الدوليين فرض شروطهم على تونس لخوصصة مؤسسات عمومية وتقليص عدد الاجراء وتحرير سعر صرف الدينار وغيرها من الإجراءات التي زادت من تعقيد الوضع الاقتصادي والاجتماعي. فقدان القرار السيادي تشير تقارير إعلامية الى ان ديون تونس الخارجية تضاعفت 246 بالمئة خلال ثماني سنوات إذ كان اجمالي الدين العام قبل الثورة في حدود 25.639 مليار دينار أي ما يناهز 40.7 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي حوالي 10 مليار دينار منها ديون داخلية وحوالي 15.5 مليار دينار ديون خارجية الا ان هذه الأرقام قفزت خلال 2018 الى 76.165 مليار دينار كاجمالي دين عام أي حوالي 71.45 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي حوالي 22.5 مليار دينار منها ديون محلية و53.8 مليار دينار ديون خارجية ما يعني حوالي 70.7 بالمئة من اجمالي الديون. هذا التطور سهّل تدخّل المانحين الدوليين في القرار السيادي التونسي وذلك تنفيذا لتعليمات المانحين الدوليين كما تزايد الضغط على تونس بتصنيفها ضمن قوائم سوداء الامر الذي جعل تونس تفقد صورتها دوليا بالإضافة الى عجز حكّامها ما بعد الثورة على وضع برامج انقاذ وطنية للحد من مزيد تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي للافراد. يقول عبد الرحمان الهذيلي الرئيس السابق للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية وابرز النشطاء في مجال الدفاع عن الحراك الاجتماعي إنّ ما وصلنا إليه اليوم بعد تسع سنوات من الثورة هو وضع كارثي باتم معنى الكلمة «وهو نتيجة اختيارات حكّام ما بعد الثورة وارتباطاتهم بالمؤسسات المالية الدولية وعدم التزامهم باستحقاقات الثورة ومطالب الناس» معتبرا ان المطلوب عاجلا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في المجالات الاقتصادية والاجتماعية هو مراجعة كل الخيارات الاقتصادية والاجتماعية. واعتبر الهذيلي ان عدم الاقبال على التصويت هو خسارة كبرى وهو تداعيات مباشرة لهذا الوضع ولكن كل الخوف من التداعيات غير المباشرة الا وهي رد الفعل الاجتماعي من قبل الناس حول تدهور المعيشة ففي الجهات حين تتحدث للناس يرفضون حتى التعليق حول الازمة في البلاد. فعدم الاقبال على الانتخابات هو «من تحصيل الحاصل وهي نتيجة حتمية لسياسات وتوجهات حكّام ما بعد الثورة لكن الأخطر هو رد الفعل الاجتماعي العنيف حول تدهور الأوضاع ولا احد حقيقة يمكنه تهدئة الأمور لانه من الصعب التخاطب مع الناس امام وضع اقتصادي واجتماعي صعب هذه مسالة صعبة جدا». في المحصلة كانت سنوات صعبة يمثّل فيها فقدان الثقة في الانتخابات وفي الأحزاب السياسية اكبر الخسارات الممكن حصرها وهو ما سيكون له تداعيات لاحقا ومنها مقاطعة الانتخابات وبالتالي الارتداد على كل أحلام الثورة.